كلمة عريب الرنتاوي في إفتتاح مؤتمر نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني

2006-05-27

معالي الأخ والصديق، الدكتور صبري ربيحات
مندوب راعي المؤتمر، دولة رئيس الوزراء، وزير التنمية السياسية والشؤون البرلمانية

أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة
أيتها الصديقات ... أيها الأصدقاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يطيب لي في مفتتح أعمال مؤتمرنا الدولي هذا، أن أرحب بكم أجمل ترحيب، وأن أخص بالشكر والتقدير، السادة والسيدات الذين جاءوا من مختلف بقاع العالم، لما بذلوا من جهد وتكبدوا من مشقة، لكي يكونوا بيننا اليوم، محاضرين ومحاورين، ننهل من معارفهم وخبراتهم التي لا تقدر، ونسهم معهم في صياغة "خطاب إسلامي ديمقراطي مدني".

واسمحوا لي بداية، أن أدخل في صلب موضوع المؤتمر وعنوانه، وأن أجتهد في الإجابة على سؤالين اثنين: لماذا "إسلامي"؟...ولماذا "ديمقراطي ومدني"؟

لا يختلف اثنان داخل هذه القاعة أو خارجها، على القول بسيادة الظاهرة الإسلامية وهيمنتها على معظم المجتمعات العربية والإسلامية، وإن بقدر من التفاوت والتباين، وأن نمو هذه الظاهرة وانتشارها، طرح خلال ربع القرن الأخير، وربما سيطرح خلال ربع القرن القادم، فيضا من الأسئلة والتساؤلات، وجملة من الإشكاليات والتحديات، سواء تلك المتصلة بمستقبل دولنا ومجتمعاتنا أو تلك المتعلقة بعلاقاتنا مع "الآخر" حوارا واصطداما، تحالفا وصراعا.

لقد أشبعت الأسباب التي أدت إلى هيمنة وانتشار الظاهرة الإسلامية، بحثا ودراسة ونقاشا، وباتت الضرورة تقتضي التطلع إلى الأمام، بحثا عن أنجع السبل الكفيلة بإدماج الظاهرة الإسلامية في الحياة السياسية الداخلية لدولنا ومجتمعاتنا، وضمان مشاركتها البناءة في التحولات الديمقراطية الجارية بتعثر في بعض دولنا أو تلك التي نتطلع إلى إطلاقها في دول أخرى، مع كل ما تقتضيه هذه الضرورة، من تحولات في الخطاب السياسي الإسلامي من جهة، ومن تبدلات في سياسات النخب الحاكمة وممارساتها من جهة ثانية.

إن الحاجة لإطلاق وتطوير خطاب سياسي / ديمقراطي، وثقافي / اجتماعي مدني لمكونات الظاهرة الإسلامية المختلفة، هي ذاتها الحاجة تتأسس من جملة عوامل واعتبارات، سأكتفي بالتوقف أمام اثنين منها، الأول منهجي، والثاني سياسي:

أولا: من منظور منهجي، حيث آن أوان النظر "للتيار الإسلامي" كفاعل سياسي اجتماعي، وليد سياقات تاريخية، اجتماعية وثقافية محددة، يتأثر بها ويؤثر فيها...يسهم في رسم مساراتها، وتسهم هي في تشكيل وتعديل وتبديل ملامحه، وواقع هذا التيار اليوم، وما يعتمل فيه من جدل وحوارات وتحولات، ينهض كشاهد على حقيقتين:

الحقيقة الأولى: وتتصل بتهافت بعض نظريات "الاستشراق الجديد" التي تصدر حينا عن بعض خلايا التفكير الاستراتيجي الأكثر يمينية، في الغرب، ويتردد صداها أحيانا عند بعض مدارس العلمانية العربية الأكثر تطرفا، وتتلقفها دائما، مدارس التفكير الأمني السائدة في معظم العواصم العربية، تلك المدارس وإن اختلفت في غاياتها ومراميها، إلا أنها تلتقي عند نقطة واحدة: إسقاط سمات الركود والتقوقع والانغلاق على هذا التيار بمختلف مكوناته، والنظر إليه ككرة مصمتة عصية على التنوع والتغير.

أما الحقيقة الثانية، فتتعلق ببعض المدارس الإسلامية التي تنزع لإضفاء صفة القداسة على خطابها، وتنظر إليه كمعطى ثابت، لا يقبل التأويل والاجتهاد، عابر للزمان والمكان، وصالح لكليهما بصرف النظر عن تعاقب صروف الدهر وتقلب أحوال البلاد والعباد، متبنية بذلك مواقف خصومها ومجادليها، الذين يسعون في انتزاعها عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية والثقافية، وبعض هذه المدارس، ينظر لنفسه كامتداد شرعي ووريث وحيد، لصدر الإسلام ودولة المدينة، من دون تمييز بين ما هو إلهي وما هو وضعي، بين رسالة السماء واجتهادات البشر الخطّائين وممارساتهم على الأرض.

لقد آن الأوان، للنظر للظاهرة الإسلامية الممتدة على امتداد العالمين العربي والإسلامي وفي المغتربات والجاليات، في شرطها السياسي والاجتماعي، الثقافي والتاريخي، آن الأوان لنبذ النزعات الإقصائية والاستئصالية متعددة المصادر والغايات من جهة، وتخطي الاستعلائية الإسلاموية المقيتة من جهة ثانية.

ثانيا: من منظور سياسي، تنبثق الحاجة لخطاب إسلامي، مدني وديمقراطي، من ضرورات دفع عجلة التطور والإصلاح والتنمية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الشاملة في دولنا ومجتمعاتنا، إذ من دون مشاركة "تيار الإسلام السياسي" في هذه العملية واندماجه فيها، ومن دون أن ينتقل هذا التيار من موقع "التهديد" إلى موقع "الشريك"، فإن فرص النجاح والتقدم، ستظل محفوفة بالمخاطر والمعوّقات، وستظل حالة الصدام والتخندق بين النخب الحاكمة ومكونات هذا التيار، هي السائدة.

إن عملية الانتقال هذه، ترتب مسؤوليات والتزامات على مختلف أطراف المعادلة ومكوناتها:
 
 فالمطلوب من النخب الحاكمة في دولنا:

o تخطي حالة المراوحة والركود، وفتح نوافذ الأنظمة السياسية لرياح المشاركة والتعددية وحرية الرأي والتعبير والتنظيم، والتخلي عن نزعات الإقصاء والاستئصال أو التهميش.

o التمييز بين الجسم الرئيس لتيار الإسلام السياسي والحركات التكفيرية والعنفية والإرهابية، وعدم التجاوز على الأول بذريعة محاربة الثانية.

o الشروع في حوار وطني شامل مع مختلف مكونات الطيف السياسي والثقافي والاجتماعي لتجديد قواعد اللعبة السياسية في دولنا، وتهيئة الظروف الكفيلة بإنضاج تجربة التداول السلمي على السلطة.

o رفع القيود المفروضة على مؤسسات المجتمع المدني ووقف المضايقات التي تتعرض لها، وتمكينها من القيام بدورها كشريك في صياغة المستقبل المشترك، وبصورة تسهم في رفع منسوب مشاركة النساء والشباب وتمكينهم.

o والمطلوب أيضا، تحرير الصحافة ووسائل الإعلام من قيوم الملكية والرقابة الحكوميتين، وبصورة تمكن وسائل الإعلام من التعبير عن التعددية، والقيام بدورها الرقابي والمعرفي.

o والمطلوب أيضا وأيضا، ثورة إصلاحية في الدساتير والتشريعات العربية، وبالأخص، تلك التي تكبل محاولات إطلاق عملية تحول ديمقراطي ديناميكية، تكفل مشاركة الجميع باستثناء القوى والمجموعات التكفيرية والعنفية.
 
 والمطلوب من تيار الإسلام السياسي:

o تدوير الزوايا الحادة التي تميز بعضا من مواقفه سيما تلك الموّلدة لمخاوف والقلق والتحسب، والهبوط من علياء "اللفظية الشعاراتية" إلى واقع الهموم والتحديات المباشرة التي تواجه مجتمعاتنا، من خلال صياغة رؤى وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية تتجاوز الشعار الفضفاض: "الإسلام هو الحل".

o تخطي الاستعلائية التي تسم خطاب بعض القوى الإسلامية، وتميز نظرتها للمكونات الأخرى في الدولة والمجتمع، والتعامل مع الذات والآخر، من منطلق سياسي يقبل الاتفاق والاختلاف، الافتراق والائتلاف، من دون اتهامية مسبقة، أو جنوح للتكفير والإخراج عن الملّة.

o تقليص المساحات الرمادية في خطاب الإسلام السياسي، والاقتراب من لغة الحسم في مسائل من نوع : المواطنة، الأقليات، المرأة، العنف والتداول السلمي للسلطة، الشورى والديمقراطية، والتعددية السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وغير ذلك كثير مما سنستمع إليه خلال الأيام الثلاثة التي سنمضيها سوية.

o وكما أن النخب العربية والإسلامية الحاكمة مطالبة بالتميز بين التيار الأعرض للإسلام السياسي من جهة والحركات العنفية والتكفيرية من جهة أخرى، فإن تيار الإسلام السياسي مطالب أيضا، وبدرجة أعلى من الوضوح، برسم الفواصل والتخوم التي تميزه عن الجماعات التكفيرية والعنفية، فما عاد ممكنا ولا مقبولا الاكتفاء بتفسير ظاهرة التكفير والإرهاب، وأحيانا بلغة تقترب من التبرير، فقد أصبح المطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إدانة هذه الظاهرة وعزلها وتقويض مرتكزاتها الفكرية والعقيدية.
 
 والمطلوب من التيارات السياسية والفكرية الأخرى:

o إعادة النظر في الصورة النمطية المكونة لديها عن تيار "الإسلام السياسي"، وتخطي التوصيفات الجاهزة التي درجت بعض المدارس السياسية والفكرية العلمانية العربية على استخدامها في مواجهة الظاهرة الإسلامية، كالجمود والتخلف والانغلاق.

o الاهتمام بالتطورات التي طرأت وتطرأ على الخطاب الإسلامي، وتشجيع عمليات التحول والانتقال إلى لغة الخطاب المدني والديمقراطي ذات المرجعية الإسلامية.

o البحث عن المساحات المشتركة للعمل المشترك مع التيار الإسلامي، والشروع في حوار استراتيجي مع هذا التيار حول قواعد اللعبة السياسية المحلية.

o الابتعاد عن أي مظهر من مظاهر الاستقواء على هذا التيار، سواء باللجوء إلى النخب الحاكمة أو "الخارج" والتمييز بين الحق في الاختلاف والتباين من جهة، والتحريض المفضي إلى التصعيد والتهميش من جهة ثانية.
 
 والمطلوب من المجتمع الدولي وتحديدا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي:

o التمييز بين الحرب على الإرهاب، والتيار الأوسع للإسلام السياسي.

o فتح حوار مع الجماعات الإسلامية غير العنفية، والتي تبدي استعدادها للمشاركة السياسية والحوار مع الآخر.

o تشجيع هذه الحركات على تبني خطاب سياسي معتدل، مدني وديمقراطي، واحترام المرجعية الإسلامية لهذه الحركات، قولا وفعلا.

o التمسك بهدف نشر الحرية والديمقراطية في هذه المنطقة، وبصورة تراعي مصالح شعوبها وتطلعاتها، والتوقف عن دعم الأنظمة الاستبدادية فيها والتحالف معها بذريعة الخوف والتخوف من "شبح الإسلاميين".

o تخطي المعايير المزدوجة في التعامل مع مسألتي الحرية والديمقراطية، كأن تمارس ضغوط على أنظمة مستبدة، وتعفى أخرى منها، لأسباب أمنية أو سياسية أو لحسابات المصالح النفطية والتجارية.

o العمل على مسار مواز لحل الصراعات الإقليمية في المنطقة، وفي المقدمة منها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وبصورة تكفل للشعب الفلسطيني حقوق الوطنية الأساسية وفقا للشرعية الدولية وقراراتها، حتى لا يظل هذا الصراع، حجة للأنظمة الاستبدادية لتعطيل مسارات التحول الديمقراطي، وسببا في إذكاء نار الغلو والتطرف في المنطقة.

أيتها الصديقات...أيها الأصدقاء

على مدى الأيام الثلاثة التالية، سنبحث في العديد من الأسئلة والتساؤلات المطروحة على جدول أعمال مجتمعاتنا بصفة عامة، وحركاتنا الإسلامية على وجه الخصوص، والمأمول حقا، أن ننتهي سويةَ، إلى فهم مشترك، أعمق وأدق، لتلك التحديات، وأن نضمّن النتائج الختامية لمؤتمرنا هذا، بعض من الأفكار والمقترحات التي تسهم في تجاوز هذه التحديات وتذليلها، بل والمأمول أيضا، أن تفضي تفاهماتنا المشتركة، للتأسيس لمرحلة مقبلة من العمل الجماعي المشترك في إطار ائتلاف دولي للإسلام السياسي المدني / الديمقراطي.

واسمحوا لي قبل أن أنهي كلمتي، بأن أتوجه بالشكر الجزيل لدولة رئيس الوزراء الدكتور معروف البخيت على تفضله برعاية المؤتمر، وللأخ والصديق معالي الدكتور صبري ربيحات، مندوب راعي المؤتمر، وزير التنمية السياسية والشؤون البرلمانية، لحضوره معنا اليوم.

كما واسمحوا لي أن أتقدم بالشكر والتقدير لأصدقائنا وشركائنا في مؤسسة كونراد أديناور، وللصديق الدكتور هاردي أوستري، المدير الإقليمي في عمان، إذ لولا دعمهم لهذا المؤتمر، لما كان انعقاده أمرا ممكنا، والشكر موصول لزملائي وزميلاتي في مركز القدس للدراسات السياسية، الذين بذلوا على مدى أشهر عديدة، جهدا مثابرا وموصولا، لكي نصل إلى هذه اللحظة.

أشكركم جزيل الشكر، على حضوركم معنا اليوم، وكلي ثقة بأن إسهاماتكم المقدرة سيكون لها الأثر الحاسم، في إنجاح فعاليات مؤتمرنا، متمنيا لكم طيب الإقامة في بلدكم وبين أهلكم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
-ورقة عمل الاستاذ عريب الرنتاوي في إفتتاح مؤتمر نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني.

-ورقة عمل قدمت في مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني " الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في الفترة مابين 27-29 مايو 2006 - عمان - الاردن
https://alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=334