2003-04-23
بتفاوت راوح بين الترحيب والتحفظ، استقبلت الأوساط السياسية والإعلامية الأردنية الإعلان عن تشكيل "المجلس الأعلى للإعلام" أواخر العام 2001… فمن مؤيد للفكرة والتشكيل والقانون الذي بموجبه رأى المجلس النور، إلى متحفظ ومتشكك، بل ورافض لها من حيث المبدأ، مرورا بأوساط عديدة رأت أن الفكرة سابقة لأوانها، وأن وزارة الإعلام باقية طالما ظل الأردن يدور في فلك الدول النامية ومحتسب عليها، وفقا للتصنفيات الدولية المتعارف عليها.وبشكل أو بآخر، فقد عبر الموقف من المجلس الأعلى للإعلام، عن التعددية الأردنية في أبعادها السياسة والثقافية والاجتماعية المختلفة، وجاء الجدل بشأنه وحوله، امتدادا لجدل وطني رافق استئناف المسار الديمقراطي الأردني في العام 1989، وتوزعت عناوينه وموضعاته حول مختلف أوجه الحياة السياسة والديمقراطية في البلاد، وكيفية النهوض بها ودفعها للإمام.
ففي الوقت الذي رحبت فيه أوساط عديدة بفكرة "التخفف" من الرقابة والوصاية الحكوميتين على الصحافة ووسائل الإعلام ، داعية إلى الارتقاء بالإعلام الوطني من وضعية "الإعلام الرسمي الحكومي" إلى ضفاف إعلام الدولة والوطن المجسد للتعددية الأردنية، المعبر عن الشراكة الحقيقية بين الحكومة والمجتمع الأهلي، بين القطاعين العام والخاص ... رأت أوساط أخرى أن قانون المجلس وتشكيلته، إنما يعبران عن استمساك الحكومة بسيطرتها على وسائل الإعلام، فالقانون المؤقت رقم 74 لعام 2001، بما تضمنه من مواد وبنود فضفاضة وملتبسة أبقى الباب مفتوحا أمام أوسع أشكال التدخل الحكومي وترك للحكومة الكلمة الفصل في المجال الإعلامي، وأسس لمرحلة من تنازع السلطات والصلاحيات بين المجلس ووزارة الإعلام...فيما تشكيلة المجلس - وفقا لهؤلاء - جاءت متناغمة مع التوجهات الحكومية حيث تميزت بغلبة المسؤولين الحكوميين السابقين وكتاب وصحفيين مقربين من الحكومة ، الأمر الذي عارضه كتاب وإعلاميون ومثقفون آخرون رأوا أن تركيبة المجلس متوزانة وتضم نخبا قادرة على القيام بالمهام المنوطة بها بحدها الأدنى على أقل تقدير.
ويلحظ المتتبع لفصول الجدل الوطني حول تجربة المجلس الأعلى للإعلام أن التوجيه الملكي للحكومة بما تضمنه من رؤى حداثية عصرية قد رفع سقف التوقعات كثيرا...فجلالته قال في رسالته لرئيس الوزراء بتاريخ الخامس والعشرين من تشرين الثاني نوفمبر 2001 " أن الإعلام يشكل ركيزة أساسية لتحقيق البيئة المناسبة التي نريد والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب هو واسطة ليس لأحد الحق في احتكارها وهو ليس إعلام حكومة بل إعلام دولة يعبر عن ضمير الوطن وهويته، وفي هذا السياق يجب العمل على استقلال مؤسسات الإعلام وإدارتها بشكل يحقق الجدوى من إنشائها وعلى هذه المؤسسات العمل بسوية عالية لتضمن المنافسة في سوق الإعلام ويتطلب ذلك رؤية فلسفية جديدة تتماشى مع روح العصر، ونرى أن يتم اتخاذ الإجراءات لإنشاء مجلس أعلى للإعلام تمثل فيه فعاليات المجتمع المدني وذوو الخبرة والاختصاص ليكون بديلا عن وزارة الإعلام".
وبوحي من هذه الرؤية الثاقبة، عمل المجلس بتشكيلته الأولى، وبالتعاون مع الحكومة في المراحل الأولى، على صياغة القوانين البديلة الكفيلة بإنشاء إدارات مستقلة للإعلام بشقيه المرئي والمسموع من جهة والمقروء والمكتوب من جهة ثانية، وجرى خلال زمن قياسي تقديم ثلاثة مشاريع قوانين جديدة هي: مشروع قانون الإعلام المرئي والمسموع ومشروع قانون هيئة الصحافة والنشر والنظام الخاص بالمعهد الأردني للتدريب الإعلامي ...وكان أداء المجلس في الأشهر الأولى لتشكيله محكوما بهاجس الإسراع في "حل وزارة الإعلام" وتزايد إلحاحية المسألة كما تبدّت من خلال الطلبات المتكررة من قبل الحكومة للإسراع في إنجاز القوانين والتشريعات الكفيلة بإنجاز هذه المهمة.
على أن تطورات محلية وإقليمية متسارعة ربما تكون قد دفعت إلى إبطاء هذا المسار وتلك السيرورة... فالحاجة لاستمرار وزارة الإعلام والإشراف الحكومي المباشر على وسائل الإعلام تزايدت مع تفاقم الأوضاع الإقليمية على الجبهتين الشرقية والغربية: الانتفاضة في فلسطين وقرع طبول الحرب على الجبهة العراقية، وما ولدته من انعكاسات داخلية أسهمت في رفع منسوب القلق وأحيانا التوتر في العلاقة بين الحكومة والمعارضة داخليا.
وبدل أن ينصرف جهد الحكومة والمجلس إلى اجتراح الصيغ الأكثر واقعية لإنفاذ التوجيه الملكي بركائزه الأساسية، أصبحت قضية مستقبل وزارة الإعلام هي المحك والمعيار للحكم على نجاح تجربة المجلس أو فشلها.
وفي مناخات تميزت باستشعار الحكومة لمزيد من الحاجة لإبقاء على سيطرتها المباشرة على وسائل الإعلام في الظرف المحلي والإقليمي الدقيق، وسعي المجلس، مستلهما التوجيه الملكي السامي لخلق البيئة التشريعية والعملية الكفيلة بحل وزارة الإعلام، فقد كان طبيعيا أن تدخل العلاقة بين المجلس والحكومة مرحلة صعبة، ستنتهي لاحقا باستقالة رئيسه وأحد أعضائه، وتعطيل عمل المجلس لأكثر من أربعة أشهر متتالية.
وبعودة قليلة إلى الوراء، يمكن القول أن تجربة المجلس في تشكيلته الأولى قد تميزت بقدر واضح من الاستعجال والارتجال ... الاستعجال في القفز للنتائج النهائية من نوع حل الوزارة وبناء المؤسسات المستقلة... والارتجال في صوغ الوظائف والمهام المنوطة بالمجلس من دون الالتفات إلى المشاكل الناجمة عن حل الوزارة، وأهمها تمكين الحكومة من امتلاك الأدوات البديلة التي تمكنها من التخلي عن دورها المباشر في إدارة المؤسسات وتوجيهها من دون أن تفقد "سلاح الإعلام".
وبقليل من الإنصاف والموضوعية، يمكن القول أن المجلس وحده لا يتحمل وزر الاستعجال والارتجال، فقد شاركت في تشكيل مظاهر الالتباس والتخبط أطراف عدة، من بينها الحكومة أيضا.
فقانون المجلس المؤقت رقم 74 لعام 2001، جاء ليجسد هذا الالتباس لا ليبدده، فقد تضمن القانون بصيغه الفضفاضة ما يمكّن من اشتقاق قراءات مختلفة لدور المجلس ووظائفه، ويزود مختلف فرقاء العملية الإعلامية: المجلس والوزارة والجسم الصحفي، ببعض المواد والبنود الداعمة والمؤيدة لوجهات نظرها الخاصة.
وإذا كان لا بد من تسجيل خلاصات أساسية في تقييم حصاد تجربة السنة الأولى من عمر المجلس الأعلى للإعلام فيمكن التوقف بشكل خاص أمام واحدة من أبرزها وهي أن الظروف لم تنضج بعد لتجسيد مرتكزات الرؤية الملكية للإعلام الوطني ، وأن المسافة بين الممكن والطموح ما زالت واسعة بعض الشيء... وأن قوى المحافظة والشد العكسي في الدولة والمجتمع ما زالت قادرة على عرقلة عملية التغيير التي يتطلع إليها الأردنيون والأردنيات ، بدلالة تجربة المجلس ذاته، وشهادة تجارب أخرى بدأت بالتعديلات المتكررة لقوانين الصحافة والنشر ولم تنته بالمصائر الصعبة التي آل إليها مشروع المدينة الحرة الإعلامية التي دفنت في مهدها.