من بين مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، يبدي الأردن حماسا ملحوظا لدفع عملية السلام إلى الإمام وإخراجها من مربع المراوحة الذي تدور فيه منذ سبع سنوات على أقل تقدير، فالدبلوماسية الأردنية لعبت وما تزال تلعب دورا نشطا في تركيز الاهتمام الدولي والإقليمي على الصراع الفلسطيني الأردني والملك عبد الثاني يواصل تحذيراته من مغبة إضاعة آخر فرصة للسلام في المنطقة، بل أنه يذهب أبعد من ذلك للقول بأن هذه الفرصة تقاس بالأشهر وليس بالسنوات، وإن تبديدها سيدخل المنطقة في دوامة جديدة من العنف والتوتر.
وينسب الخطاب السياسي الأردني استمرار التوتر وتنامي نفوذ الجماعات المتطرفة وتفاقم الصراعات في المنطقة إلى استمرار معاناة الشعب الفلسطيني وإخفاق المجتمع الدولي في حل القضية الفلسطينية، وتدعي الدبلوماسية الأردنية بأنها نجحت في إقناع الإدارة الأمريكية في إيلاء هذا النزاع الأهمية التي يستحق على جدول أعمال الإدارة الأمريكية، كما أنها نجحت في توحيد مواقف المعتدلين في إطار ما يسمى "الرباعية العربية" وتحفزيهم على القيام بجهد أكبر من أجل تنشيط عملية السلام.
وثمة مخاوف عديدة تبرر الاهتمام الأردني بعملية السلام وتفسر الكثير من القلق الذي يجتاح دوائر صنع القرار في الأردن، وقد لخصت الإستراتيجية الأمنية الأردنية التي جرى عرضها والحوار بشأنها بين مختلف دوائر صنع القرار والفعاليات الرسمية والأهلية الأردنية، التهديدات التي يتعرض الأمن الوطني الأردني، ومن ضمن هذه التهديدات يجري صعود الحركات الإسلامية في المنطقة وهنا يشار إلى نتائج الانتخابات الفلسطينية وفوز حركة حماس فيها، فضلا عن النفوذ المتزايد لحزب الله في إيران والجماعات الإسلامية المسلحة في العراق وبشكل خاص القاعدة وتنامي دور إيران الإقليمي، إلى جانب التهديد المتمثل في اعتماد إسرائيل سياسة "أحادية" في التعامل مع المسألة الفلسطينية، الأمر الذي سيضع حدا من وجهة النظر الأردنية لفرص قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وفقا لرؤيا الرئيس بوش – دولتين لشعبين – وخريطة الطرق ومبادرة السلام العربية.
وتنظر دوائر صنع القرار إلى هذين التهديدين: تنامي دور القوى الأصولية في المنطقة مدعومة من إيران من جهة وتفاقم النزعة الأحادية الإسرائيلية من جهة ثانية، على أنهما مترابطان، يتغذى أحدهما بالآخر وينميه، فكلما تراجع منسوب الأمل في التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية، كلما ازداد نفوذ حركات الإسلام السياسي المتطرفة في المنطقة، وكلما ازداد نفوذ هذه الأخيرة، ارتفع منسوب القلق في إسرائيل ومالت دوائر صنع القرار فيها لاتخاذ مواقف أكثر تشجنا وتطرفا، وكلما تورطت أكثر في سياسة فرض الحلول من جانب واحد، وفرض حقائق جديدة على الأرض ليس التوسع الاستيطاني واستمرار البناء في جدار الفصل في الضفة وتهويد القدس سوى مظاهر لها.
ويراقب الأردن بكثير من القلق فوضى السياسة وفلتان الأمن في المناطق الفلسطينية، خصوصا بعد فوز حماس في الانتخابات الأخيرة، ولا شك أن الأردن الذي تشكل الحركة الإسلامية فيه، واحدة من أهم مراكز القوى الشعبية، ينتابه القلق لوجود "القاعدة" و"السلفية الجهادية" و"دولة العراق الإسلامية" على حدوده الشرقية، لا يرغب في رؤية "دولة فلسطين الإسلامية" بزعامة مزيج من القوى الأصولية – حماس، الجهاد والقاعدة – على حدوده الغربية، ومن هذا المنطلق، يدعم الأردن بقوة الجهود الرامية لتقوية السلطة الفلسطينية ورئاسة محمود عباس وحركة فتح، من أجل قطع الطريق على تحكم الإسلاميين بالمجتمع الفلسطيني.
والمتتبع لهواجس دوائر صنع القرار في الأردن ومخاوفها، يلحظ حجم الخشية من وجود حالة تواطؤ متبادل بين القوى المتطرفة في إسرائيل التي تريد حلولا انفرادية وأحادية مفروضة من جانب واحد، والقوى الأصولية في فلسطين التي ترفض الحلول التفاوضية، وتفضل عليها سياسات أحادية يجري تسويقها تحت شعار الهدنة طويلة الأمد، والحلول الانتقالية التي تبقي الصراع مفتوحا للأبد، أي أن الأردن يخشى أن تفضي الأحادية الإسرائيلية إلى إنتاج أحادية فلسطينية، وأن نصل إلى وضع تتغذى فيه كل من هذه الأحاديات بعضها من بعض، خصوصا مع استمرار تراجع نفوذ وتأثير معسكر السلام في إسرائيل، وبلوغ السلطة الفلسطينية حافة الانهيار والفشل.
وربما لهذا السبب بالذات، تدور في بعض دوائر صنع القرار في الأردن، أفكار تقترح دورا أردنيا منسقا مع أطراف فلسطينية وإقليمية ودولية، لتجاوز حالة "الاستعصاء" التي تعيشها عملية السلام، وفي هذا السياق، عادت مقترحات "الفيدرالية والكونفدرالية" للتداول من جديد في بعض الأوساط الأردنية، وتثير جدلا في الأوساط السياسية الرسمية والشعبية بين مؤيد ومعارض.
مؤيدو هذا الاقتراح يعتقدون بأن دورا أردنيا مباشرا سوف يساعد على تجسير فجوة الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فالأردن الذي أظهر تاريخيا، التزامه بالمواثيق والتعهدات التي أبرمها مع إسرائيل بمقدوره توفير ضمانات لتنفيذ الاتفاقات التي يجري التوصل إليها بين الجانبين، وخصوصا تلك المتصلة بالأمن الإسرائيلي، وستتاح للأردن فرصة توسيع دوره الإقليمي وتخطي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وتوفير دعم مالي واقتصادي يساعد في إخراجه وإخراج الفلسطينيين من الضائقة الاقتصادية التي يواجهها الطرفان، كما أن مؤيدي دور أردني متزايد يعتقدون أن المزاج الشعبي الفلسطيني قد أصبح أكثر استعدادا للقبول بدور أردني في الضفة الغربية.
وأن الوضع العربي لم يعد عائقا في مواجهة هذا الدور، فالعلاقة الأردنية – السعودية (الخليجية عموما) في أحسن حالاتها، ومصر مشغولة بملف الوراثة ودورها الإقليمي في تراجع، والعراق خرج من مسرح الصراع العربي والإسرائيلي وسوريا المعزولة إقليميا ودوليا لم تعد قوة كابحة في وجه أي دور أردني مستقبلي
أما معارضو هذا الدور، فينطلقون من حسابات أخرى، أهمها الخشية من تحوّل الدور الأردني إلى مخرج لمأزق إسرائيل من الديمغرافية الفلسطينية، وليس كحل لمشكلة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهم لا يخفون خشيتهم من أن إسرائيل المسكونة بهاجس الأمن والاستيطان، لن تعطي الأردن أكثر بكثير مما عرضته على الرئيس الراحل ياسر عرفات أو يمكن أن تعرضه على الرئيس محمود عباس، وبالتالي فإن أي دور أردني قد يقتصر على توفير الأمن للمستوطنات والجدار، كما أن هؤلاء يخشون من مغبة ضياع الهوية الأردنية في بحر الأغلبية السكانية الفلسطينية، خصوصا وأن أسئلة الهوية والاندماج لم تحسم في الأردن وقد تصبح أكثر خطورة وسخونة فيما إذا تقرر توسيع المملكة لتشمل الضفة الغربية، ويتساءل هؤلاء عن مصير قطاع غزة ولاجئي الشتات وما إذا كان سيتعين على الأردن أيضا، توفير الحلول لبضعة ملايين أضافية من اللاجئين الفلسطينيين.
وأمام ارتفاع حمى الجدل الوطني حول هذه المسألة، واستمرار الضباب الكثيف الذي يحيط بمستقبل الجهود الرامية إلى إحياء عملية السلام، وغياب الأفق الواضح لمستقبل الصراع الفلسطيني الداخلي والحراك الحزبي داخل إسرائيل واستمرار غرق الإدارة الأمريكية في أوحال العراق وقرب رحيلها عن البيت الأبيض، تفضل الدبلوماسية الأردنية عدم الخوض – علنا على الأقل – في الحديث عن سيناريوهات المستقبل واحتمالاته، وتصر على تكرار مواقفها القديمة والمعروفة حول طبيعة الحل المقترح للمسألة الفلسطينية، لكن أحدا من المسؤولين الأردنيين ما عاد بمقدوره أن يتنكر لجديد السياسة الأردنية، وجديد هذه السياسة يقول أن الدبلوماسية الأردنية عادت للتفكير بشتى السيناريوهات والبدائل.
ولم تعد محصورة بسيناريو الدولة المستقلة الواحد الأوحد، الذي ظل على امتداد فترة حكم الملك عبد الله الثاني السيناريو الوحيد للتعامل مع المسألة الفلسطينية، على اعتبار أن هذه الدولة هي خط الدفاع الأول عن الأردن، وهو الأمر الذي لم يعد كذلك،/ خصوصا بعد أن استشعر صانع القرار في الأردن، أن دولة كهذه قد لا تقوم، وإن قامت بقيادة حماس وتيارات الأصولية الإسلامية الأخرى أو كملاذ لها، فلن تكون عنصر استقرار في المنطقة أو خط دفاع عن الأردن، بل مصدر تهديد للسلم الإقليمي وللأمن الوطني الأردني.