مآلات الصراع الفلسطني - الإسرائيلي

2018-10-31

سيدي الرئيس، سيداتي سادتي، أستهلُّ حديثي بشكر مركز القدس للدراسات السياسية على دعوتي للمشاركة في هذه الورشة، مع إخوة كرام، مفكرين، واستراتيجيين، عنوان الورشة كما تعلمون هو (الفلسطينيون على مفترق طرق)، وهذا يعني أن هناك طرقاً معروفة، وأن الفلسطينيين حائرون أيّ طريق سيسلكون، فهذا هو معنى الكلمة! وأما عنوان الجلسة فهو (مآلات الصراع العربي - الإسرائيلي) وهذا يعني تعدد احتمالات مصير الصراع، وأن الذي سيحدده هو الطريق المختار عند المفترق، وبالتالي فإن حديثنا في هذه الجلسة سيتعامل مع المستقبل، وسينطوي الحديث على اختيار الطريق، لأنه هو الذي سيقرر المصير، وأودّ أن أذكّر هنا بالمبدأ الذي يقول (عدم القرار قرارٌ بذاته)، أي أن عدم اختيار الطريق هو بذاته عدم اختيار.

في كتابي الذي صدر قبل نحو عام بعنوان (يوميات عدنان أبو عودة)، ذكرت في الإهداء العبارة الآتية: لحكيم نسيت اسمه، ويقول الإهداء: إلى الذين يؤمنون بإعادة اكتشاف ماضيهم، يُمكّنهم من حاضرهم، وينقذ لهم مستقبلهم.. ولأنني أحترم هذه الحكمة، فأولى بي في حديثي بهذه المناسبة أن التزم به، فاليوم هو الحاضر القاهر، أما المستقبل فهو الذي نفكر فيه لنكسبه، وعليّ إذن أن أبدأ بإعادة اكتشاف الماضي بروح نقدية، ولكنني قبل ذلك سأذكر لكم عدداً من الحقائق التي تتصل كما أعتقد في موضوعنا:

أولاً: أن القيادات العربية والفلسطينية تعاملوا مع القضية الفلسطينية منذ ثورة عام 1936 من منطلق فهمٍ بدويّ قديم، يرى بأن الزمن هو الانتظار، ولم يتعاملوا معه -للأسف- كما تعامل معه الصهاينة، إذ رأوا في الزمن فرصة للعمل لتحقيق الغاية.

ثانياً: تقوم الحركة الصهيونية على ركيزتين: الأولى، هي الاستيلاء على أرض فلسطين، وقد حققتها عام 1967 في عدوان حزيران، والثانية، هي إحلال اليهود محل السكان العرب في أرض فلسطين، أي الديمغرافيا، وما زالت تعمل على ذلك.

ثالثاً: في عام 1981، زارني في مكتبي بوزارة الإعلام، بريماكوف، وهو سياسيّ كان مسؤولاً عن معهد الاستشراق في الاتحاد السوفيتي، وقال لي بالحرف الواحد: "عدنان.. انسوا الدولة الفلسطينية لأنها لن تكون"! كان من عادة بريماكوف في النصف الثاني من السبعينيات، أن يزور عمان مرة في العام، كان يقابل خلالها جلالة الملك المرحوم الحسين -طيب الله ثراه-، وكان يقابلني في مكتبي في اليوم التالي برفقة السفير السوفيتي، وكنت بعدها أذهب للملك الحسين أنقل له ما سمعت، كما يخبرني جلالته بما سمعه هو أيضاً، أي كما يقول الإنجليز: (comparing notes)، فوجدت أن الزائر السوفيتي قد أخبره بذات الكلام.

رابعاً: أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 1991 بعد انتهاء حربه على العراق، بأنه سيعقد مؤتمراً دولياً للسلام، وطلبت الخارجية الأمريكية آنذاك من الأردن وغيرها، أن يرسلوا مُبتعثاً لتوضيح الموقف الأمريكي من المؤتمر، فابتعثني جلالة الملك الحسين. وكان من شروط واشنطن ألا يُعلن عن زيارة المبعوث في الأردن، تلافياً لانتقاد الشعب الأمريكي لموقف الأردن من حرب العراق، فذهبت إلى سان فرانسيسكو بمهمة أخرى، ومنها إلى واشنطن، والتقيت وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في مكتبه، وكان يصحبني السفير الأردني في واشنطن حسين حمامي، ليُدوّن محضر الاجتماع.أخذ الوزير بيكر يشرح رؤية الرئيس الأمريكي للمؤتمر في ربع ساعة، ثم سألني: هل أصبح الأمر واضحاً؟ فأجبته بالنفي، لأن كلّ ما ذكره كان جوانب إجرائية للمؤتمر، كرئاسته، وعدد لجانه، وغير ذلك من القضايا المشابهة.بعد أخذٍ وردّ لمدة نصف ساعة قال لي: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أن أعرف نهاية اللعبة التي في ذهن حكومتكم.. ودخلت السكرتيرة حينئذ لتنبهه على الموعد التالي لديه، فقال لي وقد فهم ما قصدته: "سيد أبو عودة، لن يكون هنالك دولة فلسطينية، بل كيان أقلّ من دولة وأعلى من حكم ذاتي"! فانتهت المقابلة، وأرسلت لجلالته من واشنطن محضر الاجتماع، ولا أدري إن كان قد أرسل المعلومات للمرحوم ياسر عرفات أم لا.بالمناسبة، قرأت تصريحاً منسوباً لنتنياهو قبل أيام، قال فيه في اجتماع سياسي جرى مؤخراً في إسرائيل نفس الجملة، أي: "شيء أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي"، فهل عادوا يا ترى إلى هذه الفكرة مرة أخرى؟ أدرك أن الأمر غير ثابت بالضرورة، وأنه قد يتغير بناء على تغير الأولويات مع مرور الزمن، لكن هذه الحقائق تساعد المنخرطين من الفلسطينيين في المفاوضات مع أمريكا وإسرائيل في إدارة مفاوضاتهم.

خامساً: في 19 تشرين الثاني عام 1983، أي بعد أكثر من عام على خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، نظّم الرئيس كارتر ندوة سياسية في مركز كارتر في اتنلاتنا، وهي بلده (جورجيا)، ودعا إليها التالية أسماؤهم، الأمير الحسن من الأردن، وفاروق الشرع من سوريا، وأسامة الباز من مصر، وبندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن، والبرفيسور الإسرائيلي رابينو فيتش، وقد اصطحبني –متكرماً- سمو الأمير الحسن معه، وبعد انتهاء الندوة كان سمو الأمير الحسن قد رتب لإجراء لقاء مع هنري كيسنجر في نيويورك ونحن في طريق عودتنا إلى عمّان.

حضر هنري كيسنجر في الموعد المحدد في الفندق الذي أقمنا فيه، وطلب مني الأمير الحسن الجلوس معه، كنت حينها وزيراً للإعلام، وكان يشغلنا في الأردن منذ عام 1974 مسألة رفض إسرائيل شمولنا في برنامج فك الاشباك الذي بدأ في مصر وانتهى في سوريا بحجة أن الأردن لم يفتح جبهة قتال من حدوده بالرغم من قتاله في هضبة الجولان، بحسب ما أخبرنا رئيس الوزراء في حينها دولة زيد الرفاعي نقلاً عن هنري كيسنجر!

كنا في ذلك الوقت نتنافس في الأردن مع منظمة التحرير على ولاء أهل الضفة الغربية، فذهبت إلى الملك الحسين وأخبرته بما نقله دولة رئيس الوزراء فأكد لي صحة الكلام المنقول، فقلت له: لكن هذا الموقف يشير إلى أن إسرائيل لن تتخلى عن الضفة الغربية، لأنها تعتبر منظمة التحرير إرهابية وتحاربها، فيما جبهتنا معها هادئة، وهي بذلك تدرك أن انسحابها إلى أريحا سيعمل على أن يميل أهل الضفة الغربية في ولائهم نحو الأردن، وبالتالي فإن رفضها فك الاشتباك معنا يعني أنها لا تريد منظمة التحرير الفلسطينية ولا تريدنا، فكان هذا ما استنتجته وأخبرت الملك به.

عملت وزيرا للإعلام من عام 1974 حتى عام 1975، وكذلك من عام 1976 حتى عام 1979، ثم من عام 1980 حتى عام 1983، وقد كنت بصفتي الوزارية أستقبل الناس وأشرح لهم موقفنا السياسي من القضية الفلسطينية.وكنت كذلك أحبُّ أن ينتهي احتلال الضفة، إذ إنني نابلسيّ الأصل، فكنت أثير قضية فك الاشتباك مع الأجانب، من وزراء ودبلوماسيين وسفراء وأكاديميين وصحفيين وغيرهم.

المهم، أننا في لقاء كيسنجر المذكور، أثرنا قضية فك الاشتباك فقال كيسنجر أن الأردن غير مشمول به، لأنه لم يفتح جبهة قتال من حدوده، فما كان مني إلا أن قلت له: سيد كسينجر.. بمعرفتي في الشرق الأوسط، فإن المثقفين والسياسيين يعتقدون بأنك صاحب هذه الفكرة.انفجر كيسنجر غضباً، وأرعد وأزبد، وحاول أن ينفي عن نفسه هذه التهمة، لأن كيسنجر هو مَن غيّر صفة الأرض المحتلة في الضفة الغربية من أرض محتلة إلى أرض متنازع عليها، وهذا ما مكّن الإسرائيليين من بناء المستوطنات. وعندما رأيته مُغضَباً بهذه الصورة سألته: مَن صاحب الفكرة إذن؟ فقال لي مباشرة: إنه السادات!

بعد هذا اللقاء بشهرين، عملت في الديوان الملكي وزيراً للبلاط، وأدركت وقتها أن الملك الحسين كان مهموماً بثلاث قضايا قومية: الهمّ الأول، كيف يصالح صدام حسين مع حافظ الأسد، والثاني: كيف يعيد مصر إلى الحظيرة العربية، والثالث: اتساع وسرعة انتشار الاستيطان في الضفة الغربية، لأن موضوع الاستيطان في الضفة الغربية مقلق للأردن لما له من نتائج متصلة بالمملكة.اختارني الملك الحسين لمهمة كيف نُعيد مصر إلى الحظيرة العربية، فكنتُ أحمل الرسائل إلى مبارك وأعود بالجواب، كان يستقبلني بالقاهرة في ذلك الوقت نظيري المرحوم أسامة الباز، فيأخذني من المطار إلى القصر الجمهوري، فأسلّم الرسالة ونذهب بعدها سويّاً نتحدث قليلاً أثناء شرب القهوة، ثم أعود إلى عمان حاملاً الجواب.في زيارتي الرابعة خرجنا متأخرين قليلاً من عند الرئيس حسني مبارك، فدعاني أسامة الباز لتناول طعام الغداء سويّاً، فتوجّهنا إلى الفندق، الذي دعا إليه الباز ثلاثة سفراء في الخارجية المصرية آخرين ليشاركونا الطعام.أثرتُ أثناء اللقاء قضية الرفض الإسرائيلي إعطاءنا حقّ فك الاشتباك، فأشار أحد السفراء المصريين إلى أن الرباط هي مَن عرقلت الأمور، لأنها حوّلت الضفة الغربية من أرضٍ محتلة إلى أرضٍ مُتنازعٍ عليها، فقلت له: مع الاحترام، لكن المرحوم أنور السادات هو صاحب الفكرة. فجّنّ جنون السفراء الثلاثة، ودافعوا عن السادات وأنا أستمع لهم، فيما بقي صديقي أسامة صامتاً، حتى انتهوا من حديثهم وعادوا إلى هدوئهم.

بعد ذلك، قال أسامة: "ما تحدث به عدنان صحيح، أصل الفكرة من كسينجر، لكن أريد تصحيح أمر واحد، إذ إن كسينجر باعها لوزير الخارجية إسماعيل فهمي، الذي باعها هو الآخر بدوره للرئيس أنور السادات".إذن.. لعب كيسنجر هذا الدور في منح إسرائيل الوقت لكي تصبح قوة استيطانية من أجل الاستمرار في التوطين، الذي ما زال مستمراً حتى اللحظة، إذ تشير الإحصائيات الفلسطينية إلى أن عدد المستوطنين ستمائة وخمسين ألف مستوطن أو أكثر، وإنني أتذكر كشخص فلسطيني أو قارئ عن فلسطين، أنه في عام 1947 عندما قاموا بعمل التقسيم كان عددهم خمسمائة ألف في كل فلسطين، الآن ستمائة وخمسين ألف في الضفة الغربية لوحدها، فتخيلوا كيف لعب الوقت دوراً في صالح الإسرائيليين.

سادساً: تعمل النظرية الصهيونية في فلسطين وفقاً للتسلّل الناعم في إيجاد الأمر الواقع، ثم شرعنته في الوقت المناسب، من الأمثلة على ذلك، عندما جاء الانتداب البريطاني عام 1921 كانت تُسمّى نابلس بحكم أنني نابلسي، وأيام الأتراك العثمانيين، بـ(سُنجق نابلس)، ولكن الانتداب غيّرها إلى لواء السامرة، ولم ينتبه أحدٌ إلى مثل هذه التغييرات، التي عمل من خلالها الإنجليز في مساعدة الصهاينة.سأعطيكم مثالاً آخر، نظن بأن اللجوء الفلسطيني جرى بعد أيار/1948، لكن الواقع بأن أول موجة لجوء فلسطيني حصلت بعد قرار التقسيم في نوفمبر عام 1947، وقد أمر بن غوريون بعملية تطهير عرقي للعرب من المناطق المُقسّمة لإقامة دولتهم.كنت آنذاك قد انتهيت من الفصل الأول الدراسي من الصف الأول ثانوي، وقد أغلقت المدرسة، فسألنا عن سبب الإغلاق الذي علمنا لاحقاً أنه نتيجة استقبال اللاجئين، والسؤال هو: أين هي الحماية البريطانية للفلسطينيين من التطهير العرقي بموجب صكّ الانتداب الذي حكمتنا بموجبه؟ وكيف سمحت لليهود بممارسة التطهير بحق الفلسطينيين، لم تُثر هذه النقطة حتى اليوم! وهذه المشكلة التي أودّ أن أشير لها، وهي أن لدينا مشكلة في الوعي في العالم العربي، في الوقت الذي يملك فيه اليهود كل الدنيا.

قمت بعمل ملخص تاريخي مهم عن القضية الفلسطينية، وضعته على الشكل التالي:
من عام 1949 توقيع الهدنة - 1964 أسميتها فترة رقاد القضية الفلسطينية. وبالرغم من أنها فترة رقاد إلا أنها نجحت في أمر وحد، هو حصار العرب لإسرائيل ومقاطعتها، وقد كانت إسرائيل متضايقة لهذا الحصار.شهد العام 1964حراكاً سياسياً من الرئيس المصري جمال عبد الناصر بمؤتمر القمة الذي أنشئت فيه منظمة التحرير الفلسطينية، فاستيقظت القضية الفلسطينية بعد تلك الحالة من الرقاد.في عام 1965 انطلقت حركة فتح، وأعلنت القتال ضدّ إسرائيل، واستمرت هذه الحقبة حتى نهاية عام 1982، وقد شهدت هذه الفترة حرب حزيران 1967.بعد خروج المقاتلين من لبنان عام 1982، بدأت مرحلة جديدة بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية، إذ توجّهت القيادة إلى تونس، وقد كانت هذه المرحلة مرحلة علاقات عامة في أغلبها، يمارسها ياسر عرفات وجماعته.في العام 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية التي كانت أعظم عمل فلسطيني في القرن العشرين، وقد أيقظت العالم من سباته ولفتت الأنظار مجدداً إلى القضية الفلسطينية، فقد كانت الانتفاضة ثورة حقيقية، حرّكت الماء الراكد ودخلت كلمة "انتفاضة" إلى القاموس الغربي، وهذا دليل على حجم التأثير الذي حظيت به الانتفاضة التي تبنتها منظمة التحرير.في العام 1988، فكّ الأردن العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية، أو ما عُرف بفكّ الارتباط، وتوجّه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رحمه الله إلى تونس، وأعلن من هناك قيام الدولة الفلسطينية.

قبل فكّ الارتباط، قامت بيننا وبين أبي عمّار شراكة في الأعوام 1984-1986، حاولنا في شراكتنا مع أبي عمار أن نلتقي الدول الكُبرى، حتى نُعطي شراكتنا قيمة دبلوماسية عالمية، قابلنا بريطانيا، فيما رفض الاتحاد السوفيتي مقابلة الوفد الأردني-الفلسطيني المُشترك من أجل سوريا، وبإعلان أبي عمّار قيام الدولة الفلسطينية قَبِل بالقرار 242، و قَبِل كذلك التنديد بالإرهاب والعمل الإرهابي، وكان ذلك للقاء الأمريكيين، وهو ما كان يرفضه أبو عمّار أثناء شراكتنا معه. فكّ الأردن الارتباط في 31 تموز، ثم شهد شهر تشرين الثاني مؤتمر الجزائر، وقَبِل أبو عمار بالاثنتين، وقد قلت في إحدى محاضراتي، بأن أبا عمّار قَبِل ما كان يرفضه، لأن شريكه الأردنيّ خرج.

نشرت صحيفة العربي الجديد قبل حوالي عام، بأنه قبيل حرب اكتوبر/1973 كان بعض قادة حركة فتح كأبي اللطف وأبي إياد موجودين في القاهرة، وكان أبو إياد مُقرّباً من الرئيس المصري أنور السادات، وقد طلب منهم مشاركة الفصائل الفلسطينية في الحرب.أرسل أبو إياد رسالة آنذاك إلى ياسر عرفات يخبره فيها برغبة مصرية تقضي بتفاهم منظمة التحرير الفلسطينية مع الملك الحسين بن طلال ضمن مصالحة وطنية على حكم الضفة الغربية والقطاع عبر الحكم الذاتي لمشروع المملكة المتحدة.
ومن المعروف أن مشروع المملكة المتحدة كان مقترحاً أردنياً عام 1972، لكنه قوبل بالرفض من أبي عمّار، وجولدا مائير وأنور السادات، وقد رفضه الثلاثة، كلٌّ لسببه، غير أن رفض أبي عمار كان واضح الأسباب بأنه لا يريد شراكة أردنية في الضفة الغربية، بل يريدها له.

حدّد أبو إياد موقفه من هذا الهمس المصري الذي سمعه من سياسيين وعسكريين في القاهرة بثلاث نقاط: أولاً، أن المنظمة ليست بصدد التفاهم مع الملك الحسين بن طلال مهما كانت الأحوال، ثانياً، مقاومة إعادة السيطرة الأردنية على أيّ أرض فلسطينية بالوسائل الممكنة والمتاحة، ثالثاً، المطالبة بحق تقرير المصير لشعبنا دون أي وصاية عربية أو غيرها.

في رسالة أخرى، بحثوا المؤتمر الدولي الذي دُعي له بعد حرب أكتوبر، ورسالة أخرى ناقشوا مؤتمر السلام في مصر بعد وقف إطلاق النار، وقد كتب أبو إياد في هذه الرسالة لأبي عمار باحتمالية فشل مؤتمر السلام، وألا يتفق الأطراف على موضوع الانسحاب، أو أن ترفض أحد الأطراف الحضور كسوريا مثلاً، أو أن ترفض هذه الأخيرة ما قُرّر لها من حصتها في الجولان، منزوعة السلاح، أو أن تكون تحت سيطرة دولية، وعقّب أبو إياد: في أيّ من هذه الحالات، فإن موقفنا -أي موقف منظمة التحرير الفلسطينية- سيكون قوياً، وعلينا أن نركز على المحاور الخاصة بالملك الحسين بن طلال، لأنه عدونا الأول في المنطقة العربية.

أقول، إن هذين الاقتباسين يدلان بكل وضوح بأن هدف حركة فتح كان في ذلك الوقت متمثلاً في حكم الضفة الغربية، وليس تحرير الأرض الفلسطينية.

ما أريد قوله أيضاً، إذا عُدنا إلى أوسلو والانخراط بالعمل السياسي بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بقرار 242 وغير ذلك، بدأت آنذاك ما كان يُعرف بمحادثات بلترو-ياسر عبد ربه في تونس، والإشارة هنا هي أن المفاوضات ما كانت لتكون لولا أن منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت بقرار 242، لأن شرط هنري كسينجر في عام 1973، أنه لن يتحدث مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا إذا قبلت بقرار 242، وشجبت الإرهاب، ففعلت المنظمة ذلك في الاستقلال، فارتفع الحظر.
لا يمكن أن نفهم "أوسلو" ما لم نفهم السيكولوجية التي تملّكت ياسر عرفات حينئذ، لقد رأى أبو عمّار ومَن معه بأنه أصبح قريباً من أن يصبح رئيساً لجمهورية، فقدّموا تنازلاتٍ كثيرة لم يكن ليتنازل عنها أيّ مؤمنٍ بالقضية الفلسطينية. هذا ما يُفسّر إقدامهم على "أوسلو" وانخراطهم بها.

كلّ ما تناولته كان وجهاً قاتماً، لكن الوجه المشرق في الموضوع، هو أنني أؤمن شخصياً بأن الأمور تتغيّر مع مرور الزمن، إذ إن هناك مؤشرات جيدة تعطيني أملاً، أول تلك المؤشرات الرسالة التي أرسلتها عهد التميمي، التي أسميها جان دراك الفلسطينية، للمحروق بن غوريون والمحروقة غولدا مائير في قبورهم، إذ قالت لهم: إن الفلسطينيين لن ينسوا فلسطين، فلقد كان رهان الإسرائيليين على أن تنسى الأجيال الفلسطينية حقّها المشروع.

الإشارة الثانية المُشرقة، هي حركة مقاطعة إسرائيل (PDS)، فقد خرجت عن قيود منظمة التحرير الفلسطينية المبنية على مفاهيم أخرى تماماً، واستطاعت أن تفهم العالم أكثر من المنظمة، ربّما لأن شباب هذه الحركة يدرسون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، وبالتالي هم الأقدر على التعاطي مع Global Values، أي: القيم الكونية، التي أهمّها حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وغيرها من المفاهيم والمبادىء التي يتحدث بها كل العالم الآن.
ولقد استطاع شباب (PDS)، أن يتناولوا هذه الموضوعات والقضايا في المحافل الدولية، ما اضطر إسرائيل لأن تُعيّن في سفاراتها حول العالم موظفين يتابعون أنشطة هذه الحركة، لأنها بدأت تعمل على إدماج بعض الشباب اليهود في أنشطتها، وهو ما تحاول إسرائيل الحيلولة دونه.


-ورقة عمل قُدمت في المائدة المستديرة: "الفلسطينيون على مفترق الطرق"الذي نظمها مركز القدس للدراسات السساسية  يومي 31 اكتوبر و1 نوفمبر 2018 الاردن- عمان.

https://alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=2448