هل سيكون لتركيا رئيسا من الإسلاميين؟

2007-02-02

بقلم:مايكل روبن
ترجمة : صادق أبو السعود

في الوقت الذي لم تبدأ فيه الحملات الانتخابية بشكل رسمي إلا أنه يمكن القول أن موسم الانتخابات في تركيا قد بدأ سلفا بالإثارة الناجمة عن حمى الانتخابات. حيث سيقوم يقوم البرلمان التركي في هذا الربيع بانتخاب رئيس للجمهورية بدلا من الرئيس الحالي احمد نجدت سيزار الذي ستنتهي ولايته التي امتدت سبع سنوات في السادس عشر من أيار 2007. وفي الرابع من تشرين الثاني 2007 أو ربما قبل هذا التاريخ سيتوجه الأتراك إلى صناديق الاقتراع لانتخاب البرلمان الجديد. والإثارة الانتخابية لهذا العام ليست ناجمة فقط عن أنها المرة الأولى منذ 1973 و 1950 وقبل ذلك التي يقوم بها الناخبون الأتراك بالتوجه لصناديق الاقتراع لانتخاب الرئيس والبرلمان في نفس العام ولكن انتخابات هذا العام سوف تؤثر على مستقبل تركيا ربما أكثر من أية انتخابات أخرى جرت خلال نصف قرن، فإذا فاز رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان بالانتخابات الرئاسية وفاز حزبه " حزب العدالة والتنمية"بالأغلبية البرلمانية، فان الإسلاميين بذلك سيسيطرون على كافة المناصب وفي موقع يستطيعون معه تقويض العلمانية وإعادة تعريف الدولة والمجتمع.

وفي حال تولى رجب طيب اردوغان المنصب الرئاسي في قصر " جانكايا- البيت الأبيض التركي " سيترتب على الأتراك احتمالية مواجهة وجود رئيس إسلامي والسيدة الأولى التي ترتدي الحجاب على الطريقة السعودية، وهذا الاحتمال قد يغذي التكهنات حول التدخل العسكري التركي الذي ينظر إليه تقليديا بمثابة الحامي للعلمانية والدستور التركي. وفي هذا الإطار نشرت صحيفة نيوز ويك في كانون الأول 2006 مقالا بعنوان " الانقلاب القادم " يتوقع فيه بنسبة 50% أن يقوم الجيش بفرض سيطرته على تركيا هذا العام.

في حين هناك ما يبرر القلق بشأن مستقبل العلمانية التركية إلا أن التحذير من التدخل العسكري ليس هناك ما يبرره، فلن يكون هناك المزيد من الانقلابات العسكرية في تركيا، وقد يكون رجب طيب اردوغان قد استعد لإشعال أزمة دستورية في إطار تحقيق طموحه الشخصي وأجندته الأيديولوجية، لكن المؤسسات المدنية التركية قوية بما فيه الكفاية لمواجهة هذا التحدي، إن الخطر الأكبر للديمقراطية التركية لن يكون التدخل العسكري ولكن بالأحرى النوايا الحسنة والتدخل الساذج من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين أثناء سعيهم لتحقيق الاستقرار والتقليل من خطر الإسلاميين.

الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية:
لماذا على المسئولين الأوروبيين والأمريكيين القلق حول مستقبل تركيا في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية؟ إن حزب العدالة والتنمية يتحاشى أن يوسم بالحزب الإسلامي ويصف نفسه بالحزب المحافظ أو بحزب يمين الوسط، وعلى أية حال فجذوره إسلامية، ففي الحادي والعشرين من تشرين الثاني 1994 حين كان اردوغان رئيسا لبلدية استانبول قال" شكرا لله ، أنا خادم الشريعة" وفيما بعد وصف نفسه قائلا انه " إمام استانبول ".

لقد انبثق حزب العدالة والتنمية عن حزب الرفاه التركي الذي كان يترأسه نجم الدين اربكان وهو حزب إسلامي تأسس في عام 1993. وفي الثامن والعشرين من حزيران 1996 أصبح نجم الدين اربكان أول رئيس للوزراء في تركيا من التيار الإسلامي، ولكن ونظرا لان حزبه قد حصل على 158 مقعدا فقط من مجموع مقاعد البرلمان التي تبلغ 550 مقعدا، فقد كانت قوته وسلطته محدودة لفرض أجندته. ومع ذلك فقد اندفع كثيرا وبضغوط من المؤسسة العسكرية التي لم تكن راضية عن توجهه نحو ليبيا وإيران ودعمه للمدارس الدينية فقد اجبر على الاستقالة بعد اقل من سنة على وجوده في منصبه، ولن يكون هناك عودة مرة أخرى لحزب الرفاه، ففي السادس عشر من كانون الثاني 1998 أصدرت المحكمة الدستورية التركية قرارا بحظر الحزب والذي أيدته فيما بعد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

وأعاد أعضاء حزب الرفاه ترتيب أنفسهم بما فيهم اردوغان نفسه ضمن حزب جديد أطلقوا عليه اسم حزب الفضيلة، والعديد منهم استعادوا وظائفهم ولكن الإجراءات القضائية سرعان ما اضطرت اردوغان إلى الاستقالة من منصبه كرئيس للبلدية.وفي الحادي والعشرين من نيسان 1998 أصدرت المحكمة العسكرية في ديار بكر قرارا بسجن اردوغان عشرة أشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية في المسيرة التي جرت في الخامس من كانون الأول 1997. وبعد استنفاد فترة الاستئناف أمضى أربعة أشهر في السجن قبل أن يعاد إطلاق سراحه.

ولم يكن حال حزب الفضيلة بأفضل حالا من حزب الرفاه فاتجاهات الحزب وعملياته كانت تتنافى مع الدستور ومن هذا الباب جاء قرار المحكمة الدستورية في الثاني والعشرين من حزيران 2001 بحظر الحزب نتيجة نشاطاته المناهضة للعلمانية، وبعد هذا الحظر توجه أعضاء الحزب في اتجاهين ففي العشرين من تموز 2001 أسس نجم الدين اربكان حزب " السعادة " وذلك لتامين ملجأ للإسلاميين السابقين الذين يرغبون بالتنافس ضمن إطار النظام السياسي ولكن في نفس الوقت لا يرغبون في التنازل عن توجهاتهم المعلنة، وقام اردوغان بتأسيس حزب العدالة والتنمية في الرابع عشر من آب 2001 لتأمين قاعدة أكثر مرونة لأعضاء الحزبين من الرفاه والفضيلة.

ومما لا شك فيه فقد أثبتت هذه الخطوة أنها تحرك ذكي في ظل عدم مشاركة العديد من الأتراك الأجندة الدينية لحزب الرفاه أو الفضيلة، والذين لا يزالون يبحثون عن البدائل التي لا تعبق فيها فضائح الفساد التي تعصف بالأحزاب الرئيسية في البلاد. لقد كان لخطاب اردوغان وعباراته اللطيفة أثرا جذابا في أوساط جمهور الناخبين، حيث استطاع حزب العدالة والتنمية أن يهيمن على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في الثالث من تشرين الثاني 2002. وفي ظل الاضطراب الاقتصادي ومعاقبة الناخبين للأحزاب الخمسة الرئيسية والذين لم يتجاوز أي منهم نسبة تحقيق 10 ٪ من الأصوات اللازمة لدخولهم البرلمان، ولقد فاز حزب العدالة والتنمية بنسبة 34.3 % من الأصوات، وفاز حزب الشعب الجمهوري " يسار الوسط " الذي يعتبر من أقدم الأحزاب السياسية التركية بنسبة 19.4 % علما انه لم يكن ممثلا في البرلمان في الانتخابات السابقة، ونظرا لعدم تحقيق أي من الأحزاب الأخرى نسبة 10% وهي النسبة الضرورية لدخول البرلمان فان حزب العدالة والتنمية قد حاز على ثلثي مقاعد البرلمان وهي النسبة الكافية للتغلب على الفيتو الرئاسي كما أصبح الحزب بذلك اكبر كتلة انتخابية في البرلمان منذ البدء بالعملية الديمقراطية والتعددية الحزبية في تركيا.

لم يكن بإمكان رجب طيب اردوغان في البداية من المشاركة في نجاح الحزب نظرا للإدانة التي صدرت في حقه في عام 1998 والتي جعلت منه غير مؤهل للحصول على المقعد البرلماني، وتولى مساعده الأقرب عبد الله غول منصب رئيس الوزراء، وفي نفس الوقت استخدم حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية الساحقة لتعديل قانون انتخاب النواب وإسقاط حق النقض الرئاسي وذلك بهدف تمكين اردوغان من خوض الانتخابات التكميلية التي كان من المقرر لها تعقد في التاسع من آذار 2003 في البلدة " سيرت " والتي تقع إلى الجنوب الشرقي من تركيا ومن المفارقة أن هذه البلدة هي نفسها التي شهدت في 1997 المسيرة التي كانت سببا في سجنه، وجاء انتخابه نصرا ساحقا وبعد خمسة أيام على انتخابه أصبح رئيسا للوزراء.

هل يرهن حزب العدالة والتنمية المستقبل الاقتصادي لتركيا؟
لا شك فقد حظي حزب العدالة والتنمية بشهر عسل طويل، وأما في الخمس سنوات السابقة لظهور الحزب شهدت العملة التركية تدهورا كبيرا في قيمتها أمام الدولار من 200 إلى 1.7 مليون ليرة للدولار الواحد، وفي ظل إدارة اردوغان شهدت العملة التركية استقرارا ملحوظا بل أن قيمتها قد تحسنت قليلا. ولقد مكن هذا الاستقرار الحكومة من إصدار عملتها مع إسقاط ستة أصفار بالإضافة إلى تعزيز الروح الاقتصادية للدولة التي تعاني من التضخم منذ أمد طويل، وقد يعلن حزب العدالة والتنمية أو يدعي أن 25% من سكان تركيا كدوائر انتخابية أيديولوجية، وقد فاز ب 42% من الأصوات التي جرت في انتخابات البلدية في الثامن والعشرين من آذار 2004، وقد فاز بأربعة بلديات من خمسة في المدن الكبرى وهي اسطنبول وأنقرة وقونيا، وبورسا والتي يوجد فيها الآن رؤساء بلديات من حزب العدالة والتنمية.

قد تكون الإدارة المالية لحزب العدالة والتنمية اقل مما تبدو عليه الأمور أو ما قد تشاهده العين. وبدلا من الإصلاح على قاعدة سليمة طويلة الأمد فان إدارة رجب طيب اردوغان قد تحولت نحو اللعب ببراعة عبر خطط قصيرة الأمد، وكان هذا مدعاة لقلق رجال الأعمال الأتراك، وهناك مشكلتين أساسيتين في إدارة حزب العمل والتنمية للاقتصاد:
1- الديون
2- الغموض وانعدام الشفافية في تدفق رأس المال ذو الطابع الإسلامي.

وتجدر الإشارة إلى أن الاستثمار الإسلامي قد نما بالتزامن مع صعود نجم حزب العدالة والتنمية. ففي السابع من تشرين الثاني 2005، أعلن وزير الدولة للتجارة الخارجية " كورشاد توزمين " بان الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ، حاكم دولة الإمارات العربية المتحدة سوف يستثمر 100 مليار دولار في الشركات التركية. وفي التاسع من تشرين الأول 2006 قال محمد الحسيني السفير السعودي في أنقرة بأن التبادل التجاري بين السعودية وتركيا سوف يصل إلى الضعفين وربما ثلاثة أضعاف خلال السنة المقبلة.

إن الاستثمار أمر صحي ويجب أن تكون موضعا للترحيب، والمشكلة التي يفضل الإشارة إليها المعلقين الأتراك ويرمزون إليها " بالنقود الخضراء " هي حالة الغموض التي تحيط بالاستثمارات الإسلامية، وبينما السياسيين الأتراك والصحفيين وحتى مسئولي البنوك يقرون بتدفق رؤوس الأموال إلا أن الجزء الأكبر منها يبقى في إطار الاقتصاد الغير رسمي، ومساعدات لصناديق الأحزاب، وأموال بيع النفايات وربما أيضا الحلفاء السياسيين، إن الغموض وانعدام الشفافية والحقيقة القائمة أن الأموال مرتبطة بإدارة حزب العدالة والتنمية وهذا من شانه أيضا أن يبرز بعض الأسئلة حول الشروط المرتبطة بهذا التدفق المالي: هل الاستثمار في تركيا مرتبط بجهود حزب العدالة والتنمية بإبعاد البلاد عن توجهاتها الغربية والاقتراب بصورة اكبر من ألأجواء الإسلامية.

تدفق النقد الغير شرعي:
ليست كل الأموال التي تتدفق في آلية الاقتصاد ذات طبيعة قانونية، واستنادا إلى الوكيل السابق في هيئة التخطيط التابعة للدولة " الهان كيسيجي " الذي أشار إلى أن هناك الكثير من النقد يدخل " في الحقائب " ويبقى خارج إطار التعليمات.وفي ظل إدارة حزب العدالة والتنمية فان الاقتصاد الغير رسمي قد نما باطراد ملحوظ. ففي السنة الأولى من إدارة اردوغان فان نسبة الخلل في ميزان المدفوعات قد ارتفع من 118 مليون دولار إلى 4.9 مليار دولار، ومع النهج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية فان التدفق النقدي الذي يفتقر إلى التفسير قد وصل مرة أخرى إلى مستويات قياسية، مما يجعل من الممكن أن يقوم حزب العدالة والتنمية باستخدام رؤوس الأموال القادمة من الخارج بشراء الشعبية وتفادي الكساد قبل الانتخابات. إن " النقود الخضراء " التي يتم تداولها الآن في تركيا تتجاوز 13 مليار دولار، وهي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لاستونيا، والبوسنة، والبحرين، والأردن، وأذربيجان.

يرفض مسئولي حزب العدالة والتنمية التوقعات والادعاءات حول ارتباطهم " بالنقود الخضراء " ويواجهون ذلك بان صافي العجز المستمر في ميزان المدفوعات خلال إدارة الحزب تأتي بسبب التحويلات الخاصة القادمة من ألمانيا حيث يوجد هناك ثلثي العمال الأتراك المقيمين في الخارج. إن هذا التفسير غير كاف، حيث بلغت تحويلات العاملين الأتراك ذروتها في عام 1998 إذ بلغت 5 مليارات دولار ولكنها انخفضت إلى أقل من مليار دولار في 2004 بعد انهيار إحدى الشركات البارزة والإجراءات القضائية التي تلت ذلك.

إن إحصاءات البنك المركزي ربما تكون غيض من فيض فقط، إذ من المحتمل أن يؤثر حزب العدالة والتنمية على جمع البيانات. ومع الأخذ بعين الاعتبار الوردات المالية من القطاع السياحي فان أنقرة على سبيل المثال ترتكز في إحصائياتها على أعداد الزوار المغادرين، ويعتقد " كيسيجي " أن الانتقائية في اخذ العينات يمكن أن يرفع العائدات السياحية إلى 2 بليون دولار، إن تخفيف ما قد يكون مغايرا لهذه الحقيقة سيكون بمثابة مسمار كبير في شبكة الأخطاء.

وتجدر الإشارة إلى تعيين كبار المسئولين في المناصب المناسبة للتغطية على تدفق " النقود الخضراء" وحمايتها. ففي الفترة الممتدة ما بين 1983 - 1991 عمل عبد الله غول كمتخصص في بنك التنمية الإسلامي في جدة، وقد كان عديم التسامح مع الهفوات والأخطاء المتعلقة بالاشراف، علما انه وقبل انتخابات حزب العدالة والتنمية انتقد رقابة الدولة على المشاريع الإسلامية. وهناك أيضا بعض المستشارين الآخرين في حزب العدالة والتنمية والمعنيين برأس المال الإسلامي، فعلى سبيل المثال " كوركوت اوزال" هو المساهم التركي الأكبر في شركة "البركة " التركية، وربما البنك الإسلامي التركي، بالإضافة أيضا الى "بنك فيصل " ذو الجذور السعودية. وفي الخامس عشر من شباط 2005 انشق وزير السياحة السابق " اركان ممجو" عن حزب العدالة والتنمية وأسس حزبا جديدا أطلق عليه حزب "الوطن" لقيادة يمين الوسط متهما في نفس الوقت قيام حزب العدالة والتنمية وفي حزيران 2006 بتدخلات غير شرعية في البنك المركزي.

قام رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان بتعيين كبار المصرفيين الإسلاميين بالمراكز الاقتصادية الرئيسية، فقد عين " كمال اونكتان " العضو السابق في مجلس شركة "البركة ومؤسسة أسكي للتمويل" كوزير للتمويل، هذا بالإضافة إلى تعيينه سبعة على الأقل من مسئولي شركة البركة في مواقع مهمة ورئيسية في صندوق الودائع والادخار التركي وهي هيئة تستخدم سلطاتها لإزعاج ومضايقة المصرفيين ورجال الأعمال العلمانيين، احد الذين تم تعيينهم ويدعى " احمد ارتورك " كان إماما في احد المعسكرات الغير شرعية المناهضة لليسار في محافظة " ملاطيا "- جنوب شرق تركيا- وفي آذار 2006 وصلت السياسة المالية لاردوغان إلى طريق مسدود عندما حاول تعيين احد الإسلاميين لقيادة البنك المركزي لمواجهة حق الفيتو الرئاسي.

لقد ترافق الإفراط في الاقتراض مع تدفق " الأموال الخضراء ". فعلى سبيل المثال فقد ارتفع عجز الحساب الجاري التركي ليصل إلى 13,7 مليار دولار في النصف الأول من عام 2005، وهي زيادة بمقدار 38.3 ٪ عن نفس الفترة من النصف الأول من عام2004، وبينما يرفض وزير الصناعة والتجارة " علي جوسكن " من حزب العدالة والتنمية القلق المحلي إزاء العجز، إلا أن المحللين الماليين يبدون اقل تفاؤلا من الوزير. ففي 2006 قفز العجز في الحساب الجاري التركي أكثر من 50% ليسجل 34.8 مليار دولار بالسنة. وقد أشار دينيز بايكال رئيس حزب الشعب الجمهوري إلى أن الديون المستحقة على تركيا قد ارتفعت خلال الثلاث سنوات الأولى من وجود حزب العدالة والتنمية في السلطة وبصورة تتجاوز مجموع الديون المتراكمة بين 1970 و 2000 ، وعندما يشمل ذلك أيضا ديون القطاع الخاص عندها يمكن أن يصل الدين إلى حدود 200 مليار دولار، ولو لم يكن هناك تدفق " للنقود الخضراء " لكان على تركيا أن تواجه قريبا تخفيضا آخر للعملة شبيها بالأزمة المالية التي جرت في 2001 والتي قادت إلى طرد كافة الأطراف المسئولة من وظائفهم.


اسلمة التعليم والقضاء:
وبينما أوضح اردوغان أرائه وكيفية تطورها مع الأيام التي قضاها في حزب الرفاه، وان أساليبه وتكتيكاته قد تغيرت بصورة اكبر من أجندته، وقد استخدم الأغلبية التي حققها حزب العدالة والتنمية لإضعاف المؤسسات والآليات التي تقع في صلب العلمانية التركية.

وفي الغالب فان أفعاله تتناقض مع أقواله. فهو على سبيل المثال لم يقر حلم النخبة العلمانية التركية بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلا بقدر تطبيق الإصلاحات التي تطالب بها قيادة الاتحاد الأوروبي وبالتالي إضعاف دور المؤسسة العسكرية التركية التي تعتبر الحامي التقليدي للدستور التركي.

هذا وقد كان اردوغان اقل تسامحا مع التأثير الأوروبي عندما يتعلق الأمر بالمحاولات الأوروبية لمواجهة تقديم الأجندات الإسلامية الاجتماعية. وبعد أن خلصت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى تأييد قرار حظر ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية، أعلن تذمره من القرار قائلا" من الخطأ أن يأتي هذا القرار من قبل أطراف ليست لها علاقة بهذا المجال " الدين " ودون استشارة علماء المسلمين".وفي أيار 2006 وجه كبير مفاوضي محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمرا إلى المسئولين في الدولة بإزالة الورقة التي تعرف بتركيا وعلى أن التعليم فيها ذو نظام علماني.

لا شك أن التعليم في تركيا يشكل إحدى القضايا الساخنة. ويملك الطلاب الأتراك ثلاثة خيارات للتعليم الثانوي: يمكن لهم التسجيل فيما يسمى بمدارس الإمام حاطب الدينية الإسلامية والدخول في إطار رجال الدين، كما يمكن لهم التسجيل بالمدارس المهنية لدراسة التجارة أو يمكنهم الالتحاق بالمدارس الثانوية العلمانية ودخول الجامعة، ومن ثم الانتقال إلى أي من القطاعين العام أو الخاص. وقد قام اردوغان بتغيير النظام: وذلك من خلال مساواة شهادات مدارس الإمام حاطب الدينية مع شهادات المدارس الثانوية، حيث مكن ذلك الطلاب الإسلاميين من الالتحاق بالجامعة وتأهيلهم للوظائف الحكومية على الرغم أنهم لا يتقنون الأصول الغربية.

عندما قامت تركيا في وقت سابق بتنظيم المدارس القرآنية التكميلية بحيث أصبح بإمكان الطلاب رفع مستواهم الدراسي للدين الإسلامي بصورة تتجاوز ما يتم تدريسه في المدارس العامة وذلك لتجنب تلقين الأطفال عبر العلماء الممولين من المملكة العربية السعودية، إن البرلمان الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية لم يكتف فقط بتخفيف القيود على حدود السن المسموح بها وساعات الحضور ولكن أيضا تخفيف حدة العقوبات، حتى أن إحدى الصحف التركية عرضت المدارس القرآنية الغير شرعية وهي تعلن عن نفسها صراحة من خلال الدعاية لنفسها بالصحف المحلية، علما أن عدد المدارس القرآنية في تركيا الآن يتجاوز الستين ألفا أي عشرة أضعاف عما كانت عليه في 1995.

يمكن القول أن اردوغان قد قوض النظام بطرق أخرى أيضا، فبعد هيئة التعليم العالي التي تتألف من رؤساء الجامعات، ورفض المحاولات الرامية إلى جعل الجامعات التركية أكثر ترحيبا بالإسلام السياسي، وقيام الشرطة التركية باعتقال احد المعارضين الرئيسيين له مرتين وهو رئيس جامعة " يوزنجو ييل في مدينة " فان" في الأجزاء الغربية من تركيا وعلى أسس زائفة وقد أطلقت المحكمة سراحه في كلتا القضيتين، وثم وعلى الرغم من اعتراضات الرئيس التركي، فقد تقدم البرلمان الذي يهيمن عليه حزب العدالة والتنمية بمشروع قانون لتأسيس خمسة عشر جامعة جديدة وهو إجراء من شانه أن يتيح لاردوغان اختيار رئيس الجامعة الجديد.

والتهديد الآخر الذي لا يقل خطرا عن السابق للعلمانية التركية هو تدخل رجب طيب اردوغان في شؤون القضاء, شانه في ذلك شان الرئيس الأمريكي فرانكلين ديلانو روزفلت عندما حاول تكديس وزيادة العدد في المحكمة العليا بهدف زيادة صلاحياته في التعيين، وهكذا كان مع إصرار رئيس الوزراء التركي وعلى الرغم من اعتراضات العديد من الليبراليين الأتراك إلا انه تمكن من خلال البرلمان الذي يحظى بهيمنة حزب العدالة والتنمية تمرير تشريع يتعلق بخفض سن التقاعد الإلزامي للتكنوقراط وهذا من شانه قد مكن رئيس الوزراء ولو من الناحية النظرية من استبدال 4000 قاضي من 9000 آلاف.

يمكن القول أن هناك رغبة لدى حزب العدالة والتنمية واستعداد حقيقي لتجاوز القضاء، ففي أيار 2005 حذر الناطق باسم البرلمان " بولنت ايرينج " بان حزب العدالة والتنمية قد يلغي المحكمة الدستورية إذا استمر القضاة بعرقلة تشريعه. وبعد ما يزيد من سنة على ذلك التاريخ قام المدعي العام في محكمة الاستئناف العليا بتوبيخ الحزب على استمراره بالمحاولة في التدخل في شؤون القضاء. وتجدر الإشارة أيضا إلى رفض اردوغان رفض تنفيذ قرارات المحكمة العليا ضد الحكومة وهذا يؤكد ازدرائه لسيادة القانون.وفي العام الماضي تحرك حزب العدالة والتنمية بجرأة اكبر لفرض أجندة مناهضة للغرب، والبلديات التي يقودها الحزب بدأت بحظر الكحول وفقا لتعاليم الإسلام، كما قامت وزارة الصحة بمسح لموظفيها حول معتقداتهم الدينية، هذا بالإضافة إلى قيام الخطوط الجوية التركية مؤخرا بمسح لموظفيها حول موقفهم من القران.

لماذا أهمية فساد حزب العدالة والتنمية:
لقد ساعد الفساد في انحسار دعم حزب العدالة والتنمية الذي وصل الذروة في 2004، ففي الحكومة الأمريكية حتى الموظفين من المستوى المتوسط عليهم الإعلان عن ممتلكاتهم، والقادة السياسيون في الغالب يقومون بتقديم إقراراتهم الضريبية وتكون في متناول وسائل الإعلام، وفي تركيا يقوم رؤساء الوزراء بنفس المنهجية من العمل، ولكن اردوغان رفض في البداية القيام بهذه الخطوة قائلا في معرض تبريره أن ثروته الشخصية هي أمر يخصه وليست من شأن الجمهور.

وعندما لان اردوغان أخيرا وأعلن عن ثروته فقد تبين انه يتمتع بثراء فاحش، وكان لهذا اثر في إبراز العديد من التساؤلات بحاجة للحسم، فقد تبين من خلال وثائق/ المحكمة انه كان يمتلك فقط 330،000 دولار قبل توليه منصب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى انه لم يوضح مصدر ثروته، لقد أثار الإعلان عن حسابه العديد من المشاكل، فالإعلان لم يفصل أصول ممتلكاته ولم يتضمن الهدايا أو الممتلكات المسجلة تحت أسماء أخرى. ولا تزال هناك أسئلة أخرى مثلا حول الترتيبات التي خلالها امتلك بيتا في أنقرة وفيلا في استانبول بعدة ملايين من الدولارات، ويبدو أن بيت استانبول من تقديم شقيق اردوغان، الذي نمت ثروته بالتناسب مع بداية عمل اردوغان في المجال السياسي، ويملك الاثنان علاقة مالية مثيرة للفضول والاستغراب. وقبل أن يتولى اردوغان منصب رئاسة الوزراء قام بنقل ملكيته من الأسهم في الشركات التي كان يستثمر فيها أمواله إلى إدارة شقيقه، إن مثل هذه الأسهم لم تظهر في البيان المعلن لممتلكات اردوغان، وان كان يبدو انه يستفيد منها، علما أن اردوغان قد فشل في تفريغ كافة ممتلكاته ونقلها عند توليه لمهام منصبه، حيث بقي احد كبار المساهمين في ثلاث من الشركات الكبرى والتي كان يمارس أعماله التجارية من خلالها أو توزيع الإنتاج لشركة الحلويات العملاقة " اولكر " علما أن هذه الشركة كانت بعلاقات وثيقة مع حكومة حزب الرفاه والتي قامت أيضا بشراء " بنك فيصل للتمويل " وقد ازدهرت هذه الشركة في ظل اردوغان، إلا أن استمرار الضجة الصحفية حول هذا الموضوع اضطرت اردوغان في النهاية إلى الإعلان عن بيعه أسهمه.

وفي الآونة الأخيرة سمح اردوغان لشركائه التجاريين بدفع التكاليف الدراسية لابنه في هارفارد، وفي زيارته الرسمية الأخيرة إلى موسكو قبلت زوجته هدية شخصية عبارة عن عقد تتجاوز قيمت أكثر من عشرة ألاف دولار، وأعادته فقط بعد الضجة التي أحدثتها وسائل الإعلام. وفي كل من هذه الحالات يتبين أن اردوغان لديه الاستعداد للخلط بين التجارة والمصلحة السياسة وهذا بدوره مدعاة لإثارة العديد من التساؤلات حول تضارب المصالح. ومما تجدر الإشارة إليه أن اردوغان سيبقى يتمتع بالحصانة حتى خروجه من منصبه، ولكن عندما يفعل ذلك فربما جدول المحكمة سيكون حافلا حيث قد يواجه أكثر من عشرين دعوى المتمثلة بالأخطاء المالية والفساد والتمويل الغير مشروع لحزب العدالة والتنمية أثناء توليه منصب رئيس البلدية لمدينة استانبول.

إن مشاكل الفساد التي تحيط بحزب العدالة والتنمية تتجاوز في حدتها اردوغان، كما أن هناك ادعاءات تحيط بوزير المالية " اوناكتان " الذي كان الأول في استخدام حصانته الدبلوماسية للتهرب من اتهامات حول التهرب الضريبي، ثم إصدار تشريع للعفو عن مثل هذه " الجرائم المالية ". ومع ذلك فقد أثار هذا التحايل موجة من المطالبات بإنزال العقوبة. وفي الخامس عشر من شباط 2006 ناقش البرلمان التركي اقتراح توجيه اللوم لوزير المالية " اوناكتان " لانتهاكاته المزعومة لقوانين البنوك والتلاعب بعطاء للسفن السياحية العالمية في اسطنبول. وقد واجه أيضا المحكمة لإقامته فيلا فاخرة في احد ضواحي استانبول العصرية والفاخرة دون استصدار التصاريح الضرورية لذلك، وبهدف حماية وزير المالية من توجيه النقد أو اللوم طالب اردوغان حزب العدالة والتنمية بضرورة المحافظة على تضامنه وتماسكه وهكذا فعل الحزب ونجا وزير المالية من ثلاث تحركات لتوبيخه وانتقاده. إن مثل هذا الفعل نقل صورة حزب العدالة والتنمية من حزب يحارب الفساد إلى حزب يقبل به ويتغاضى عنه.

لقد تطورت التصدعات داخل الحزب، وفي هذا السياق قام " تورهان جوميز " عضو البرلمان عن حزب العدالة والتنمية في " بالكسير " وهي بلدة تقع في غرب تركيا في منطقة " مرمرة " بتوجيه رسالة من خمس صفحات إلى وزير المالية يطالبه فيها بالاستقالة، تحدثت الرسالة بإسهاب عن مخاوف الحزب الداخلية من المزيد الأخطاء وإساءة استخدام منصبه. ومن الأمثلة على ذلك قيام وزارة المالية بتخفيض الضرائب على الحبوب لفترة قصيرة من الوقت قامت خلالها شركة ابن وزير المالية التي تعمل في مجال إنتاج الأغذية باستيراد 4.400 طن من الذرة، وكشف ابن الوزير عن خط لمنتجات البيض المبستر بعد أن قامت الحكومة بذبح دجاج المزارع بعد الهلع الناجم عن أنفلونزا الطيور. وعندما سئل وزير المالية عن هذه المصادفة أجاب ساخرا " ماذا تريدون ؟ هل يجب أن يموتوا من الجوع ؟"

بينما قد يشكل فساد حزب العدالة والتنمية شانا انتخابيا تركيا أكثر مما يكون قلقا أمريكيا، إلا أن أخطاء حزب العدالة والتنمية قد أثرت على الأمن القومي الأمريكي. حيث قام " كونيد زابسو " المستشار الرئيسي لاردوغان بالتبرع لرجل الأعمال السعودي " ياسين القاضي " الذي تعتبره وزارة المالية الأمريكية والأمم المتحدة احد ممولي تنظيم القاعدة، وفي البداية أنكر " زابسو " التهم حول تمويل القاعدة وهدد بمقاضاة الأطراف المسئولة عن ذلك في حال تكرار هذه الاتهامات، ولكن سجلات " مجلس تحقيقات الجرائم المالية" التي تسربت إلى الصحافة أكدت تبرع زابسو بمبلغ ستين ألف دولار في عام 1997 لمؤسسة تديرها القاعدة، وبعد ذلك بسنتين قامت والدته بتحويل مبلغ آخر بلغ 250 ألف دولار.

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، قامت الحكومة التي سبقت حكومة رجب طيب اردوغان بتجميد ممتلكات ياسين القاضي، ولكن مع وجود شريكه التجاري الذي يعمل كمستشار لرئيس الوزراء استأنف ياسين القاضي القرار لأسباب فنية، وأيد اردوغان طلب الاستئناف، وفي مقابلة تلفزيونية له على التلفزيون التركي وصف ياسين القاضي بالمحسن الكريم. واقر رئيس الوزراء بمعرفة ياسين القاضي شخصيا، الأمر الذي يثير سؤالا مهما : كيف قدم "زابسو" شريكه التجاري لرئيس الوزراء، وإذا قام بذلك فعلا، فلماذا؟ وبعد تدخل المحكمة اضطر رئيس الوزراء على إبقاء تجميد ممتلكات ياسين القاضي، كما أن الشركة التي اصبحت مثارا للكثير من الشكوك والتي اختارها " زابسو " أصبحت القاعدة وليست الاستثناء: وفي السابع والعشرين من آذار 2006 سافر رئيس الوزراء اردوغان إلى الخرطوم لمدة يومين لحضور القمة العربية هناك، وأثناء وجوده هناك تجاهل دعوة العشاء الرسمية وقام بدلا من ذلك بالاجتماع مع " فاتح الحسنين " وهو ممول سوداني يرتبط بعلاقات مع القاعدة وتهريب السلاح، ولم يوضح اردوغان الغرض من وراء هذا الاجتماع.

المواجهة المقبلة:
إن الفساد والهجوم على العلمانية قد أثرا سلبا على شعبية حزب العدالة والتنمية حيث شهدت الأشهر الستة الأولى من 2006 انخفاضا في شعبية الحزب من 43% إلى 30%، واظهر استطلاع للرأي بان حزب العدالة والتنمية سيفوز فقط بنسبة 25.5 من الأصوات في الانتخابات القادمة.

وقد يمثل هذا انعكاسا للتعددية ولكنه في نفس الوقت يظهر فقدان الحزب لدعم تيار الوسط الذي دفع به إلى الفوز في انتخابات 2002، أين ذهب هؤلاء" الوسطيين "؟ ويشير نفس الاستطلاع إلى نسبة 20.05 تؤيد حزب الشعب الجمهوري، وستكون الانتخابات القادمة ضربة قاسية لقدرة حزب العدالة والتنمية على الاحتفاظ بالسلطة، كما أشار الاستطلاع أيضا حزبين آخرين سوف يتجاوزان عتبة العشرة بالمائة هما: حزب الطريق القويم بنسبة 13.1% ، وحزب العمل القومي بنسبة 12.2%، وبالتالي حتى لو حل حزب العدالة والتنمية أولا فمن المتوقع أن يخسر نصف كتلته الانتخابية. ويرى محمد آغار الأمين العام لحزب الطريق القويم أن الدعم الأساسي لحزب العدالة والتنمية معرض للخطر، فالحزب الآن أصبح ساحة للمحافظين المتدينين.

إن اردوغان سياسي ذكي وهو يريد أن يصبح الرئيس، ولكنه يدرك أيضا أنه لا يملك التأييد الشعبي لإجراء الانتخابات، كما أن البرلمان الجديد لن يقوم باختياره لمنصب الرئيس، وقد تكون حملته الرئاسية سياسية أكثر منها طموحا، وفي الوقت الذي يزال فيه حزب العدالة والتنمية مواليا لاردوغان إلا أن النزاعات داخل الحزب تحمل مؤشرات عالية، وعبد الله غول ينتظر الوقت المناسب لانتهاز الفرصة وهو بذلك أشبه بدور " جوردون بروان " بالنسبة مع توني بلير . إن المناورة بين الاثنين شديدة وتمتد نزولا إلى كافة مؤيديهم داخل إطار الحزب. إن مسألة اعتماد اردوغان على دعم قيادته للحزب خمس سنوات أخرى مسألة تنتابها الكثير من الشكوك.

وقد تكون دوافع اردوغان في ذلك شخصية أكثر منها حزبية، فإذا توجب عليه ترك الحكومة فانه سيواجه العديد من الأشهر في المحاكمة ومن المحتمل أيضا حكما طويلا بالسجن، وسيخضع حلفاؤه ومساعدوه للتدقيق المالي، وأية حكومة لاحقة قد تطلب المستندات وتفتح الباب أمام الكثير من التحقيقات والمفاجآت.وفي حال رفض اردوغان التنحي فان ذلك من شأنه أن يخلق أزمة رغم مخاطر عدم الاستقرار الذي قد يؤدي إلى التوقع بانقلاب عسكري، ونظرا لأجندة اردوغان الدينية فهناك العديد من الأتراك ينفرون من رؤيته في سدة الرئاسة، فموضوعة الرئاسة ليست مجرد صراع على الحجاب أو أية رموز مشابهة، فالرئيس التركي يمتلك السلطة. فهو لا يملك فقط تحديد أي من الأحزاب سيقوم بتشكيل الحكومة الجديدة- وتمكين الرئيس اردوغان من زيادة آفاق حزب العدالة والتنمية في الدخول في أي ائتلاف- بل يملك الرئيس أيضا سلطة التعيين، فهو يختار وكلاء الوزراء، والمدراء العامون، وإرجاء الموافقة على المرشحين الآخرين الذين تقدم بهم البرلمان، فوجود اردوغان في منصب الرئيس يمكنه من تغطية آثاره، إذ يمكن له الموافقة على رئيس جديد لمحكمة المحاسبة التركية وهي الهيئة التي تراقب وتراجع أعمال الحكومة.

كما يختار الرئيس أيضا مجلس التعليم العالي ، وتعيين ربع القضاة في المحكمة الدستورية وتعيين النائب العام، والتأكيد الرسمي على تعيين الامين العام للمجلس العسكري الأعلى.

وللتأكيد على سلطة الرئيس هي الحقيقة القائمة بان الرئيس الحالي احمد نجدت سيزر اعترض على تعيين أكثر ثلاثة آلاف تعيين تقدم بها حزب العدالة والتنمية، والتي لن يرفضها اردوغان، وقد يكون اردوغان قد حول تركيا بالفعل فمع استعراض جدول الشواغر، قال احد الدبلوماسيين الأتراك أن الرئيس بدعم كبير من الكتلة البرلمانية يمكن أن يستخدم سلطته في التعيين، ومن الناحية النظرية يمكن أن يحدث تغييرا جوهريا في النظام خلال تسعة عشر شهرا.

بالإضافة إلى ذلك يمكن للرئيس في مرة واحدة أن يعترض على التشريعات وعلى البرلمان أن يعيدها إليه حيث يمكنه تحويل التشريعات المتنازع عليها إلى المحكمة الدستورية لاتخاذ القرار وهو فعل قام به الرئيس الحالي أكثر من مائة مرة. إن مثل هذه الضوابط والتوازنات هي إحباط لحزب العدالة والتنمية. وهذا التوتر قد قاد إلى اندلاع العنف ففي السابع عشر من أيار 2006 قام احد المحامين الإسلاميين الذي كان غاضبا من قرار المحكمة برفض التشريع الذي تقدم به حزب العدالة والتنمية حول الخمار فأطلق النار في مبنى المحكمة العليا وتسبب بمقتل احد القضاة. علما أن اردوغان لم يحضر جنازة القاضي القتيل.

هل سيتدخل الجيش؟
ومنذ بدء نظام تعدد الأحزاب في تركيا فان الجيش قد نظم الانقلابات العسكرية في 1960 و 1980، وضغط على الحكومات لتقديم استقالتها في 1971 و 1997. وعلى أية حال إن التكهنات حول التدخل العسكري الآن لا مبرر لها.

لن يكون هناك عملا عسكريا لمنع اردوغان من الرئاسة فالمؤسسة العسكرية ليست وحدها التي أدركت التهديد الذي يحيط بالعلمانية التركية فهناك العديد من المؤسسات التي لفتت انتباه رئيس الوزراء إلى المخاطر الناجمة عن دفع النظام إلى هذا المدى، فعلى سبيل المثال وفي الثالث والعشرين من آب 2005 حذر مجلس الأمن القومي حزب العدالة والتنمية من جراء أعماله التي أصبحت تبتعد كثيرا عن الدستور، علما أن مجلس الأمن القومي كان تقليديا يتشكل من الجيش ولكنه أصبح الآن يتمتع برئيس من المدنيين وأغلبية مدنية أيضا.والرئيس الحالي احمد نجدت سيزار قام بتحذير اردوغان مرتين على الأقل بضرورة بقائه ضمن إطار القانون. وفي الثاني من تشرين الأول حذر الجنرال " يشار بيوكانيت" قائد القوات المسلحة التركية طلاب الكلية العسكرية من تنامي ظاهرة الأصولية الإسلامية وقال" سيتم اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير ضدها " وقد أعاد تحذيره في مراسم الاحتفال بالذكرى الثامنة والستين لوفاة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس وأول رئيس للجمهورية التركية.

ماذا سيحدث إذا اردوغان لم يستجب اردوغان للتحذيرات؟ فلن تكون هناك دبابات في الشوارع، بل إجراءات وتدابير سياسية وقضائية. إن الاتهامات المعلقة بالفساد التي تواجه اردوغان يجب أن تمنع من صعوده للرئاسة، إن ملفات الفساد من شأنها أن تفاقم الصراع داخل حزب العدالة والتنمية وان تثير تساؤلات مشروعة حول مدى موائمته لمنصب الرئاسة، وهناك سابقة في هذا الإطار: فالقائد السابق لحزب الوطن الأم مسعود يلماز تطلع لان يصبح الرئيس في 2000، في الوقت الذي كان سجله في ذلك الوقت نظيفا ولكن لمجرد ادعاء بسيط في تدخله الغير المناسب في الأزمة المالية دفعت ترشيحه جانبا.

وفي هذا السياق اقترح حزب الشعب الجمهوري على اردوغان بان يتقدم للرئاسة من خلال مرشح يحقق قبول الجميع " حل وسط ". هل سيرفض اردوغان الإذعان وهذا ما تبدو عليه الأمور،حيث يمكن لقائد حزب الوطن الأم أن يحرف اتجاه اردوغان عن الترشيح للرئاسة من خلال التعجيل بالاستقالة الجماعية لأعضاء حزبه في البرلمان البالغ عددهم 153 عضو, لان البرلمان يجب عليه التصديق على أية استقالة، وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى أزمة دستورية إذ على حزب العدالة والتنمية أن يقبل أو يرفض أو محاولة الإبقاء على النصاب القانوني لإدارة الشؤون اليومية، وبسبب هذه الظروف والضغط المدني والتهديد الحقيقي لاندلاع العنف بالشارع قد يدفع اردوغان إلى الدعوة بتنظيم انتخابات مبكرة.

وقد يتردد بايكال في مواصلة هذا المسار خوفا من أن الكثير من نواب حزبه " حزب الوطن الأم " سيرفضون متابعة هذا الطريق. إن المخصصات الإضافية التي يفرضها الوجود في البرلمان هي إغراء حقيقي، وفي الواقع فان القيادة الحاسمة سوف تعزز من مكانة وشعبية حزب الوطن الأم ويمكن لذلك أيضا أن يضع بايكال كمرشح للرئاسة للبرلمان المقبل.

هل يجب أن يقود عناد اردوغان إلى زيادة حدة الأزمة؟ هناك سيناريوهين محتملين: الأول، ومع النزف القائم في شعبية حزب العدالة والتنمية قد يقوم عبد الله غول أو أي من الشخصيات البارزة بالحزب بالانشقاق عن جسم الحزب الرئيسي وتشكيل حزب آخر كما فعل ذلك اردوغان نفسه من قبل. ويمكن لهم الإعلان مباشرة عن كتلتهم البرلمانية مع وجود 100 نائب على الأقل. السيناريو الثاني يتمثل عن استمرار المأزق السياسي الحالي الذي قد يثير الإجراءات القضائية والذي يمكن أن يبعث بالحزب إلى مصير كل من حزب الرفاه وحزب الفضيلة.

مما لا شك فيه أن حزب العدالة والتنمية قد انتهك قوانين الانتخابات التركية. ففي حزيران 2005، حدد " نوري اوك " المدعي العام الرئيس في محكمة الاستئناف العليا ثمانية قوانين فرعية داخل الحزب تتعارض مع القانون التركي، وانتقد السلطة شبه الدكتاتورية التي يتمتع بها اردوغان ضمن إطار حزبه السياسي.

وإضافة إلى ذلك فحزب العدالة والتنمية يشكل انتهاكا لقانون الأحزاب السياسية والذي يحظر على الأحزاب من السعي ومحاولة نقض إصلاحات أتاتورك الأساسية في محاولة لتغيير الهوية العلمانية لتركيا أو استغلال الدين لقضايا عامة. وهنا فان خطابات اردوغان ورئيس البرلمان التركي " بولند ارينج " يمكن أن يوفرا الأرضية المناسبة والكافية لقرار حل حزب العدالة والتنمية، وهو الحدث الذي يمكن أن يقود إلى عقد انتخابات مبكرة.

ماذا يتوجب على واشنطن أن تفعل؟
جميع ألوان الطيف السياسي والأتراك عموما يدركون بأن هناك أزمة تلوح في الأفق. أيمكن لبرلمان أشبه بالبطة العرجاء أن يؤكد على اردوغان كرئيس لتركيا، حيث يمكن أن تندلع مظاهرات في الشوارع وبروز احتجاجات عنيفة. ويمكن القول أن المسئولين في كافة أرجاء تركيا قلقين جدا من هجوم حزب العدالة والتنمية على العلمانية في تركيا.

ماذا تعني مثل هذه السيناريوهات إلى واشنطن؟ قد تبدو الديمقراطية التركية معقدة ولكنها تعمل. إن تركيا دولة علمانيه، وسوف يترتب عليها مواجهة أجندة اردوغان بطريقتها الخاصة. ويجب على المسئولين الأمريكيين أن يتحلوا بالصبر ولا يقوموا بشيء من شأنه تعزيز موقف حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء أو طموحاته. في الوقت الذي يرغب فيه كل دبلوماسي برؤية الاستقرار يجب أن تبقى المصالح الأمريكية راسخة في رؤية ديمقراطية تركية قوية والنظام العلماني بدلا من التركيز على قائد سياسي واحد. كما يجب على واشنطن أن لا تفعل شيئا من شأنه تقويض العلمانية التركية أو التقليل من قيمة المخاطر التي قد تتعرض لها.

وهنا ومع أن موقف وزارة الخارجية الأمريكية في الجانب الخاطئ، فبعد التحذيرات التي أطلقها " احمد نجدت سيزر و يشار بيوكانيت " تدخل السفير الأمريكي في تركيا " روس ويلسون " في النقاش مدافعا عن رئيس الوزراء رافضا كل المخاوف حول تآكل وانحسار العلمانية. وحتى نكون منصفين فقد عكس ويلسون موقف رؤسائه. وفي الرابع عشر من كانون الأول 2005 ومع انتقال اردوغان إلى نزع القوة من النظامين القضائي والتعليمي تحدث مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأوروبية والأوراسية "دانييل فرايد" واصفا حزب العدالة والتنمية بأنه "النسخة الإسلامية للحزب الديمقراطي المسيحي" والأمر ليس كذلك. وكما قال اردوغان مرة ساخرا " إن الديمقراطية أشبه ما تكون بالعربة، فأنت تركبها لغاية الوصول إلى المكان الذي تريده ومن ثم تترجل منها".ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية فان اردوغان على مقربة من تحقيق مراده ومقصده، وإن الديمقراطية المرنة تعمل على احتمال حدوث أزمة دستورية، ويجب على واشنطن أن تدع الديمقراطية تأخذ مسارها حتى لو كان ذلك يعني فترة قصيرة من عدم الاستقرار.

- المصدر The Middle East Forum www.meforum.org

https://alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=470