يوم الأحد الماضي 21 مايو استدعى قاض في وسط السعودية معلماً له اهتمام بعلم الفلك، فأطلعه على مضمون دعوى رفعت ضده من قبل عدد من خطباء وأئمة مساجد وزملاء له في التدريس، تتهمه بالإنحراف وإفساد الطلاب وتطالب بإبعاده عن التدريس ونفيه عن المنطقة، جاءت هذه الخطوة من قبلهم بعد محاضرة ألقاها على طلابه أثناء الكسوف الكامل للشمس في شهر مارس الماضي، أشار فيها إلى أن الخسوف والكسوف آيتان من آيات الله يخوّف بهما عباده، وليس بالضرورة أن يكون ذلك عن غضب منه أوعقاب لعباده على ذنوبهم، مستشهداً على ذلك بأقوال عدد من المفسرين كالإمام القرطبي وغيره.
شهد الوسط الديني السلفي السعودي بعد حرب الخليج الثانية 1990 شيئا من تمرد التلاميذ على الشيوخ، تجلى ذلك الجموح في خطاب سياسي معارض استنبطه جملة من الخطب والدروس والتسجيلات الصوتية والمنشورات التي تعبر عن وجهة نظر معارضة لفتوى هيئة كبار العلماء بخصوص وجود القوات الأجنبية وانداحت فيها بعد دائرة النقد لتجمل مجمل المسائل التي تتناول علاقة الوالي بالرعية، والمال العام، وحدود وضوابط الطاعة بالمعروف، كان من المتوقع أن تشمل تلك المراجعه من عمق البيت الوهابي التي استثمرت خطابا أجنبيا عن مدرستها- مساحة أوسع لتطال الميراث الفقهي والجمود المذهبي الذي كان لعقود طويلة سببا مباشرا في ضمور المذاهب الفقهية السنية الأخرى، لكنها ظلت زوبعه مقتصرة على مجمل تلك الأفكار المقتضبة المشوشة والتي لم تتجاوز هذه الأخرى أكثر من مستوى الشعارات، ومع نهاية التسعينيات أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء عددا من بيانات التتويب في حق أشخاص اعتبروا دائما من حمام البيت، لاختلافهم مع جناح مهيمن ضمن مؤسسة الفتوى الرسمية، في مسائل لا تكاد تذكر كانت لا تتجاوز رأيا آخر ضمن دائرة المذهب الحنبلي وهو المذهب الرسمي للمملكة العربية السعودية، حيث أصدر رئيس المجمع الفقهي الإسلامي، مفتي المملكة العربية السعودية عام 1999 بيانا مشتركا مع ثلاثة أعضاء فتوى يطالبون فيها باحثا قام بتأليف رسالة عن جواز تقصير اللحية عما دون قبضة اليد- وهي مسألة يدرجها جمهور الفقهاء ضمن أحكام الآداب والمباحات بالتوبة والإعتذار عما كتبه، وقامت وزاره الإعلام بمصادرة الكتاب ومنع توزيعه.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كان ردة فعل المسؤولين السعوديين إنكار أن يكون خمسة عشر سعوديا مشاركين في تلك الغزوة، ولم يأت الاعتراف بشكل موارب إلا بعد أكثر من عام تقريباً، وحينما وقعت تفجيرات الثاني عشر من مايو 2003 في العاصمة الرياض، نشرت صحيفة الجزيرة السعودية وجهة نظر لكاتب سعودي توصل إلى أن جثث المنفذين التي أعلنت أسماء أصحابها كانت لأشخاص قتلوا مسبقاً، ثم استخدمت جثثهم من قبل جهات خارجية معادية، إلا أن تتابع العمليات والاعتداءات على رجال الأمن السعوديين في أكثر من منطقة، وضلوع أسماء مشايخ كانوا يعقدون حلق التدريس في المساجد ويؤلفون الكتب في التشجيع على تلك العمليات وإعطاء الغطاء الشرعي لتلك العمليات، دفع أخيراً أولئك المسؤولين لأن يعلنوا صراحة أن هناك مشكلة وأن ثمة مسؤولية كبرى منوطة بالعلماء والمفكريين – وهذا ربما هي المرة الأولى التي يذكر فيها المفكرون في الخطاب الرسمي- الذين تخاذلوا عن أداء واجبهم وقصروا في وظيفتهم في التحذير من الفكر التكفيري الذي ترعرع على حين غفلة دون الرقيب، واستقطب كثيرا من ابناء البلد.
كانت السلطات السعودية- حتى اللحظة هذه- تتعامل مع الشيوخ مصدري فتاوى التكفير في حق عدد من كتاب وأدباء وشعراء مصحوبة ببعث جديد، وترويج لفتاوى تكفير أبناء المذهب الشيعي منتصف التسعينيات، ببرود وتجاهل ملقية اللوم أحياناً على ضحايا تلك الفتاوى باعتبارهم فاقدي الحكمة والنضج، حيث جانبوا السكينة باستفزاز مصدري الفتوى، الذين لم تستثن فتاواهم إسلاميين يخالفونهم الرأي والاجتهاد، حيث كانت رسالة الدكتوراة لأستاذ العقيدة السابق بجامعة أم القرى سفر الحوالي عن (ظاهرة الإرجاء في العصر الحديث)، اتهاما بالزندقة لكل من فهمي هويدي وخالص جلبي وحسن الترابي وحتى الجابري. وفي الفترة مابين عامي 2000وحتى عام 2002 شهدت منتديات الإنترنت والمدارس والمساجد انتشار فتاوى تكفير لأشخاص بأعيانهم،واستمرت السلطات بالتجاهل، وأما علماء المؤسسة الدينية فقد كانت تلك الفتوى تعبر عن قناعاتهم بالوكالة من دون أن يتعرضوا لإحراج التصريح بها، ما دام أنها لا تتعرض للتشكيك بشرعية النظام، أو تكفير لولي أمر المسلمين، أو أحد أفراد الأسرة المالكة الأقوياء، ومع تفجيرات الثاني عشر من مايو 2003 كان أولئك على قائمة المطلوبين أمنياً بعد أن كشفت التحقيقات ضلوعهم في فتاوى التفجير والقتل التي استهدفت الحكومة وأجهزتها الأمنية ومجمعات سكنية لأجانب.
واليوم تعكس تصريحات المسؤولين موقفين متناقضين:
أولهما: أن العلماء والدعاة يقومون بواجبهم تجاه الفكر التكفيري عبر لجان المناصحة والإرشاد، حيث جرى الإفراج عن مئات من الأشخاص الذين أعيد تأهيلهم وتراجعوا عن أفكارهم.
وثانيهما: عقب كل عملية أمنية يقوم يقوم بها مسلحون إسلاميون تجرأوا بالشكوى من تقصير العلماء والمفكرين في أداء وظيفتهم.
في السنوات القليلة الماضية كثرت الدعوة إلى إفساح المجال لكل ألوان الطيف الديني والمذهبي ليرى النور كخطوة أولى في طريق الألف ميل نحو تهيئة جو من التسامح والإنفتاح، واقترح البعض (لجنة إفتاء) وهي عبارة عن مجلس فقهي محلي مصغر يسمح بخيارات متنوعة من الاجتهاد الفقهي تخفف الاختناق والتضييق اللذين تعاني منهما مناطق وفئات ومذاهب تشكل نسبة كبيرة في المجتمع السعودي، بحيث تسمح تلك الخطوة بتهيئة أجواء انفتاح عبر حلول نابعة من التراث الفقهي، وتوجد مناخا صحيا يمنح الفرد استقلالية ويخفف وطأة الهيمنه الطاغية للأصوات المتشددة، وأن تجد تلك الخيارات موطئ قدم في وسائل الإعلام تسمح لها بالانتشار والذيوع ومن ثم القبول، وتخلق أجواء انفتاح عبر حلول نابعة من التاريخ الحضاري الإسلامي في ذروة عطائه، وتوجد مناخاً صحياً يمنح الفرد استقلالية، ويخفف وطأة الهيمنة الطاغية للأصوات المتشددة، وأن تجد تلك الخيارات موطئ قدم في وسائل الإعلام تسمح لها بالانتشار والذيوع ومن ثم القبول، تكررت هذه الدعوة من قبل متخصصين في الشريعة ومثقفين بشكل أكثر تركيزا في الصحف والملتقيات وفي جلسات الحوار الوطني، وكانت تلك الدعوة من أشخاص يمثلون رؤى غير تقليدية ميالة إلى الحداثة والاستنارة، نابعة عن وعي منهم بأن ذلك أكثر الحلول نجاعة واقلها خسارة، حيث لا تعدو أن تكون حلولا اسلامية شرعية لا يجادل أحد في ذلك؛ إذ هي امتداد لكل ذلك الثراء والتنوع اللذين شهدتهما الأمة الإسلامية عبر القرون السابقة، والعقود القريبة الماضية في الحرمين الشريفين، غير أن الأمر يبدو أكثر تعقيدا حيث بدا أن الحضور المهيمن للفهم المتشدد يعود إلى حزمة من الأسباب تفاوتت في إسهامها لإيجاد مناخ ثقافي واجتماعي متأزم، وأن الحقيقة المفجعة هو أن التشدد أصبح خبزا له إغراؤه وسحره، وأنه استحال نوعا من البيزنس، يتسابق اللاهثون في مضماره. وفي هذه البيئة ترعرع التطرف والعنف.
مع ثورة الإتصالات ورواج الأطباق الفضائية كانت جبال من الثوابت السياسية لدى المشاهد السعودي تتعرض للخلخلة، وتنفض ركاماً من القيود الفقهية، أربكت المؤسسة الدينية السعودية في عمقها، ومع إنشاء قناة الجزيرة القطرية كان البرنامج الأسبوعي للدكتور يوسف القرضاوي تتوسع قاعدته كل يوم ويتنامى جمهوره، وفي برنامج إفتاء يبثه التليفزيون السعودي على الهواء لم يتمالك أحد القضاة نفسه حينما طالب القرضاوي بالتوبة جراء تضليله الأمة بفتاواه.
في الثاني عشر من شهر ديسمبر عام 1924 عقد أول اجتماع بين علماء الحجاز من شتى المذاهب الفقهية، وبين عدد من علماء نجد من الرياض والقصيم، وكما هو الحال في الحوارات التي تحوي فرقاء دفعتهم رغبة سياسية للجلوس على طاولة الحوار، فقد صدر البيان المشترك باتفاق الجميع على مجمل الأفكار التي كانت مثار الخلاف ومبعث التكفير وسفك الدماء، وغني عن القول أن الكفة مالت لصالح القوة الدينية والسياسية الوهابية الصاعدة وفي خلفية المشهد جيوش الأخوان البدو تزلزل القلوب، بعد المجازر التي شهدتها الطائف حيث قتل مفتي الشافعية وعدد من عائلات حراس الكعبة.
ولكن صدور أمر الملك عبد العزيز بتوحيد المسجدين المكي والمدني على إمام واحد في الصلاة وإلغاء تعدد الجماعات في الحرمين وفقاً لكل مذهب كما كان معمولاً به، كانت خطوة لقيت قبولا من معظم العلماء، في سبيل توحيد الأمة على إمام واحد، ثم صدور مرسوم ملكي بعد بيان مكة بسنة واحدة باعتماد الفقه الحنبلي في القضاء في كل المحاكم الخاضعة لسلطان نجد والحجاز قبل الإعلان عن المملكة العربية السعودية عام 1930 قضى على كل الآمال التي كانت تداعب أتباع المذاهب الفقهية بأن يكون لهم على الأقل حضور في الفتيا والتدريس ضمن نطاقهم الجغرافي وامتدادهم الاجتماعي فضلاً عن أن يحتفظوا بامتيازاتهم السابقة التي باتت تضمر عاماً إثر آخر.
وقد كان من المفارقات أن يكون أحد كبار علماء الحجاز وأول الموقعين على البيان المشترك وهو محمد حبيب الله الشنقيطي المالكي المذهب أحد أوائل من ضيق عليهم ومنعوا من الافتاء، أعقبها استدعاؤه إلى الرياض بعد ضغوط مورست على الملك عبدالعزيز لاستتابته أو قتله، ولكن الملك آثر أن يمنحه بعض المال ويشير عليه سراً بأن يلجأ إلى مصر فترة من الزمن حتى تهدأ ثائرة المشايخ. ومثل ذلك جرى مع عالم شنقيطي آخر هو محمد الخضر الذي منع من الإفتاء والتدريس بعد مناظرة جرت بينه وبين علماء الرياض حول المجاز في القرآن الكريم.
إن من يحاول اليوم أن يستحث ذاكرة من بقي على قيد الحياة من علماء المالكية والشافعية والأحناف في الإحساء، الذين أدركوا فترة ما قبل تأسيس المملكة فسيدهشه سطوة الخوف الذي لازال حتى فترة قريبة مهيمناً، لا لأنهم تواطؤوا مع أعداء سياسيين للحكم، وليس لأنهم أقاموا قباباً يطوفون حولها، بل خوفاً من أن تصادر بعض كتب أئمة مذهبهم الفقهية إضافة إلى كتب التصوف وكتب الكلام التي توارثوها حيث عمدوا إلى دفنها وإخفائها في خزائن مخفية تبنى مع أساسات البيوت كما كان يفعل أتباع المذهب المالكي.
عام 1906 شهدت ساحة الصفاة في مدينة الرياض مقتل عالم دين شاب هو عبد الله بن على بن عمروعن ثمانية وثلاثين عاماً، بعد سنوات من السجال والنقائض التي قامت بينه وبين علماء الرياض، حول مسائل خالفهم فيها كان أهمها تكفيرهم لأمراء آل رشيد والدولة العثمانية، ومسائل أخرى فقهية، وبعد عودته إلى مسقط رأسه بريدة بعد سنوات قضاها في التعلّم بين علماء الحجاز من شتى المذاهب تصاعد الخلاف بينه وبين علماء آل سليم في بريدة وورثة المذهب الوهابي في القصيم بعد هجرة جدهم من الدرعية اثر سقوطها تحت مدافع ابراهيم باشا، فصدرت فتوى بقتله حرابة لشق عصا لمسلمين وإثارة الفتن والتأليب على إمامهم، وافقت تلك الفتوى هوى لدى الأمير الطامح حتى صدرت فتوى بقتله وافقت هوى لدى الأمير الطامح عبدالعزيز بن سعود بعد استيلائه على الرياض فقط بأربع سنوات، وفي ذروة الصراع بينه وبين آل رشيد في حائل(قتل ابن رشيد في ذلك العام) تكفلت تلك الحادثة بالقضاء على أي أصوات معارضة حتى ولو كان الخلاف على مسائل بعيدة عن الصراعات السياسية.
وبحلول منتصف القرن الثامن عشر ضعفت دولة آل سعود ولم تكد تتعافى من الضربة الساحقة لحملة الباشا المصري قبل ذلك بسنوات، حتى نشأت الصراعات بين أبناء البيت الحاكم فنتج عن ذلك صعود نجم إمارة آل رشيد في حائل واستقل عبدالله بن رشيد بحكمها، ومع تضاعف الموارد الإقتصادية للإمارة الصغيرة التي خلبت ألباب الرحالة، وتوطيد علاقتها بالعراق والشام والعثمانيين وانفتاحها على الحجاز، انعكس الرفاه ثقافياً بطباعة جملة من أهم كتب التراث، على نفقة حكام الإمارة، ومع ازدياد أهمية تلك الواحة استوطنها جملة من التجار الإيرانيين الشيعة الذين عرفوا باسم المشاهدة، أو المشهديين، وفي قصيدة يهجو فيها سليمان بن سحمان(ت 1931) حكام حائل و ساكنيها يذكر أن من مسوغات تكفيره لحكامها وجود التجار المشاهدة(الرافضة) الذين يمارسون شعائرهم برضى وقبول من حكامها وأهلها، إلى أشياء أخرى من الرذيلة-حسب قصيدته- كانتشار الموسيقى وآلات اللهو ورواج حالة أدبية عكستها قصائد الغزل!
لم تكن ضحايا ذلك الانغلاق فقط من فئة الخصوم والمخالفين، فقد طال حتى الأنصار والمنافحين عن المذهب من بيت المؤسس نفسه الشيخ محمد بن عبدالوهاب حيث شهدت الدرعية أيضاً عام 1794 قطع رأس عالم شاب وهو محمد بن على بن غريِّب صهر بن عبدالوهاب نفسه، بعد أن سأله أحدهم عن حكم الأموال المنهوبة من البادية والمناطق التي اعتبر أهلها مشركين لاتخاذهم موقفاً مناوئاً للدعوة الوهابية، فكانت إجابته بعد تردد منه هو تحريم الاعتداء على تلك الأموال، وأن استباحتها باسم الجهاد ليس إلا شبهة لاستحلال ما حرم الله، بسبب هذه الفتوى قتل بن غريِّب (صبراً) كما عبر المؤرخ ابن بشر أي بعد أن وضع في القيود وأعدم علناً.
كانت عدد من المدن في نجد قد شهدت نفي أو إبعاد آخرين إما لاختلافهم مع المدرسة السائدة أو لسلوكيات كانت تجسيداً لميول فقهية رجحوها، كما حصل مع الشيخ إبراهيم الجاسر أحد العلماء وحفاظ الحديث حيث قوبل بنفرة وعداء واضحين من أقرانه ومن بعض شيوخه الذين لم يقنعهم موقفه من قضايا عدة كان أهمها موقفه المعتدل تجاه (الدولة) وهو تعبير كان يستخدمه أئمة الدعوة الوهابية عند الحديث عن الخلافة العثمانية، موقف الجاسر المناقض للموقف التكفيري لعلماء آل الشيخ وأنصارهم، إضافة إلى حزمة من الآراء الفقهية لم تلق رضى منهم، اضطره إلى الهجرة من مرابعه ومسقط رأسه وهو في سن متقدم يعاني من الأمراض والشيخوخه وتوجه إلى الكويت ليلفظ أنفاسه بعدها في مدينة الزبير جنوب العراق عام 1919.
وفي عام 1939 قام الشيخ عبدالرحمن السعدي بنشر رسالة في تفسير الآية والأحاديث المأثورة عن خروج يأجوج ومأجوج قبل قيام الساعة، كما قام أيضاً بالإفتاء في الطلاق الثلاث بأنه واحدة، وهو قول قال به بعض كبار علماء الحنابلة كابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومع مطالبة بعض العلماء بمحاكمة السعدي وتأديبه استدعاه الملك عبدالعزيز، وقد تعددت الروايات التي تحكي تفاصيل ماجرى له، كان من ضمنها أن الملك أبدى عدم رغبته بأن يطاله أذى، كما حصل مع غيره مثلما حدث لابن عمرو، واقترح عليه أن يقصد اليمن - أي المنطقة الجنوبية من السعودية عسير وتهامة- يبين لهم التوحيد ويعلمهم الدين ويعرض عن الأقوال التي تثير الإزعاج وتخالف ناموس السكون، هذه إحدى الروايات غير أن المؤكد بعدها أن ابن سعدي لزم الصمت مؤثراً البقاء بين ابنائه وتلاميذه في عنيزة، واكتفى بالافتاء سراً لمن استأمنه من المستفتين في قضايا الطلاق، وهو نفس الخط الذي اقتفى أثره فيه اثنان من كبار علماء السعودية الشيخ بن باز و تلميذ السعدي الشيخ محمد بن عثيمين، وكالعادة لم يتوان الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي السعودية باستخدام سطوته ونفوذه لمنعهم من الإفتاء بذلك، كما تشهد به فتاواه المطبوعة، ولم يتمكن أحد من التصريح بتلك الفتوى إلا بعد رحيل ابن إبراهيم عام 1969.
غني عن القول أن موقف الوهابية في تكفير الخلافة العثمانية كان موقفاً سياسياً وجد غطاء دينياً، ولكنه تعرض للتزحزح في مرات عديدة ضمن فترة الشد والجذب مابين الخلافة والإمارة المتمردة التي لم تكف عن مضايقتها للباب العالي ورفض شرعيته، وبسط نفوذها على الحجاز والحرمين. إلا أن تركي بن عبد الله قام عام 1856 بإرسال عريضة إلى الجناب العالي بمصر يدين له فيها بالولاء والطاعة، ولكن ذلك لم يلق قبولا من باشا مصر الذي طلب أن يمثل بين يديه، و يذكر سليمان الدخيل مؤسس جريدة الرياض البغدادية أنه تحدث أكثر من مرة مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن حول الاستفادة من الدستور العثماني بعد التنظيمات الدستورية الإصلاحية التي قامت بها، وأن الملك كان متشجعا لتقريب وجهات النظر ولكن قوبلت تلك الخطوة من عبدالعزيز ببرود، وفتور من قبل دولة الخلافة التي كانت تتهيأ لعصر جديد على يد أتاتورك.
غير أن كل ذلك التراث من فتاوى التكفير على مسائل فقهية أوسياسية جرى اعتبارها من صلب قضايا الإيمان والاعتقاد مازالت حتى اليوم تؤتي أكلها لدى أتباع المذهب والتلاميذ الأوفياء لتراث الأسلاف، فقد جرى التعامل معها بقداسة أسوة بكل تلك الآراء التي يمتلئ بها تراثنا في تكفير المخالفين وأهل الأهواء والبدع، مغفلين الجوانب الأخرى لذلك الصراع، ومجرد إطلالة على أفكار أبو محمد المقدسي الذي يوصف بأنه الأب الروحي للسلفية الجهادية التكفيرية سيرى كيف اعتمدت بشكل أساسي على تراث علماء الدعوة النجدية.
عام 1941 انتقل الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود إلى قطر قادما من الرياض، وكأحد أكثر طلاب مفتي السعودية محمد بن إبراهيم نجابة وسعة أفق، ولكن البيئة التي نشأ بها لم تكن تلائمه لإطلاق عقاله، ويبدو أن عودته الثانية من الدوحة إلى الرياض عام 1939 بعد التقائه بالشيخ محمد بن مانع كشفت له كم أن البيئة خانقة، بعد أن بدرت أكثر من مرة مواقف منه عكست لشيخه ولزملائه نزوعه إلى الإستقلال، وحينما قام بالإنتقال من الرياض إلى قطر (المالكية المذهب) رئيساً لمحاكمها وعالما ومفتياً برغبة من أميرها الشيخ قاسم، منحته تلك النقلة حرية أكبر وأطلقت طاقاته بعيداً عن أجواء الرياض، ولكن ذلك لم يكن نهاية المطاف فقد اعتبرت اجتهاداته لاحقاً في مناسك الحج، والمهدي المنتظر، وإشكالية مفهوم القضاء والقدر، من قبل شيخه وبعض أقرانه انحرافاً، وقد كانت معظم الردود التي امتدت من فترة انتقاله تقريباً وحتى أوائل الثمانينيات بلغاتها القاسية وردة الفعل العنيفة على فتاواه صادره من شيخه ومن زملائه من علماء السعودية.
وقد تعرض الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمين الذي شغل قبل وفاته منصب الأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي، للإبعاد عن مسقط رأسه، بعد فتواه بجواز صلاة الرجل في بيته-وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وقول بقية أئمة المذاهب الأربعة – وإفتاؤه بجواز شرب الدخان، في بيئة كانت دائماً تقرن مابين شرب الدخان وعدم الصلاة في المسجد ومابين الفجور والانحلال، حيث كان يعاقب الشخص الذي تفوته صلاة الفجر في المسجد بالتشهير به ومصادرة شماغه أو غترته بعد أن يجبر على خلعها من على رأسه أمام الملأ، وإذا لم يكن وجيها، وكان شخصاً مغموراً لايؤبه له فقد تنهال على جسده بعض العصي.
مع قيام الحكومة السعودية بأعمال توسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة في الخمسينات الميلادية نشأت مشكلة التعامل مع مقام إبراهيم الذي كان لصوقه بالكعبة يشكل عائقاً للطائفين، فكتب الشيخ عبدالرحمن المعلمي (ت 1962) بحثا يجيز نقله خطوات قليلة كما هو عليه الحال اليوم، فألف الشيخ سليمان بن حمدان المدرس بالمسجد الحرام(ت 1977) كتاباً يكفر فيه المعلمي حيث اتهمه بالدعوة إلى إزالة المقام خارج المسجد ومقارنته بالقذارة التي يجب أن يطهر منها البيت العتيق، كانت رغبة القيادة السياسية حينها بأن تحسم المسألة لصالح نقل المقام بعد حملة فقهية مضادة تجهز على أي صوت معارض أو مثير للبلبلة دافعاً للمفتي الشيخ محمد بن إبراهيم إلى أن يسهم بتلك المعركة حاسما الخلاف لصالح المعلمي، وكان سليمان الحمدان قد قام بتأليف كتاب كفر فيه العالم العراقي محمد محمود الصواف والمفكر الباكستاني أبا الأعلى المودودي. وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم نفسه هو من قام بإنهاء عقد عالم الحديث السوري الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من التدريس في الجامعة الإسلامية عام 1963 وإبعاده من السعودية لاختلافه مع عدد من أساتذة الجامعة في عدد من المسائل الفقهية.
يذكر الشيخ يوسف القرضاوي أنه بعد صدور كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) سعى عدد من العلماء في السعودية لمنع كتابه من النشر في الداخل، فقام بمخاطبة الشيخ ابن باز الذي توصل إلى حل وسط بأن يسمح بتوزيع الكتاب وفي الوقت نفسه يقوم د.صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء حالياً، بتأليف كتاب يتضمن مآخذه على الألباني، قد تكون هذه هي المرة الأولى واليتيمة التي شكلت استثناء لم يتكرر مع مئات الكتب الدينية التي منعت من التوزيع أو صودرت، وفي حديث لي عام مع عضو المجلس الأعلى للإعلام سابقاً الدكتور راشد المبارك عام 2001 أخبرني أن عدداً من العلماء قدموا لائحة بثلاثة آلاف كتاب غالبيتها العظمى من كتب التراث مطالبين بمنع نشرها ومصادرة الموجود منها وعدم إعادة طباعتها.
كتاب الشيخ الألباني (الحجاب) أو (الجلباب) لم يتفق مع تقاليد وعادات علماء المؤسسة الرسمية وحيث إن القول بستر ما عدا الوجه والكفين هو الأشهر وأحد القولين في المذهب الحنبلي ومع ذلك منع الكتاب لسنوات طويلة لأنه يخالف تقاليد معظم هيئة كبار العلماء، أو بالتحديد للجناح الأقوى في الهيئة.
عام 1992 كشفت تحقيقات الأجهزه الأمنية أن قيام أحد المراكز النسائية في السعودية بطباعة وتوزيع كتاب الألباني (الحجاب) كان أحد المبررات في الاعتداء على ذلك المركز، وحتى اليوم يلحظ المتابع كيف أن قولاً بمسألة فقهية لها مستند في التراث الفقهي وفتاوي الأئمة المجتهدين تخالف المتعارف عليه لدى علماء الفتوى الرسميين كان مسوغاً للاتهام بالإنحلال أو العلمانية، أو تتبع شذوذ الفقهاء، ولهذا لم يسمح بتوزيع كتاب (تحرير المرأة المسلمة) لعبد الحليم أبو شقة، وهو مقتصر فقط على الأحاديث الصحيحة في الكتب الستة وشروح العلماء.
وللمعلومية تتشكل هيئة كبار العلماء في السعودية من 16 عضواً، يقوم بتعيينهم الملك نفسه، وقد نزل اختيار الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز للدكتور عبدالوهاب أبو سليمان عضواً فيها وهو عالم مالكي من الحجاز نزول الصاعقة على بعضهم، فهيئته وزيّه تختلف تماماً مع الشكل التقليدي للشيخ، فهو حليق اللحية، ويلبس العقال، ولكن كان دائماً وجود مثل هؤلاء لايشكل أي أثر مع الأسف، فأبو سليمان لم نشاهده يوماً مفتياً على شاشات التلفاز، ولا محاضراً في الجوامع تغطي الصحف أخباره، باستثناء صحيفة الوطن السعودية عام 2000-2001، وحضور يكاد لا يذكر في صحف الحجاز عكاظ والمدينة .
عام 1921 تقريباً، تعرض جزار وسط السعودية لنتف شاربه الذي امتدت سباله حتى غطت شفته العليا، كانت تلك المعصية المخالفة لسنة النبي في نظر رهط من الأخوان البدو الذين تشربوا المذهب الوهابي في أكثر جرعاته تركيزاً، لتهيئتهم للاطلاع بدور المقاتلين المخلصين في جيوش الملك الطامح عبدالعزيز آل سعود، مبرراً لهم بأن يستخدموا القوة والإرغام للعبث بوجه ذلك المسكين.
صحيح أن تلك القصة كانت وإلى اليوم تحكى من باب التندر والتفكه، ولكن مسار الأحداث بعدها وتصاعد تجاوزاتهم واعتداءاتهم باسم الحسبة ونصرة الدين وعداء الكفار والتي لم تكن تلقى رادعاً، مادام أنهم كانوا يفتحون البلدان الواحد تلو الآخر، حتى لحظة الصدام ثم الدمار في معركة السبلة عام 1929 بعد تتابع اعتداءاتهم على دول الجوار بعد توقيع الملك عبد العزيز على معاهدة ترسيم الحدود مع الكويت وجنوب العراق، وتعرضهم للقوافل بالسلب والنهب باسم الجهاد والغنيمة، تجعلنا ندرك تماما أن ثمة خيطا رفيعا يصعب التحكم به بين نظرة فقهية خاصة تسمح لصاحبها بالاحتساب على الآخرين والإنكار عليهم باللسان، وبين إنكار المنكر بالعنف والقوة واليد والذي قد لا يكون شيطانا مجسدا ولا آله موسيقية، بل قد يكون قولا مخالفا أو فكرا أو مذهبا، يتلوه مرتبة أخرى من ارغام واعتداء جسدي وفوضوي تصل إلى زعزعة كيان بأكامله.
كان أخوان الغطغط والارطاوية، الذين شكلوا القوة الضاربة المرعبة في جيش الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود لاثنتي عشرة سنة تقريباً، على مشارف مكة المكرمة 1926 تكتسح جحافلهم كل ما اعترض طريقها من جيوش الشريف حسين، وقد وقعت عشرات القصص المخيفة التي احتفظت بها الذاكرة الشعبية لأهالي تلك المنطقة، وفيما يحكي أحد من شاركوا في تلك المعارك من الأخوان أنفسهم كيف أن سادن الكعبة كان قاب قوسين أو أدنى من أن يذبح كالشياه من الوريد إلى الوريد لولا أنه تدارك نفسه بالتلفظ بالشهادتين.
واليوم تعيش السعودية حوادث اعتداء وإهانة وتجاوزات لا تعد ولا تحصى تنشرها الصحف وتشغل حيزا كبيرا من جدل منتديات الإنترنت من قبل أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين شجعتهم الخطب وفتاوى التضليل وبيانات التفسيق التي تصدر كل فترة موقعة بأسماء عشرات أساتذة العقيدة والشريعة والقضاء والخطباء والمعلمين بصمت مطبق من الحكومة. منذ العام 1988 بدأت سطوة جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتعاظم ومع حلول 1991، شهدت مدن سعودية أخرى اعتداءات بالقوة على عدد من الأجانب في مجمعاتهم السكنية تمثلت في اقتحام مجمعاتهم وسوقهم مثل القطعان وجلدهم بالعصي في مراكز الهيئة، وقد شهدت مدينة الرياض ذلك العام أكبر عملية إعتداء من قبل الهيئة، في ظل الشحن النفسي والخطب إبان حرب الخليج.
وقد كانت فتاوي تكفير الشيعة الإسماعيلية التي جرى بعثها منتصف التسعينيات تأخذ مساراً تصاعدياً حتى أثمرت أحداث نجران الدموية 1999م، بعد اقتحام الهيئة لأحد مساجد الإسماعيلية وقيامهم بمصادرة كتبهم، وغني عن القول أن السنوات العشر الماضية شهدت رواج فتاوى غير معلنة تبيح الكذب على أبناء المذهب الشيعي ممن يعملون في مجال التعليم.
حتى الفترة التي أعلن فيها عن تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932 كان علماء الرياض والقصيم ينظرون إلى مسلمي سوريا والعراق ومصر نظرة ريبة وشك، وأنهم إن لم يكونوا كفاراً يؤمنون بالطاغوت، فإنهم يعيشون في دول كفر ترفع أعلام دول الصليب، في الوقت الذي كانت السفارات الأجنبية ترفرف أعلامها على الساحل الغربي في مدينة جدة غرب السعودية وعلى بعد 80 كم عن المسجد الحرام مؤذنة بأن عهداً جديدا قد أذن بالانبلاج، معلنة بأن أمجاد المقاتلين الأوائل الذين منعوا أوائل القرن الثامن عشر المحمل المصري الذي كان يصحب كسوة الكعبة المهداة من مصر مصحوباً بالطبول والأهازيج، قد ولت إلى غير رجعة بعد محاولة لتكرارها عام 1927 حيث أسفرت المواجهة بين المصريين والأخوان عن عشرات القتلى في منى، بعدها بسنوات كان ماجد بن خثيلة أحد قادة الأخوان المقربين إلى الملك عبدالعزيز وممن انتزعت مخالبهم وذاقوا نعمة الدعة وعطايا الملك، يعيش نشوة ذكريات عزيزة على نفسه وإغراءات ماض مجيد حين تساءل: لم لايتركنا هذا الرجل نقاتل الكفار ونواصل الجهاد؟
بعد عشر سنوات من حادثة المحمل المصري كان الملك المؤسس يقوم باستقبال ضيوفه والوفود الإسلامية في منى يوم العيد عام 1937 وجيشه وحرسه الخاص يستعرض مهاراته على أصوات الطبول والموسيقى وصوت إبليس، وتلك العصائب البيضاء التي جرى احتواؤها وإعادة تأهيلها من بقايا المقاتلين البدو الأشداء تكتم غضبها وتستغفر الله.
عام 1817 كانت القوات المصرية تدك أسوار الدرعية الوهابية المتمردة مثل سليمان بن عبدالله حفيد الشيخ المؤسس محمد بن عبدالوهاب وفرار آخرين إلى عُمان وغيرها ووقع آخرين من أسرة آل الشيخ وآل سعود في الأسر وإرسالهم إلى مصر، وقتها كان أحد كبار علماء الرياض عام 1838 وهو الشيخ عبدالله بن سيف يحث الناس على السمع والطاعة وعدم شق العصا عن ولي الأمر الجديد، اقترح الباشا أن يبتعث إبراهيم نجل الشيخ إلى مصر للتعلم في أروقة الأزهر على نفقة الجناب العالي تقديراً للخدمات الجليلة التي قدمها والده، حينها كان آخرون من أبناء البيت الوهابي يتهيأون للعودة إلى مسقط رأسهم يتهيأون ويقضون عشرين سنة من الإبعاد القسري، حيث درسوا لأول مرة على علماء الأزهر فنوناً من العلوم لاعهد لهم بها مثل مبادئ المنطق التي حرموها واعتبروها إثماً وانحرافاً عن صحة العقيدة، غير أن عشرين عاماً قضاها عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في الأزهر، لم تعكس بعد عودته إلى مرابعه ومسقط رأسه عام 1846 شيئا من الإنفتاح النسبي أم القبول بما تحمله دائرة الإجتهاد وكانت كتبه ورسائله في خصوم الوهابية أكبر مصدر ينهل منه سليمان بن سحمان في ردوده الكثيرة التي كانت طافحة بتكفير علماء البلاد الإسلامية الذين اختلفوا في أسس أو في تفاصيل الدعوة الوهابية.
عام 1965 كان الرفض الذي قوبل به إنشاء إدارة التلفزيون والإذاعة وفتاوى التحريم التي أصدرها بعض العلماء سبباً في احتجاج أمام مبنى التلفزيون شارك فيه أحد أبناء الأسرة المالكة والذي لقي حتفه بعد مواجهة بينه وبين رجال الأمن، وفي الوقت نفسه من ذلك العام قام العشرات من الأخوان الساخطين في المدينة المنورة بتحطيم تماثيل عرض الأزياء في عدد من متاجر المدينة وبالهجوم على استوديوهات التصوير.
عام 1991 كنت شاهداً على الشغب الذي حدث في المسجد الحرام بمكة المكرمة والمضايقات التي حصلت لعالم الحجاز الراحل الشيخ محمد علوي مالكي، حيث شددت الحكومة الحراسة حوله وحمايته من مضايقات شباب كانت تؤزهم تلك الفتوى الشهيرة الطويلة جداً التي أصدرها الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء، عام 1982 في تكفيره وإهدار دمه والمطالبة بتطبيق حد الردة عليه إذا لم يتراجع عن أفكاره الشركية وعبادة الأولياء وجعل الرسول في مقام الأنبياء حسب تلك الفتوى.
لقد هيأت جملة من الخطب التي ألقاها د. ناصر العمر أستاذ العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عام 1991 تحذر من الأطباق الفضائية وماسماه بـ(البث المباشر)، تعاضدت تلك الكراسة وسيل المحاضرات وفتوى من أحد العلماء بأن من يأذن وسمح بها في بيته ديوث يرضى الفجور لزوجته وأبنائه، تلك الفتوى التي طبع منها مئات الألوف وألصقت على أبواب المساجد ومداخل المدارس والكليات كانت اكبر دافع لأن يقوم أشخاص باستخدام البنادق في تحطيم تلك الأطخحباق من على أسطح المنازل.
خلاصة
هذا سرد تاريخي لقصص ووقائع وأحداث، حكايا تعكس كيف أن ضيق الطعن الفقهي والتشدد ورفض الخلاف في مسائل جرى التعارف عليهاوالقبول بها منذ أربعة عشر قرناً، هو المحضن والمناخ الثقافي الاجتماعي الذي تظهر فيه كل يوم نوابت الخوارج ومنظروا التكفير ومنفذو التفجير، اكتفيت بالعرض وربط الأحداث بعيداً عن التنظير، عسى أن يكون مفيداً للباحثين والمتابعين، ورغم معرفتي بأن كثيراً من المهتمين بظاهرة العنف والإرهاب في منطقتنا يذهبون إلى أن الفساد والاستبداد السياسي والحرمان والعوامل الاقتصادية والاجتماعية تتحالف فيما بينها لتهيئ الجو الذي تترعرع فيه هذه الظاهرة، ومع علمي بأن هناك وجهة نظر ملخصها أن التشدد والفهم المنغلق ضارب في القدم وباسط هيمنته في السعودية ولم يشهد البلد أي حوادث إرهابية فيما سبق من العصور، غير أنني أذكر إني أحب أن أنبه أن العنف قد يتخذ أشكالا عدة في مسار تصاعدي يبدأ من كلمة وينتهي بعنف جسدي وسفك الدماء وتدمير المنشآت، وأذكر كرة أخرى أن موضوع الورقة يتناول اثر البيئة والمحيط الثقافي، والأسباب غير المباشرة للإرهاب والعنف، مؤمناً أن توافر الظروف والمقدمات لايعني بالضرورة أن تكون شرطاً يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فقد يتخلف مقتضاها كما يعبر الأصوليون لسبب من الأسباب. وأن السلفية الجهادية التكفيرية قامت على قاعدة صلبة من فكر تكفيري يجد غذاءه وروافده وأسسه في فتاوى وكتب تعرضت في الأوراق السابقة لشواهد من أثرها على تاريخنا وحاضرنا الثقافي.
إن ما يجري في السعودية اليوم وقبل ما سنشهده من السنوات القادمة، ليس صراعا بين العلمانية والإسلام، أو بين الليبرالية والإسلاميين، أو بين التغريب و الأصالة، إنه صراع –إن تصح تسميته- بين سماحة الإسلام والتشدد، بين رحابة الفقه المقاصدي وبين الإنغلاق والجهل وركام العادات التي أعتبرت أدبنا والتقليد إلى استحالة شريعة منزهة، إنها أزمة خانقة وبراكين توشك بالانفجار، ولا أرى في المنظور القريب أي بارقة أمل.
-ورقة عمل قدمت في مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني " الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في الفترة مابين 27-29 مايو 2006 - عمان - الاردن