سوريا على المفترق تحديات الخلافة وأجندة العهد الجديد

2000-06-14

لاحظ المراقبون السياسيون أن الطريق بات ممهداً وسالكاً أمام بشار لتولي سدة الرئاسة، ولكنه لمن يكن خالياً من الغموض والاضطراب الذي تدلل عليه بعض الإشارات الملتقطة من هنا وهناك حتى قبيل إنهاء مواسم تشييع الرئيس الأسد ودفنه في مثواه الأخير في بلدته القرداحة التي تبعد 350كم عن دمشق ، بل إن شعوراً بالقلق من المستقبل انتاب البعض إثر البيان الذي أعلنه عمّه رفعت سليمان علي الأسد وأذاعته محطة ANN التلفزيونية التي يديرها نجله سومر مساء يوم الاثنين الثاني عشر من حزيران، وقبل دفنه جثمان الأسد .

فقد شكك رفعت الأسد بعد أن نعى أخيه بكلمات مؤثرة وكبيرة بالذين جاءوا من بعده، متهماً إياهم بالانحراف عن طريقه حين قال " لقد سار من أتى بعدك علي غير هديك " ، وحمّلهم مسؤولية حرمانه من المشاركة في تشييع جنازة أخيه متسائلاً فيما " إذا قدروا الآن على هذا الحرمان والتغييب فهل هم قادرون مستقبلا " . لكن اخطر ما في بيانه هو وصفه للإجراءات التي تمت بأنها "طعنت الدستور فغيبت الشرعية" مؤكداً على أنه سيقوم بحركة تصحيحية جديدة تشمل كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

السلطات السورية رفضت رسمياً التعليق على التصريحات المنسوبة إلى رفعت الأسد، حيث قال شرخو عمّاري الناطق باسم نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام الذي يتولى مهمات رئاسة الجمهورية مؤقتاً "لن نعلق على مثل هذه التصريحات".

وقبل صدور بيان رفعت ، كان الناطق باسمه حافظ الخير قد أعلن أن رفعت " يمثل الشرعية الحقيقية في سورية" وأنه مستعد " لتحمّل مسؤولياته " في كل وقت وحمل على القيادة الحالية في دمشق بوصفها " قيادة طائشة لا تملك الرؤية السليمة ولا تعرف تقدير الأمور حق قدرها"، ونسب المتحدث باسمه إدانته ترشيح بشار وتعهد تحديه مضيفاً " إن ما يحدث في سوريا مهزلة حقيقية ومسرحية غير دستورية تعد انتهاكاً حقيقياً للقانون والدستور".

وبخلاف رأي رفعت الأسد الذي يقيم معه شقيقه الأكبر جميل الأسد ، كان ابنه مضر يعلن من دمشق تأييده لترشيح الدكتور بشار الأسد ومبايعته . فقد أعلن " أن الدكتور بشار يعني جيلاً جديداً ... وهو قادر أن يحمل الراية التي كان يحملها السيد الرئيس ونحن واثقون منه وسيوصل السفينة إلى بر الأمان " ، مضيفاً أن " الدكتور بشار هو ابن السيد الرئيس وهو مدرسة كبيرة أكبر من الوصف وهو قادر بلا شك على تخطي كل الصعوبات كما كان السيد الرئيس الراحل قادر" . ومضى مضر إلى القول " الدكتور بشار اختاره السيد الرئيس ... وأملنا فيه كبير على الصعيد الخارجي والداخلي ".

لكن حافظ الخير عزا موقف مضر إلى القمع الموجود في دمشق ، وعندما طلب منه رأيه في تصريحات مضر قال : تعرفون أن الناس هناك مقموعون ، وعندما تكون هناك بندقية موجهة إلى ظهرنا ... اتركوا ابن رفعت الأسد يخرج من سوريا وسترون ما سيقول ".

مصدر دبلوماسي عربي في العاصمة السورية وصف هذا الجدل وحرب التصريحات الدائرة في صفوف عائلة الأسد بأنها الأخطر، فالراحل الأسد كان موضع إجماع في صفوف العائلة والطائفة، وحتى في حالة وجود معارضة في الطائفة فإنها لم تكن تعبر عن نفسها علنياً، أما اليوم فالانقسام واضح، بغض النظر عن مدى قدرة رفعت الأسد على الفعل وتشكيل تهديدات جدية أمام بشار.

وقد نقل مصدر لبناني عن مسؤول سوري تأكيده "إن تعليمات مشددة صدرت إلى الجيش والاستخبارات على الحدود وفي المطارات يمنع دخول رفعت الأسد إلى سوريا" . وأضاف هذا المصدر أن رجال أمن سوريين يجوبون مطار بيروت بملابس مدنية لإلقاء القبض على رفعت الأسد إذا ما حاول القدوم . وعلم أن مذكرة توقيف رسمية قد صدرت بحق رفعت الأسد ووقعها رئيس الوزراء السوري محمد مصطفى ميرو.

ورفعت الأسد هو الشقيق الأصغر للرئيس الذي يتحدر من عائلة فقيرة وأسرة فقيرة كانت تعيش في قرية القرداحة في جبال الأنصارية المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وكانت قبائل هذا الجبل مهملة على مدار 400 عام من الحكم العثماني للمنطقة. وكان حافظ الأسد أول فرد في العائلة يكمل تعليمه الثانوي أيام الانتداب الفرنسي.

وقد ولد رفعت عام 1937 ، وبعد إتمام دراسته الجامعية في الاقتصاد عين موظفاً في الجمارك قبل أن يدخل السلك العسكري.
وبعد سيطرة الأسد على الحكم ، أشرف على قيادة سرايا الدفاع وهي تشكيلات عسكرية ضاربة كانت مهمتها حماية أمن النظام من الانقلابات العسكرية ولعبت دوراً بارزاً في القضاء على معارضة الإخوان المسلمين في شباط 1982 عندما شنت هجوماً كبيراً على حماة تحدثت إبانه تقارير منظمة العفو الدولية عن وقوع 10-25 ألف قتيل. وقد أسهمت تلك العملية في تقديم رفعت بصورة رجل فظ، قاس ، لا يرحم وأوجدت عنده ثقة كبيرة بأنه الذي سيخلف شقيقه.

وفي عام 1983 عندما مرض الرئيس الأسد بنوبة قلبية ، حاول الاستيلاء على السلطة إلا أن تحالف كبار ضباط الجيش وقادة الدولة المدنيين أحبط خططه. ثم عين نائباً للرئيس عام 1984، غير أن القطيعة وقعت مع شقيقه عندما أدرك أنه يعد باسل لخلافته. ورغم ذلك تفيد بعض المصادر السورية أن العلاقة بين باسل وعمه لم تصل إلى حد القطيعة ، فقد كان يزور عمه في باريس عندما كان يتردد عليها ، أما بشار من وجهة نظر رفعت فهو " ولد غير واعد " .

والمعروف عن رفعت علاقته الوطيدة برئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ومعارضته للموقف السوري منه في ذلك الوقت ، كما أنه تحدى شقيقه علناً عندما طالب في مؤتمر اقتصادي عقد في دمشق بتحرير الاقتصاد السوري وتعزيز ديمقراطية الحياة السياسية والتراجع عن المواقف السورية المؤيدة لإيران في حربها مع العراق (1980-1988).

ونفى الرئيس شقيقه عام 1985 وأصدر أمراً بحل سرايا الدفاع التي كان يتزعمها، حيث أقام منذ ذلك الوقت متنقلاً ما بين عدد من البلدان الأوروبية وخاصة فرنسا وإسبانيا حيث يقيم في جزيرة ماربيا. ولم يسمح له بالعودة إلى سوريا إلا بناء على طلب والدته ( ناعسة ) وهي على فراش الموت عام 1992 . وربما أحيت وفاة باسل الأسد أمل رفعت في الخلافة إلا أن عملية إعداد وتهيئة بشار قطعت عليه الطريق مرة أخرى، خاصة بعد أن أقيل من منصبه كنائب للرئيس عام 1998، وطرد من حزب البعث بسبب انتمائه إلى "حزب الشعب العربي الديموقراطي" الذي شكله ابنه سومر.

وقد تزوج رفعت أربع نساء اثنتان من الطائفة العلوية واثنتان من الطائفة السنية وله أحد عشر ابنا وبنتاً .
ويشير مصدر سياسي في دمشق إلى أن رفعت يحتفظ بموقع قوي نسبياً في أوساط الطائفة ، وله بعض الأنصار والمؤيدين ، وربما يكون مقبولاً لدى فئات التجار - أغلبيتهم في سوريا من السنة – بملياراته وأفكاره خاصة تلك التي تدعو إلى سياسة سورية وثيقة الصلة بالعالم العربي بعيداً عن إيران التي لا تحظى بشعبية تذكر في سوريا، غير أن الأهم من ذلك كله الشرخ الذي يحدثه في صفوف العائلة في ظل الإجماع الذي كان متحققا حول شخص الرئيس الراحل ، والطعن الذي يقدمه في شرعية بشار، والآتي من داخل العائلة أيضاً ، وبالتالي فإنه قد يفتح شهية بعض الطامعين نحو صياغة تحالفات واصطفافات جديدة ، تسبب مصدر قلق واضطراب ولو على سبيل الاحتمال في المستقبل ، والخوف قائم من صراع ربما يؤججه رفعت في ظل الصراع الذي يجري مع الحرس القديم بشقيه المدني والعسكري وفي داخل حزب البعث الحاكم نفسه وحملة مكافحة الفساد التي طالت رموزاً ومسؤولين كبار.

وهنا ينسب إلى المصادر السورية القول أن بشار أحاط نفسه برجال مخلصين له من أهله ومقربين منه مثل آل مخلوف وهم أخواله إضافة إلى اللواء آصف شوكت وهو زوج شقيقته الوحيدة بشرى وبهجت سليمان ابن عمته بالإضافة إلى قياديين كبار من جيله من أمثال مناف طلاس ابن وزير الدفاع الحالي والمرشح لخلافة أبيه أيضاً. لكن وفاة أبيه قطعت عليه إكمال الطريق الذي سار فيه وانجز خطوات هامة نحو هدفه بإحلال جيل من الشباب في الجيش والأجهزة الأمنية مضموني الولاء له على الأقل بحكم المناصب التي أصبحوا فيها بفضله، وبالتالي عندما يدافعون عنه، فإنهم يدافعون عن أنفسهم ومصالحهم. وهو في هذه الحالة مضطر لأن يواصل اعتماده على مجموعة من الدهاقنة من قدامى الأمنيين مثل عدنان بدر حسن ومحمد ناصيف وعلى حورن.

وسيكون معينه وسنده في الجيش رئيس الأركان العماد علي أصلان الذي تصفه الأوساط العسكرية بأنه على قدر كبير من الحرفة والنزاهة والحياد البعيد عن الطموح السياسي ، ومن هنا فإنه يتمتع بمصداقية كبيرة في صفوف ضباطه ويحظى باحترامهم.

وتفيد المعلومات أن بشار يحاول الاستناد إلى تحالفات مع الأقليات حيث كانت معظم تعييناته منهم وخاصة الأكراد والمسيحيين الكاثوليك والبروتستانت تحديداً بالإضافة إلى المستفيدين من التجار والصناع وكبار الحزبيين في أحزاب الجبهة المؤتلفة مع حزب البعث.

وقد لاحظ المراقبون أن خلافاً حصل حول من يقوم بمهمات "منصب نائب الرئيس" فقد أعلن مسؤول سوري أن محمد مصطفى ميرو قد تولاه بعد ساعات من وفاة الرئيس، لكن خبراء في الشأن السوري رأوا أن بشار اضطر للتراجع عن هذا القرار بعد أن أدرك أنه يشكل مخالفة صريحة للمادة 88 من الدستور السوري والتي تنص على أن يتولى نائب الرئيس إدارة شؤون البلاد في حال اصبح رئيس الجمهورية عاجزا عن أداء مهامه، وهنا أصدر خدام مرسومين بصفته " قائماً بأعمال رئيس الجمهورية " بترقية بشار إلى رتبه فريق وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة وهو المنصب الذي شغر بوفاة والده.

وكان مسؤول سوري قد صرح بعد ظهر يوم السبت العاشر من حزيران الماضي – يوم وفاة الرئيس - أن العماد طلاس هو الذي يقوم بمنصب "الرئيس بالوكالة" ، إلا أن مسؤولاً آخر نفى ذلك بسرعة، مؤكداً أن ميرو يتولى المنصب قبل أن يحسم المتحدث باسم خدام "الرئاسة المؤقتة" لصالحه .

ولاحظت الأوساط الإعلامية غياب خدام عن الساحة ، وقد عزت بعض المصادر ذلك إلى ما تم قبل يوم واحد من وفاة الأسد حيث دوهمت محلات (أباشي) التي تمتلكها ابنته، ومحلات أخرى تابعة لأبنائه بحجة وجود مواد غير مجمركة فيها.
وتمضي ذات المصادر إلى القول أن خدام أصدر تلك المراسيم عنوة فهو لم يظهر في استقبال القادة، كما لم يقم بنعي الرئيس كما تقتضي التقاليد السياسية، ويتقاطع مع ذلك ما ذكرته مصادر إعلامية عربية في لندن من أن الصحفيين الذين قدموا إلى دمشق لتغطية تشييع جثمان الأسد لم يتمكنوا من الاتصال مع خدام، وأن أحدهم تلقى توبيخاً لاستفساره إن كان خدام يقوم حالياً بمهام الرئاسة أم لا، مضيفاً أن هناك إصراراً على عدم تسمية خدام "بالرئيس".

غير أن ظهور خدام في استقبال المعزيين في القصر الجمهوري قبل التشييع فتح التكهنات أمام صفقة أو تسوية ما تمت معه حتى ولو كانت بالإكراه للحفاظ على حد أدنى من التماسك المظهري ومراعاة التقاليد السياسية، وبدد هذا الظهور الشائعات التي تحدثت عن أن الإقامة الجبرية فرضت على خدام، وإن لم تبدد بالطبع الخلافات الدائرة في قمة الهرم السياسي.

وقد أشار مصدر دبلوماسي غربي إلى أن العواصم الغربية كانت مترددة بشأن "الجهة الرسمية" التي يجب أن ترسل اليها برقيات التعازي ، ولدى سؤال إحداها الخارجية السورية كان الجواب بعد مهلة طلبتها للاستفسار والتشاور أنه توجه لبشار، وبالفعل لم تذكر وسائل الإعلام السورية أية برقية تعزية إلى نائب الرئيس خدام.

وتؤكد مصادر سورية حزبية أن لجنة خماسية تدير شؤون البلاد كل في مجال اختصاصه وهي مكونة من " نائبي الرئيس عبد الحليم خدام وزهير مشارقة ورئيس الوزراء محمد مصطفى ميرو، ووزير الدفاع مصطفى طلاس ورئيس الأركان علي أصلان.
ويعلق المحلل الاستراتيجي الأمريكي إدوارد لوتواك على وضع بشار بالقول إن " بشار الشاب المتعلم جيداً يمكن قبوله كإصلاحي يريد التحديث ... لكنه أقل قبولاً بكثير كزعيم مافيا " ويضيف حول الصراع الدائر مع الحرس القديم " إن شبابه وتعليمه سيقفان ضده في حشد مؤيدي والده، وكلهم بالطبع أكبر منه سناً وأكثر صرامة وعموماً أكثر خبرة في مهارات السلطة " . وكان وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كسينجر أكثر صراحة عندما لم يستبعد " حدوث " متاعب قبل أن يحكم بشار سيطرته على مؤسسات السلطة، وتوقع أن يؤدي ذلك إلى "تأخير طويل" قبل أن تلتحق سوريا بعملية السلام مجدداً. ويذكر هنا أن أول لقاء بين كسينجر والرئيس حافظ الأسد تم بعد حرب تشرين 1973 واستغرق 6 ساعات كاملة ، وتساءلت الصحافة الأمريكية وقتها والتي كانت لا تعرف عادات الأسد وجلسات مفاوضاته الطويلة إن كان كسينجر قد اختطف !

وقد لوحظ أن مستوى المشاركة الأجنبية في جنازة الرئيس الأسد كان ضعيفا، حيث لم يشارك في التشييع رئيس أية دولة أوروبية باستثناء فرنسا التي شارك رئيسها شيراك ، وهو الأمر الذي فسر بأن فرنسا تحاول عبر هذه اللفته الانتباه إلى علاقاتها مع سوريا وتعزيز الحضور الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط التي باتت منطقة نفوذ شبه مغلق للولايات المتحدة، خاصة وأن هناك هامش خلاف ما بين الموقفين السوري والأمريكي تجاه عملية السلام بدا واضحاً في قمة كلينتون- الأسد ، وتحاول فرنسا هنا تحقيق حضورها عبر هذا الخلاف، ناهيك عن التأثير السوري الكبير على لبنان وهو البلد الذي يحظى برعاية فرنسية خاصة.

أما الرئيس الآخر فهو الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار، وتركيا لا تستطيع تجاهل جارتها الجنوبية سوريا خاصة بعد التحسن الذي طرأ في العلاقات إثر إغلاق ملف الدعم السوري لحزب العمال الديمقراطي الكردستاني والذي أوصل العلاقة بينهما إلى حافة الحرب.

أما محمد خاتمي الرئيس الإيراني الذي حضر الجنازة أيضاً فهو مدفوع بالعلاقات الجيدة مع سوريا واهتمامه بالحفاظ على مواقع النفوذ الايراني في لبنان وخاصة حزب الله الذي يحظى بدعم طهران .
ومستويات المشاركة الأجنبية الأخرى كانت على مستوى مسؤولين أقل. فالولايات المتحدة مثلتها وزيرة خارجيتها مادلين أولبرايت التي أعلنت أن التمثيل الأمريكي بهذا المستوى "مناسب" . وذكرت مصادر في وزارة الخارجية الأمريكية أن عدم مشاركة الرئيس كلينتون تعود إلى أن سوريا ما زالت على قائمة الدول الراعية "للإرهاب" أمريكياً .

واللافت للانتباه رفض اولبرايت التعليق على ما يجري في دمشق ، فلدى سؤالها إذا ما تتوقع أن يصبح بشار الرئيس القادم أجابت : لن اعلق على هذا (الموضوع) . فلدى (السوريين) عملية يبدو أنها تجري بصورة سلمية ومنظمة . وحول ما إذا كان شخص تستطيع الولايات المتحدة التعامل معه قالت : اكرر، أود أن انتظر لأرى ما سيقرره الشعب السوري وما ( سيتمخض عن ) العملية ، إلا أن ما شجعني هو رغبته في السير في خطى والده ، وذلك في إشارة الى موقف بشار المؤيد للسلام . أما السكرتير الصحفي للبيت الأبيض جو لوكهارت فقد كرر ذات الموقف عندما قال : اعتقد أن الإجراءات الداخلية لتولي الحكم في سورية إنما هي – كما أسلفت - أمر داخلي ولا أعتقد أننا سندلي برأي بشأنها بطريقة أو بأخرى . وقد اعتبرت بعض الأوساط السياسية العربية كلمات اولبرايت ولوكهارت بأنها تعكس موقفا متحفظا فيه الكثير من الحذر والترقب لما يجري .

أما عربياً فقد شاركت جميع الدول العربية، وبمستوى أول من بلدان مصر والكويت وفلسطين والأردن والسودان والجزائر واليمن.
واللافت للانتباه رد الفعل المصري على ما يجري في سوريا. فالرئيس مبارك أعلن بعد اجتماعه بكبار وزرائه ومستشاريه ورئيس مجلسي البرلمان أنه " يهمنا الاستقرار ويهمنا ان تستقر سوريا" وأضاف "نتمنى من كل قلوبنا أن تستقر سوريا...
نسمع أن هناك مرشحاً هو الدكتور بشار الأسد نتمنى له التوفيق ونتمنى لسوريا الاستقرار والأمن والأمان لأنها دولة محورية".
ويعكس تكرار كلمة "الاستقرار" في حديث الرئيس المصري القلق مما يجري في سوريا والخوف على المستقبل حسبما ذكر محلل مصري مضيفاً أنه عندما نرى كل الذي جرى من تغييرات وتعديلات دستورية فإن مع مصر الحق في أن تقلق.

أما على صعيد عملية السلام فيؤكد أكثر من مصدر سوري وعربي وغربي أنها تأجلت، لكن بالطبع لم تمت وهناك مصالح دولية باتجاه إنجازها مع التفهم لطبيعة اللحظة السياسية الراهنة سوريا. وقد ذكرت مصادر إسرائيلية أن الملك عبد الله الثاني سينقل رسالة من باراك إلى بشار الأسد حول العملية السلمية، كما ستنقل أولبرايت رسالة أخرى، ويرى المراقبون أن هذا الاهتمام الإسرائيلي يهدف في اللحظة الراهنة إلى معرفة أية تغيرات مهما كانت طفيفة في الموقف السوري لترسم على ضوئها تكتيكها الجديد، وهي أشبه ما تكون بمحاولات جس النبض.

الجدير بالذكر أن بشار الأسد ذاته قد كشف عن دور سعودي نشط باتجاه استئناف مباحثات السلام السورية الإسرائيلية ففي حديثه إلى صحيفة الشرف الأوسط أوضح أن مبعوثاُ سعودياً كبيراً قام بأربع رحلات سرية لدمشق في الأسابيع القليلة التي سبقت وفاة الأسد في محاولة لاستئناف مباحثات السلام الذي أكد أنه خيار سوريا الاستراتيجي مع الإصرار على حدود الرابع من حزيران بما فيها الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا.

ويرى دبلوماسي أوروبي في بيروت أنه مع غياب الأسد فإن الدور المصري سيتعزز في المنطقة العربية في كافة المجالات وخاصة فيما يتعلق بالعملية السلمية، لكن ذلك لا يعني أن الرئيس مبارك سيسارع بإعلان زعامة مصر للعالم العربي ، بل أن المصريين سيتوخون الحذر حتى لا يبدو الأمر وكأنهم يزّكون أنفسهم، ولكن قدرتهم على إقناع القيادة السورية والتأثير عليها باتت الآن أكبر.

ويجمع المراقبون على أنه لن تتضح اتجاهات العهد الجديد في سورية قبل الانتهاء من المراحل الدستورية لعملية تنصيب د. بشار رئيساً للبلاد. وفي هذه المرحلة الانتقالية ربما تشهد سوريا مفاجآت كثيرة حسب توقعات البعض منهم في دمشق . فالواضح جداً أن الصراع محتدم بين عهدين وإن كان هذا الصراع لم يرق إلى المواجهات العلنية لكن الشواهد عليه بائنة. ويرى هؤلاء أن كل من سبق واعترض أو سيعترض على العهد الجديد برئيسه الجديد لن يكون مصيره أقل من مصير (منتحر) أو من صودرت ممتلكاته أو أخضعت للحجز. وستتضح الصورة أكثر بعد أسبوع فقط حيث ستحكم التغييرات على الكثير من التوقعات بشأن الوضع الداخلي لا سيما وأن محاربة الفساد المزعومة لم ترق إلى المحاكمة الحقيقية واقتصرت على الأهواء وعلى الشخصيات من طائفة السنة مثل الزعبي وسليم ياسين، أو على أبنائهم مثل أبناء خدام والشهابي.
ويلاحظ أيضاً أن الفساد الممتد إلى القضاء بحاجة إلى مواقف تنتشل القضاء من الوحول التي أغرقته . فما من قاض عادل، وما من قضية تحلّ بالعدل ودون الرشوة، والخوف هو المسيطر على طرفي الدعوى وعلى القاضي نفسه.

والمطلوب من العهد الجديد والرئاسة الشابة توفير الأمن والأمان للقاضي وللمتقاضين في ظل قوانين الطوارئ والعرفية ، وهو الأمر الذي يستحيل معه الوصول إلى الأمان المطلوب. والفساد ساعد على التسيب الوظيفي والإداري مما جعل البيروقراطية تعيق عمليات الاستثمار والتطوير وهو ما يلاحظ في معاملات المصارف وسير أعمالها وهو تثبته الأموال الضائعة على شكل قروض ثبت أنها إما وهمية أو أقرضت لأشخاص غادروا البلاد بالملايين التي اقترضوها حسب ما تنشره الصحف المحلية.

إذن فالإرث كبير جداً ، فالفساد المستشري منذ ربع قرن يحتاج إلى قوة غير عادية لاقتلاعه من جذوره والراحل هو المسؤول المباشر عن وصول الفساد إلى مراحله التي يصعب اجتثاثها بسهولة لأن في ذلك استهداف لمحرمات يحتمي وراءها دهاقنة من المفسدين والفاسدين وكلهم ذوو سلطان.

والالتفات إلى الوضع الداخلي كما يرى المراقبون هنا إما أن يضاعف أعداء العهد الجديد ، أو يصطدم بطامعين قد يروا في عدم مواجهة المفسدين ضعفاً يتسربون من خلاله إلى مواقع تؤثر على أمن البلاد والنظام بعهده الجديد . لذلك فإن الأسهل على العهد الجديد هو الالتفات إلى السياسة الخارجية كما فعل الرئيس الراحل ، فالنجاح فيها يعطي العهد الجديد ميزة تجعل الناس يتلهون فيها، والنجاح على هذا الصعيد يجعل العهد أكثر قدرة على مواجهة الوضع الداخلي.

وثمة اتجاه في الأوساط السياسية السورية يرى أنه إذا كان العهد الجديد يسعى إلى السلام جدياً فما عليه إلا أن يسرع في هذا الاتجاه لأن الإطالة تجعله في مواجهة الأمراض الداخلية والصعوبات السياسية الخارجية .وهذا رأي أفصح عنه كثيرون من المتعاطفين مع العهد الجديد في القيادات الحزبية البعثية وأحزاب الجبهة الوطنية ومثقفون من الكتاب والصحفيين . فمن وجهة نظرهم يجب أن يبدأ العهد الجديد عمله كما يبدأ الروائي في كتابة الرواية الحديثة بأسلوب (الخطف خلفا)) أي أن يبدأ من النهاية أي من عملية السلام ليطوق بنجاحاته فيها الموقف.

ويختلف أصحاب هذه الرؤية مع من يزعمون بأن حلفاء الأمس مثل إيران وأتباعها سيعرقلون ما استطاعوا العملية السلمية على المسار السوري . ويقولون إن العهد الايراني برئاسة خاتمي أيد الرئيس الراحل بالتفاوض لاسترداد الجولان.
كما إن الشعب السوري بمعظمه وأغلبيته سئم ربط أي تغيير في حياته بالصراع مع إسرائيل . فبذريعة هذا الصراع فقد الاقتصاد قوته وفقد المواطن مقدرته على مواجهة احتياجاته ويخطئ من يزعم أن الشارع السوري يعارض مسيرة السلام لدرجة أن الكثيرين أعربوا بصراحة من دهشتهم من فشل قمة جنيف ودافعوا عن استمرارية التفاوض.

ولا يخلو الحال من وجود مخالفين لهذا الرأي ويقف على رأس أولئك المخالفين من يطلق عليهم الآن اسم (الحرس القديم) في إشارة إلى القيادات الحزبية التي بدأت سلطاتها قبل ثلاثين عاماً وما زالت حتى حينه في أعلى السلم القيادي.

وبالإضافة إلى هؤلاء المستفيدين من التمترس وراء أيديولوجيا قديمة لحماية مصالحهم وليس لقناعة في تلك الأيديولوجيا هناك القيادات الفلسطينية المستفيدة جداً حتى من حالة الفساد المالي والإداري القائمة في سورية . فقيادة التنظيم البعثي الفلسطيني ومعها قيادة منظمة الصاعقة أثرى أعضاؤها و "تكرّشوا" كثيراً دون أن يقدموا لسورية غير العرقلة والفساد والرشوة وهذا ما يتأكد كل عام عند بدء التسجيل في الجامعات السورية . ثم إنهم يتقاضون أجورا دون مقابل ، فهم لا يقدمون لسورية شيئاً حتى تنظيم الصاعقة، حيث لا وجود لفداء ولا فدائيين ، بل هم "المحاربون القدامى" الذين شاخوا ويعملون منذ الرحيل عن بيروت في مزارع وممتلكات أعضاء تلك القيادات . والحال ذاته ينطبق على تنظيمات أخرى مثل (فتح الانتفاضة) التي تحولت إلى موظفي مكاتب. أما القيادة العامة فهي بدرجة أو بأخرى أشبه في ولائها بمنظمة الصاعقة ، ترحل عندما تريدها سورية أن ترحل لأنهم أشبه بالأجراء عند حزب الله والدعم الإيراني.

لذلك سعى خالد الفاهوم رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سابقاً إلى ياسر عرفات الذي جاء معزياً بالرئيس الراحل ليطلب منه ما سبق اتفق عليه عدد من الشخصيات الفلسطينية في بيروت ودمشق بتوحيد جميع الفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير وآزره في ذلك نايف حواتمة الذي لا يعتبر نفسه من التحالف الفلسطيني المعارض.

على كل حال ، تشير بعض التوقعات والتكهنات الى أن القيادة السورية الشابة الجديدة ستدخل العهد الجديد يعمل جديدا سيكون اتجاهه المحتم هو دخول معركة السلام قبل دخول معركة المواجهات الداخلية الواسعة التي سيصعب الخروج منها بسهولة وفي زمن قصير مما سيعرقل الوصول إلى ما هو مطلوب من المفاوض السوري لتثبيت أركان العهد الجديد، وإبعاده عن مخاطر التقزم والانعزال.

إعداد : مركز القدس للدراسات السياسية

https://alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=246