مقدمة:
هذه انطباعات ومشاهدات عامة، وهي تسجيل لبعض المناحي السياسية المتعلقة بالانتخابات والديمقراطية في منطقة الخليج.هذه الورقة لا تدعي الشمولية، وقد كتبت كنقاط تهدف إلى إثارة الحوار حولها. الانتخابات شيء والديمقراطية شيء آخر، الانتخابات حركة بدنية فيها القلم أو البصمة تعبيرا عن حرية الاختيار، وحرية الاختيار لا يحددها الانتخاب فقط، حيث أن مفهوما خاطئا نما بيننا يربط الديمقراطية بالانتخابات، صحيح أن الانتخابات هي واحدة من أوضح صور الديمقراطية، ولكن الانتخابات مرهونة حريتها بحرية الخيارات المطروحة، وتنوع المطروح، وبالتالي عملية الاختيار. والاختيار لا يعني إيصال الأفضل، بل هو –في أحسن الحالات –إيصال الأنسب.
كثيرا ما رددنا أن الديمقراطية منهاج حياة يبدأ منذ الصغر، وينمو ويترعرع مع الطفل في البيت والمدرسة والشارع بل وحتى الجامع (على الأقل نظريا). فالديمقراطية ليست نظاما سياسيا بحد ذاتها، ولكنها ساحة سلمية للبحث عن نظام سياسي، وهي مجال الاختلاف والتناحر السلمي على كافة الأصعدة- فكريا وثقافيا واقتصاديا وتعليميا وتربويا وحتى دينيا، ثم اللجوء إلى صناديق الانتخابات لتحسم هذا الجدل بشكل دوري قد يتغير فيه خيار الناس بعد مدة من الزمن. والسؤال هو: هل تحققت البيئة الديمقراطية التي توفر تلك الحرية، أم أن ما تحقق هو عملية الانتخاب والتي لا تعني بالضرورة توفر الديمقراطية بكل مقوماتها؟
وقد لا يكون مبالغة القول أن هناك مراجعة لمفاهيم الديمقراطية، وأن ربطها بالانتخابات حصرا، أصبح مجالا للتفكر، وصار الحديث مركزا أكثر على بناء مؤسسات المجتمع المدني، وصارت المطالبات ترتكز على ضرورة بناء الدولة المدنية، وخلق وتهيئة الأجواء للديمقراطية، أكثر من عملية اختيار السلطة عن طريق صناديق الاقتراع.
المحور الأول:
السياق العام الذي اندرجت فيه الانتخابات:يمكن القول أن الانتخابات التي جرت في قطر والإمارات والسعودية وعمان جاءت في سياق مناداة دولية للديمقراطية في كل مكان، وبالذات في منطقتنا وذلك في أعقاب هجمات سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، ويمكن استثناء الكويت والبحرين على اعتبار أن هاتين الدولتين خبرتا الانتخابات منذ عام 1962 للأولى وعام 1972 للثانية.
تعثرت التجربة الكويتية عدة مرات في الأعوام 1967 و1976 و1986، ولكن الغزو العراقي للكويت عام 1990 ومن ثم التحالف للدولي لنصرة الكويت الذي كان يدفع بديمقراطيتها كأحد أسباب إنقاذها، جعلت التفكير في التراجع عن ديمقراطيتها يعد خارج المنطق والمعقول السياسي مستقبلا.
أما البحرين فقد استمرت المطالبات بعودة الديمقراطية لها، ووصلت تلك المطالبات ذروتها عام 2005 بمظاهرات نتج عنها قتلى وجرحى ومعتقلين بالعشرات، وكان هذا السياق مخالفا لما كان يجري في المنطقة من دعوات ومبررات ديمقراطية لغزو العراق من أجل الديمقراطية والإطاحة بالدكتاتورية، فكانت الدعوة لانتخابات عامة بعد استفتاء على تعديل الدستور وتحويل البلاد من دولة إلى مملكة.
وجاءت التجربة القطرية بمبادرة من القيادة القطرية دون أن يكون هناك مطالبات شعبية بالديمقراطية، وكأنما لسان حال القيادة القطرية يقول: "بيدي لا بيد عمرو". حيث جرت انتخابات بلدية، وتنتظر البلاد انتخابات عامة بعد أن أقر دستور للبلاد لأول مرة عام 2004، ويتوقع المراقبون أن تكون انتخابات هادئة لن تشهد صراعات أيديولوجية ومواجهة انتخابية بين تيارين مدني والآخر ديني بنفس الحدة مثلما جرى ويجري في الكويت مثلا. كما جرى في عمان والإمارات انتخابات لمجالس استشارية شاركت فيها المرأة، وكان الإقبال عليها كبيرا، ويتوقع الكثيرون أن تتطور مثل هذه التجارب لمجالس أكثر تمثيل مباشر. أما المملكة العربية السعودية فقد شهدت لأول مرة في تاريخها انتخابات بلدية سيطر على نتائجها التيار الديني التقليدي.
المحور الثاني:
الانتخابات: حدث معزول أم تطور طبيعي؟
لعل استنتاج أن الانتخابات التي جرت في مجملها –سواء في الكويت أو أي بلد آخر في الخليج- جاءت تحت ضغوط دولية لتغيير أنماط الحكم الخليجية التقليدية ومشاركة أكبر من شعوبها هو استنتاج في محله، وقد تعاملت بعض القيادات الخليجية مع المطالبات الدولية من منطلق "الانحناء المؤقت للعاصفة"، وامتثالا للمثل الشائع: "إن طاعك الزمان، والا طيعه". أي أنه ليس هناك مؤشرات كثيرة تدل على القناعة التامة بالديمقراطية كمنهج حياة ونظام حكم، والمسألة بالنسبة للبعض هو التعامل البراجماتي مع متطلبات دولية سرعان ما تتغير بتغير المعطيات والتطورات. وقد يكون هذا "الصبر" و"الأناة" الخليجية قد أتت ثمارها، وخصوصا في ضوء نتائج انتخابات العراق وأفغانستان والتي سأتناولها بعد قليل.
ديمقراطية بلا ديمقراطيين:
من الصعب القول أنه يمكن أن يكون هناك صنعة بدون صناعها، فلا تدريس بلا مدرسين، ولا طب بلا أطباء، ولا عمارة بلا مهندسين وهكذا. وبنفس المعادلة لا يمكن أن يكون في هذه الدول ديمقراطية بلا ديمقراطيين، فلا يمكن أن نتخيل قوى تنادي بالدولة الدينية وترى في تنظيراتها لدولة الخلافة أو دولة ولاية الفقيه نموذجا ومثالا تجاهد من أجل تحقيقه، ونرى بأن هذه القوى يمكن أن تحقق الديمقراطية، فالقوى الدينية- دون استثناء- في عالمنا العربي –والخليجي على وجه الخصوص- تنادي جميعا بإقامة الدولة الإسلامية، وليس بينها من ينادي بإقامة الدولة الديمقراطية، والفرق شاسع بين الأولى وبين الثانية، فلا تداول للسلطة في الدولة الدينية، ولا تعددية حزبية، ولا حرية صحافية، ولا مساحة للنقد الفكري- وبالذات ما يتناول منه الفكر الديني. والقوى الدينية في غالبها ترى أن اختيار الناس لهم عن طريق صندوق الانتخابات، بمثابة تفويض نهائي بوضع قوانين سرمدية يرون أنها إلهية، وبالتالي فإن النكوص عن هذه القوانين ومحاولة تغييرها، يعني نكوصا على إرادة إلهية وشريعة ربانية، لا يجوز- في نظرهم- السماح بها متى ما تحققت عن طريق الانتخابات.
لعل هناك شبه إجماع بين القوى المدنية على امتداد منطقة الخليج، بأن القوى الدينية استغلت الديمقراطية لكي تصل إلى السلطة وتعزز مواقعها ثم تقوم بتنحية خصومها واحدا تلو الآخر، وتذكر نماذج إيران والعراق والسودان للتدليل على صدق دعاواهم، وما يجري في الكويت والبحرين وإن كان بدرجة أقل حدة ووضوحا.
ولكن من الإنصاف أن نذكر بأن هناك بين القوى الدينية من يجادل بأن هذا الرأي إنما تسوقه قوى "ليبرالية" تحاول أن تفرض "مستوردا" غربيا على ثقافة ليست غربية، وبأن فشل هؤلاء في انتخابات تلو انتخابات –من الجزائر حتى العراق مرورا بفلسطين ولبنان- يدفعهم لتقديم هذه المبررات.
بين العنصرية والاستسلام والأنانية :
لا شك بأن جدلا دار ولا يزال يدور في أوساط السياسة الغربية والمثقفين العرب الذين نهلوا من الثقافة الديمقراطية الغربية، ومفاده أن الديمقراطية قد لا تصلح لكل البشر، وهو ادعاء يتم تحسينه للنأي به عن تهمة العنصرية بالقول أن الثقافة العربية-الإسلامية لا تصلح للديمقراطية، أو لا تصلح لها الديمقراطية.ومثل هذا الإدعاء يرادفه تأييد من داخل المجتمعات العربية والإسلامية، تمارس جلدا للذات، وترفض التعامل مع نتائج الانتخابات إن هي أوصلت قوى غير ديمقراطية، وهو موقف يصفه خصومهم بالأنانية والتناقض، فهم لا يقبلون بالديمقراطية إلا إذا أوصلتهم ورفضت خصومهم من القوى الدينية، كما ينعت هذا الموقف بالاستسلام وقصر النفس النضالي الذي ينادي بالتمسك بالديمقراطية وقبول نتائجها- حلوها ومرها.
وهنا تدور أسئلة منهجية وفلسفية هامة:
كيف يمكن السماح لقوى غير ديمقراطية بأن تدخل في اللعبة الديمقراطية؟ ومن الذي يحدد ديمقراطية قوى ما كي يسمح لها بالدخول في اللعبة الديمقراطية؟
الدمقرطة والديمقراطية:
اختلط على الكثيرين منا مفهوم الديمقراطية، وارتبطت لدى الكثيرين بيننا بآلية التصويت في الانتخابات حصرا كمؤشر على الديمقراطية، وكثيرا ما شاهدنا في عالمنا العربي صورا لطوابير من المواطنين انتظارا للإدلاء بأصواتهم، في مشهد يوهم بأن الديمقراطية تسير على قدم وساق. كما شاهدنا منافسين لرؤساء لا يزحزحهم عن كراسيهم سوى الموت أو الانقلاب، ولم يسجل لنا التاريخ تسليم السلطة من قبل رئيس عربي منتخب إلى آخر تم انتخابه حديثا، ولعل تجربة سوار الذهب في السودان والتجربة الموريتانية الأخيرة استثناء غير مكتمل، حيث جرت الانتخابات في السودان وموريتانيا بعد انقلابات عسكرية وعدت بالديمقراطية وأوفت بوعدها.
التجربة الكويتية:
لا شك بأن التجربة الديمقراطية الكويتية هي الأقدم بين دول المنطقة، ولعلها –بمعايير المنطقة- تعد واحدة من أهم التجارب في منطقتنا، ولكن التجربة الديمقراطية الكويتية، تمر كأي تجربة عالمية بمراحل من التقدم والتراجع، ويدور جدل كويتي داخلي حول الوسائل الضامنة لتقدم التجربة دون التنازل عن مبادئ الديمقراطية الدستورية. فهناك من يجادل في الكويت بأن القوى التي لا تؤمن بالديمقراطية هي القوى التي سيطرت على المسار السياسي للبلاد، ولم يتقدم البرلمان منذ سيطرة القوى الدينية عليه بأية مشروع بقانون يعزز من الحرية ويعمق من فلسفتها ومفهومها.
ولا شك بأن التجربة الكويتية- مثل كل التجارب الديمقراطية- لها عيوبها التي ركز عليها البعض ولا زال ليذكر بمساوئ الديمقراطية، ففي العقود الثلاث الماضية، شاب التجربة الديمقراطية الكثير من الجوانب السلبية، فانتشرت ظاهرة شراء الأصوات والانتخابات القبلية والطائفية والفئوية، وأصبح الوصول للبرلمان طريقا سريعا وسهلا للثراء الفاحش السريع لدى مجموعة من النواب.
ولقد ركز أعداء الديمقراطية ولا يزالون على الجوانب السلبية كنوع من التحذير من الديمقراطية على وجه العموم، ناسين أو متناسين انه ما من نموذج واحد للديمقراطية يمكن تطبيقه. فأعرق الليبراليات الديمقراطيةLIBERAL DEMOCRACIESلا تنتهج نهجا واحدا، فهناك النظام الاحادي البرلمان (الفرنسي مثلا)، وهناك الثنائي البرلمان (كما الأمريكي)، وهناك الملكية الدستورية (بريطانيا وهولندا وبلجيكا والدنمرك) وهناك الجمهوريات الديمقراطية (فرنسا وإيطاليا والنمسا).. إلخ.
التجربة العراقية:
يشار إلى التجربة العراقية كنموذج لفشل الديمقراطية في منطقتنا، فالدكتاتورية الصدامية أطيح بها في العراق لبناء الديمقراطية وإحلالها محلها، ولكن النتائج جاءت بما لا "تشتهي السفن"، فالعراق انزلق إلى اقتتال طائفي وتصفية طائفية وعرقية، وتسبب البديل بمآس للإنسان العراقي لا تقل قبحا عما تسبب به الدكتاتورية، وبقيت التجربة العراقية مثالا لتبرير "اللاديمقراطية" في العالم العربي عموما –ومنطقة الخليج خصوصا. فكلما نادى أحد بالديمقراطية، ذكره الرافضون بالتجربة العراقية "كبعبع" لأي مناد بالديمقراطية، ويذكر المناوئون للديمقراطية دوما بالتجربة العراقية من أجل خفض درجة الحماس للمتحمسين للتطور الديمقراطي في منطقة الخليج عموما، فالتجربة العراقية مرتبطة في الذهن الخليجي اليوم بالتصفيات الطائفية والنزوح القومي والطائفي وبالهيمنة الإيرانية على جنوب العراق، وبالتالي فإن أعداء الديمقراطية أيضا يذكرون من يتحمس للديمقراطية بالتجربة العراقية- لا كرها لنتائجها- وإنما للتخويف من الديمقراطية برمتها.
خواتيم للمناقشة:
لا يوجد في الخليج –عموما- ديمقراطيات بالمعنى النظري للديمقراطية، ولكن يمكننا القول أنه لا يوجد دكتاتوريات بالمعنى الوحشي للدكتاتورية العربية أو دكتاتورية العالم الثالث. يبدو أن هناك تريث خليجي في مسألة التحولات الديمقراطية المطلوبة، والتركيز على دمقرطة المجتمعات من خلال المناهج الدراسية والتعليم والإعلام والتربية، من أجل خلق ثقافة ديمقراطية، ومؤسسات المجتمع المدني، بدلا من التركيز على ميكانيكية التصويت التي ربطها البعض بالديمقراطية حصرا. هناك شبه إجماع على أن الانتخابات بمعزل عن تحصينها المسبق وتطعيمها الثقافي بالديمقراطية، ستؤدي إلى نتائج غير ديمقراطية، وستوصل قوى لا تنشد الديمقراطية وإنما تسعى إلى الوصول إلى السلطة، من أجل احتكارها ومصادرتها.
-ورقة قدمت في مؤتمر الانتخابات والتحولات الديمقراطية في العالم العربي خطوة إلى الأمام أم خطوة إلى الوراء الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في 26-27 يناير 2008