حيدر إبراهيم علي
مركز الدراسات السودانية -الخرطوم
استهلال:
تقدمت قضية الإصلاح السياسي كل الأجندة السياسية خلال الفترة الماضية والتي تمتد حوالي عقد من الزمن . ولم يعد من الممكن لأي قوى سياسية أو مفكرين أو كتاب أو محللين أن تتخلف عن هذه الموجه الصاعدة والجارفة . ولكن هذا لم يمنع اختلاف الرؤي بصورة واسعة، ويعود ذلك أساساً إلي عدم الاتفاق حول المفهوم أصلاً مما يعكس – طبيعياً – مواقف سياسية وإيديولوجيات متباينة تعكس وعيها وإدراكها لمفهوم الإصلاح السياسي . وقد تعددت اللقاءات والمؤتمرات والمنابر ، ومع ذلك ظلت الاختلافات والتباينات قائمة ، مما سيؤثر سلباً علي حركة الإصلاح السياسي وتحولها إلي تيار قوي وفعال . وهذا لا يعني توحيد رؤية شاملة تحجب التنوع والتعدد ، ولكن المطلوب البحث عن المشترك وعن الذي يجمع ويؤلف ويدفع إلي فعل جماعي مشترك يسرع من عملية الإصلاح السياسي ويجنبها الأزمات والتوترات وبالتالي الجمود أو الشلل .
ورغم أن التنوع والتعدد يمكن أن يكونا مصدر ثراء وخصب للمفهوم وللوسائل والآليات ، إلا أن التنوع غير المحدود قد يؤدي إلي الحيرة والارتباك.من الواضح أن التساؤل حول ضرورة الإصلاح السياسي لم يعد وارداً ولا نجد من يتشكك في الإصلاح وجدواه . ولكن الاختلاف حول مصدر المطالبة بالإصلاح أو حول السبل والطرق لتحقيق الأهداف ثم ماذا نريد من الإصلاح؟ وهذا يعني أن مرحلة القبول أو الرفض قد تم تجازوها حتى من قبل الحكومات والسلطات السياسية التي يراد إصلاحها . وهذا يعني أننا في مرحلة متقدمة بالنسبة لقضية الإصلاح السياسي ، أبعد من النقاش والجدل لماذا الإصلاح؟ فهذا فضل السؤال أو سؤال زائد ، لأنه من الواجب أن يكون الحوار والنقاش حول كيف يكون الإصلاح السياسي؟ ويقع هذا اللقاء والذي يتغي الوصول إلي شبكة للإصلاح والتغيير في العالم العربي ، تعمل كما يقول منظمة المؤتمر إلي "مأسسة الحوار وإدامته". ولكن يسبق هذا الفعل تأسيس فكر رصين وعميق ونقدي حول الإصلاح ، له رؤية واضحة وثاقبة لواقع ومستقبل الإصلاح .
إذ لابد أن يرتكز الفعل والعمل والمؤسسة علي ارضية فكرية متماسكة مقنعة وملهمة . وهذه مهمة المفكرين والباحثين تحويل الإصلاح من مجرد شعارات ورطانات إلي مفاهيم دقيقة ونظريات لها مناهجها ومقارباتها العلمية الجازمة . ويمكن من خلال التراكم المعرفي الذي تساهم فيه مثل هذه اللقاءات أن يحتل الإصلاح أولوية في الفكر السياسي العربي المعاصر ، خاصة مع إنحسار الإيديولوجيات والنظريات الكبرى.
في المفهوم يرتبط مفهوم الإصلاح أو فكرة الإصلاح بأزمنة وفكر الأزمة ، لذلك يحمل المفهوم تحليلاً لأزمة تتمثل في عدم قدرة النظام العربي القائم علي الحركة والتعامل مع عصره وظروفه . وقد ظل المجتمع العربي – الإسلامي يواجه أزمة دورية في التاريخ بسبب اعتبار الإسلام مرجعية شاملة صالحة لكل زمان ومكان ، ومن هنا جاءت فكرة أن يبعث علي رأس كل مائة عام من يجدد الدين في هذه الأمة . وكثيراً ما لجأ السلاطين والحكام المسلمون إلي تجديد أو إصلاح رغبة في تنشيط قواهم السياسية لمواجهة أخطار وتحديات داخلية وخارجية . ولكن فكرة التجديد أو الإصلاح كانت تمثل مجرد تعديلات شكلية في الوضع الراهن (Status quo) بقصد تحريكه لتجنب الصدام أي خطوات تكتيكية مؤقتة يعود بعدها النظام إلي الاستمرار أو استرداد وضع سابق (Restoration) وبالتأكيد لن يكون مثل الماضي تماماً بسبب حركة التاريخ . أما صحوة الإصلاح الحالية فهي تأتي ضمن متغيرات دولية وموجة ديمقراطية جديدة يصعب الهروب أو الاحتيال عليها بإصلاحات غير حقيقية.
تساءل بعض الكتاب قبل الدخول في تعريف وتحديد مفهوم الإصلاح ، هل تراجع مفهوم "الثورة" وحل محله الإصلاح؟ أم يحتوي الإصلاح علي مضمون وروح الثورة مع استبعاد وسائل القوة والعنف في إحداث التغيير؟ هذه أسئلة مهمة في تحديد المفهوم أن كثيراً من الثوريين من مختلف الاتجاهات ماركسية وشيوعية وإسلامية وقومية وبعثية وناصرية وغيرها ، هاجر أصحابها إلي حضن فكرة الإصلاح ، وهم الذين يدافعون وينافحون في صف الإصلاح .
فالمسألة تكاد تكون محسومة: استحالة القيام بثورة وحتى الانقلابات انحسرت فرصها ولن تجد القبول ، فإنقلاب موريتانيا محاولة لتحقيق الإصلاح بعد انسداد السبل السلمية أو المدنية . وليس هناك من يطرح "ثورة ديمقراطية" علي جدول أعمال القوى السياسية والاجتماعية العربية ، لأنه كما يقول عزمي بشاره:
"والقوى التي تطرح نفسها كقوى تطالب بالتغيير الكامل بوسائل ثورية هي قوى غير ديمقراطية ولا تطرح بديلاً ديمقراطياً ، بل بديلاً ظلامياً فعلاً . أما القوى الديمقراطية فغير قادرة علي صنع الثورات . ولابد من مواجهة سؤال حقيقي ، نظري وتاريخي ، حول إمكان فرض النظام الديمقراطي (خصوصاً إذا كان ليبرالياً) بالثورة". يرى أن بعض المحاولات قد قامت لفرض الديمقراطية بالثورة ولكن تطبيق القيم الليبرالية في السياسة علي الأقل فهو نتاج عملية إصلاح مستمرة بعد الثورة ، وإحياناً في صدام معها . واعتقد أن هذا مدخل أساسي لمفهوم الإصلاح . فهي ليست عملية فنية أو دستورية فقط تحقق التداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات الحرة وفقاً لدستور ديمقراطي. فالإصلاح سيروره (Process) مستمرة تطال كل المجالات الكفيلة بتحقيق النهضة الشاملة والتقدم في السياسة والاقتصاد والاجتماع . إذ يمكن المخاطرة بالقول أن الإصلاح يعني الدخول إلي العصر أي القرن الحادي والعشرين وتحقيق النهضة التي نادى بها قبل ذلك رواد في نهاية القرن التاسع عشر . وأطلق عليهم صفة الإصلاحيين أو المجددين أمثال الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم . وهذا التعريف للمفهوم وهو الذي حدا بأحد المفكرين إلي أن يدعو إلي "ورشة وطنية للإصلاح" يقول محمد السيد سعيد: "أن نحول بلادنا إلي ورشة إصلاح أعني أن نصوغ برامج إصلاح علي كافة المستويات وفي جميع المجالات وكل مواقع الحياة . وأن نناضل فعلاً من أجل وضعها موضع التطبيق . فما يتطلبه هذا المدخل هو أن نطلق إرادة الإصلاح الكامنة فعلاً في النفس الإنسانية وفي الكيان الشخصي والجماعي المصري . فالنفس الإنسانية تنفر من الخطأ والاعوجاج والانحراف. "ويؤكد ولا يحتاج تحويل بلدنا إلي ورشة إصلاح سوى إحداث تحول أو تجديد واحد أو جوهري في الذهينة السياسية السائدة وهي عدم رغبتها في الثقة بالشعب وإطلاق طاقاته الإصلاحية والإبداعية". هناك ربط وثيق بين المشاركة وإنطلاق الإصلاح.
عرف موضوع الإصلاح اهتماماً واضحاً خلال السنوات التي اعقبت غزو العراق وتكونت أدبيات نتيجة مؤتمرات وندوات عقدت خلال السنوات الماضية . وكان مشروع الشرق الأوسط الكبير هو البداية المنظمة لطرح فكرة الإصلاح وقد كانت بداية ضارة من منطلقات عدة منها كون الفكرة آتية من الخارج يضاف إلي ذلك مصطلح "الشرق الأوسط" المثير للجدل . وهذا الأمر أثّر علي جدية الفكرة والحماس لها بسبب الإنشغال بقضايا جانبية وإضاعة الكثير من الوقت لنفض الغبار الذي علق بالفكرة . فقد أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" ، واعقبتها ألمانيا وفرنسا بما يسمى "مبادرة أوربا" . وعلي مستوى الإقليم ، تنالت المبادرات مثل مبادرة الاسكندرية ومبادرة الاستقلال الثاني في بيروت (19-2 ، مارس 2004) بالإضافة لمؤتمرات عن الإصلاح في الدوحة والمنامة والدار البيضاء وتونس وغيرها ، كذلك المبادرات المحلية التي تطلقها الحكومات العربية أو الأحزاب الحاكمة استعداداً للانتخابات أو بعض القرارات الإدارية والسياسية في قضايا حقوق مثل مشاركة وعمل المرأة ومنتديات مثل "منتدى المستقبل" كل هذا يمثل مكونات مفهوم الإصلاح سواء من خلال التعريف أو الوصف أو تحديد الشروط.
يمكن أن نؤرخ لإنطلاقة مصطلح الإصلاح بربطه مع مبادرة الشرق الأوسط الكبير بعد أن تبناها لقاء مجموعة الثمانية . فقد أصدرت عقب اجتماع سي ايلاند (جورجيا) في 9 حزيران (يونيو) 2004 وثيقة : "شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا". ثم صدرت وثيقة: "خطة مجموعة الثمانية لدعم الإصلاح" . ورغم أن بعض الأوراق في هذا المؤتمر مخصصة تماماً لمتابعة المبادرات ولكن يهمني في هذه الورقة مدى تأثير الأفكار الواردة في المبادرات علي المواقف الفكرية المختلفة للقوى السياسية والتيارات الإيديولوجية؟
تستهل وثيقة "شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك" ديباجتها بالقول: "أن القيم المجسدة في الشراكة التي نقترحها هي قيم عالمية . فالكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية وحكم القانون والفرص الاقتصادية والعدالة الاجتماعية هي تطلعات عالمية ، وهي تنعكس في مواثيق دولية ذات صلة ، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" . ويمكن تبنى هذه القيم كتعريف وأهداف للإصلاح . ولكن الأهم من ذلك ، ما يمكن أن يعتبر البعض حكماً قيمياً وهو عالمية هذه المبادئ أو القيم . إذ توحي العالمية بأنه خيّر وفاضل ونافع للإنسانية ككل بغض النظر عن الخصوصية التي قد تحاول أن تصد إنتشار أو وصول تلك القيم . ويقول نص الوثيقة صراحة في الفقرة الخامسة ما يلي: "كل بلد يمتاز بفرادته وينبغي احترام التنوع فيه. ومشاركتنا يجب أن تستجيب للظروف المحلية وتستند علي ملكية محلية . وسيتوصل كل مجتمع إلي استنتاجاته الخاصة به بشأن وتيرة التغيير ومداه . ومع ذلك فإن التمايز علي الرغم أهميته ، يجب ألا يستغل لمنع الإصلاح". وهذه هي القضية التي قامت عليها أغلب الخلافات بين التيارات العربية المختلفة وهي: ما مدى دور الخصوصية في تناول الإصلاح؟
حاول الباحثون الوصول إلي مفهوم شامل يحدد ماذا نعني بالإصلاح السياسي العربي أي مرتكزات هذا الإصلاح؟ ويقصد بالإصلاح السياسي المطلوب في المجتمعات العربية: "عملية تحول هذه المجتمعات من مجتمعات استبدادية شمولية أو سلطوية إلي مجتمعات ديمقراطية وليبرالية". وهذا يعني أننا نتوقع حسب علي ليلة:
أولاً: عملية تغيير اجتماعي مخطط تتحقق عبر سلسلة من المراحل والإجراءات ، ولا تتم مرة واحدة ، أي عملية مجتمعية تخص المجتمع السياسي كله في الدولة ، تخص الحاكمين والمحكومين ، وترتبط بالقيم وبالمؤسسات أيضاً.
ثانياً: حدوث تغيير له رؤية استراتيجية محددة هدفها تحويل الطبيعة الشمولية للنظم السياسية العربية ولعملية الحكم ومؤسساتها وآلياتها إلي نظم ديمقراطية (المؤسسات) وليبرالية (القيم والمفاهيم).
ثالثاً: إن هذا التغيير: ديمقراطي وليبرالي محكوم بالتجربة التاريخية لظاهرة السلطة والحكم في المجتمعات العربية وبالذات ما له علاقة بعرقلة تحول هذه المجتمعات إلي الحكم الديمقراطي والليبرالي . كذلك هو محكوم بالخطة التاريخية التي تعيشها هذه المجتمعات الآن في علاقاتها مع المجتمع العالمي.
علي ضوء ما تقدم يمكن أن نسأل من هو الإصلاحي العربي؟ أو علي من تطلق صفة الإصلاحي وما هي رؤيته للإصلاح؟ يعتبر إصلاحياً كل من رفض الأمر الراهن في الدول العربية فيما يتعلق بمدى ممارسة حقوق المواطنة حين يتم اختيار الحكام ومحاسبتهم بالإضافة لكل الحقوق الاقتصادية والثقافية المتعارف عليها في الصكوك الدولية . ويمثل الاصلاحيون حسب هذا التعريف إنتماءات واسعة تشمل كل القوى السياسية ونشطاء منظمات المجتمع المدني والعاملين في مجال الفكر والإعلام والتعليم ، وتعبر عن رغبتها في دولة ومجتمع يحتكمان إلي الديمقراطية وضمان الحريات.
الرؤي المختلفة للإصلاحيين العرب
صار من السائد تحديد التيارات الفكرية العربية في اربع اتجاهات أساسية ويمثلها:
1- الليبراليون.
2- الإسلاميون.
3- القوميون.
4- الماركسيون والشيوعيون.
ولكن عند تصنيف الموقف من قضية الإصلاح السياسي يمكن القول أن التيارات الرئيسية هي الليبرالية ، وتتقارب مواقف القوميين والإسلاميين لدرجة أنهم يمثلون تياراً واحداً حين نختبر المقولات والمواقف التي يتبنونها . والعديد من الماركسيين والشيوعيين يدافع عن الخيار الليبرالي والديمقراطي حتى الأحزاب التي احتفظت بأسمها القديم نجد في برامجها الدعوة لليبرالية والتعددية وأهمالها للمبادئ السابقة مثل دكتاتورية البروليتاريا أو الحزب الواحد المهيمن . وهم يمثلون الآن جزءاً معتبراً داخل التيار الليبرالي.
1- موقف الليبراليين العرب من الإصلاح:
يصعب تصنيف الليبرالين العرب علي أسس فكرية صارمة ذات حدود . ويدرج عوني فرسخ المجموعة التي حضرت مؤتمر الأسكندرية بعنوان "قضايا الإصلاح العربي: الرؤية والتنفيذ خلال 12-14 مارس / آذار 2004 ، تحت تسمية الليبراليين العرب الجدد . فهو يلاحظ غلبة الليبراليين علي الحضور مع وجود بعض الرموز القومية والماركسية ، مع غياب شبه كامل لممثلي التيارين القومي والإسلامي . وبالتالي يقول: "ينبغي النظر للمؤتمر باعتباره تجمعاً لشخصيات ليبرالية غير حزبية بالدرجة الولي . وعليه فهو يمثل قطاعاً محدوداً من المجتمع المدني العربي ، وهو وإن كان الأكثر بروزاً بين النخب المعاصرة ، إلا أنه ليس الأكثر تصدياً للتحديات التي تواجه الأمة العربية ، وبالذات مطالب الإصلاح الأمريكية ومشروع الشرق الأوسط الكبير".هذه إحدى التصنيفات التي اعتبرت مؤتمر الأسكندرية منبر الليبرالين العرب الجدد ، وقد يوحي بذلك أو يعطية الحق في هذا التعميم دعوة المؤتمر التي نجدها فيها ذكر لما يسمى منتدى الإصلاح العربي . مما قد يشير إلي استمرارية ما وبالفعل تتكرر الدعوات في مكتبة الأسكندرية لمؤتمرات وتوجه تقريباً لنفس الأسماء . وقد أصدر المؤتمر في نهاية وثيقة وبياناً وقع عليه المشاركون مما يعتبر إلتزاماً بما ورد فيه . ولذلك أصدر أربعة عشر مشاركاً بيان باسم "المثقفين العرب" يحّمل "الاستعمار الأوربي والامبريالية الأمريكية المسؤولية الاخلاقية الأوضاع العربية . واعتبار الحكومات الأوربية والادارات الأمريكية المسؤولة عن إقامة اسرائيل ودعم اختلالها الأراضي العربية . فضلاً عن مساندتها الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة ، ورعايتها التنظيمات والتوجهات الأصولية بحجة مواجهة الشيوعية". كما اعتبر البيان الادارات والأجهزة الأمريكية مسؤولة تاريخياً وأدبياً عن الإرهاب الأصولي المرفوض . وأدان البيان العدوان الأمريكي علي العراق واحتلاله ، كما أكد رفض موقعي التدخل الأمريكي في الشؤون العربية بدعوى الإصلاح ، واستنكارهم تكريس هذا المطلب التاريخي لطلائع الأمة العربية في إحكام السيطرة الأمريكية علي الوطن العربي.
يمكن اعتبار البيان الأخير مكملاً أكثر منه مناقضاً لنتائج مؤتمر الأسكندرية . فقد قدمت ست أوراق في المؤتمر تشكل عناصر مانيفستو أو بيان تدشين وإشهار وإلتزام . وقد غطت محاورها ما يلي: الأول حول الإصلاح السياسي والمؤسسي ودور المجتمع المدني اشتملت علي معالجة لموضوعات مثل الإصلاح السياسي والديمقراطية ، الإصلاح المؤسسي، تهيئة البيئة الملائمة للمجتمع المدني من خلال الإطار القانوني وتبسيط الإجراءات ومناخ سياسي قائم علي الشفافية والمساءلة مع حرية التعبير والمشاركة . كان المحور الثاني عن الإصلاح الاقتصادي دعا إلي الاهتمام بقضايا تنمية الاستثمار الخاص ودفع النمو الاقتصادي وخلق فرصاً للعمل والحياة الكريمة ، في إطار التنمية المستدامة للرجل والمرأة علي حد السواء . وهذا يعني أن تركز عملية الإصلاح الاقتصادي علي أوجه مثل الإصلاحات علي صعيد الدولة الواحدة وعمل إقليمي جماعي ودمج العالم العربي في الاقتصادي العالمي.
عالج المحور الثالث السياسات الاجتماعية مجالات وقضايا مثل عمالة الشباب ، وأوضاع المرأة ، والتعليم وبناء القدرات علي البحث والتطوير في العلوم والتكنولوجيا ، الخدمات الصحية والبشرية ، وشبكات الأمان الاجتماعي . وركز المحور الرابع: الإصلاح الثقافي ، علي ضرورة تجديد الخطاب الثقافي العربي وبالذات الخطاب الديني ومواجهة تيارات استثمار الدين للأهداف السياسية ، وذلك بالحوار الصريح والمتفاعل بين الأديان وكفالة الحريات الدينية دون قيود.
يلاحظ أن كتابات متابعة المؤتمر مثل: ماذا بعد وثيقة الأسكندرية؟ حاولت التصدي للنقد الذي أثاره بعض المشاركين وظهر في بيان المثقفين العرب . فقد ذكر المنظمون أن الوثيقة لم تدخل في تفاصيل الأوضاع في شتى الدول العربية ، واستدركت كل ما يمكن أن يكون مصدر نقد . ويظهر في كتابة لاحقة عن المؤتمر ، ما يلي:
"وقد أكدت الوثيقة علي أن الرؤية العربية للإصلاح وآليات التنفيذ يجب أن تنبع من الإيمان بضرورة انبثاق مشروعات الإصلاح من حاجات الناس ، وأن تستجيب لتطلعاتهم ، وأنها لا يمكن أن تفرض عليهم من الخارج . كما يجب أن تراعي الواقع القائم في الدول العربية ، وتحافظ علي المقومات والكيان العربي ، وخاصة ما يتعلق بتنمية الحركات الإصلاحية الضاربة بجذورها في تاريخه القريب".
تمثل وثيقة الأسكندرية إحدي رؤى الإصلاحيين العرب الهامة والأكثر تنظيماً وانتشاراً ، فقد شارك في المؤتمر مائة وخمس وستون شخصية عربية يمثلون ثماني عشرة دولة عربية وتصف اللجنة المنظمة والمتابعة نتاج لقاء الأسكندرية:
"وبذلك يمكن اعتبار وثيقة الأسكندرية نموذجاً للدعوة للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي يمكن من خلاله تحقيق أمل الشعوب في التغيير الإيجابي ، من خلال خطوات جادة وملموسة لتعميق الدراسات وبلورة الاقتراحات وتقوية أواصر التعاون بين منظمات المجتمع المدني ، والتي تسهم فيه بزمام المبادرة".
ظهرت مبادرة أخرى للليبراليين العرب الجدد ، حاولت إكمال نقص مبادرة الأسكندرية والمبادرتين الأمريكية والأوربية . فقد عقد اجتماع في المنتدى المدني الأول الموازي للقمة العربية في بيروت آذار / مارس 2004 . والذي نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات "عدل" والمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان ، وبمشاركة 52 منظمة غير حكومية وبالتنسيق مع الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان ، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان . وقد اصدر الاجتماع "وثيقة الاستقلال الثاني: نحو مبادرة للإصلاح السياسي في الدولة العربية" . وقد سميت بوثيقة "الاستقلال الثاني" أي استكمال مهمات حيازة الحق في تقرير المصير للشعوب ، وحكم نفسها بنفسها في إطار حكم ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ، وهي المهمات التي لم ينجزها الاستقلال الأول . (توصيات المنتدى المدني العربي الأول ، بيروت 19-22/3/2004) والاستقلال الثاني تعبير دأبت بعض الحركات الأفريقية المطالبة بالديمقراطية علي استخدامه منذ ثمانينيات القرن الماضي.
أوضحت وثيقة الاستقلال الثاني موقف المنتدى أو ما يمكن اعتبارها أيضاً رؤية مجموعة من الليبراليين العرب الجدد يتميزون بأنهم يمثلون منظمات المجتمع المدني كأدوات عملية للإصلاح ، وموقفهم من المبادرات الدولية للإصلاح ، ورد فعل حكومات الدول العربية تجاهها ، وتحدد المبادئ العامة التي تؤطر عملية الإصلاح في العالم العربي . وتتلخص المبادئ العامة التي اعتمدها المنتدى المدني والتي يجب أن تحكم عملية الإصلاح فيما يلي:
1- إن قيم حقوق الإنسان هي ثمرة تفاعل وتواصل الحضارات والثقافات عبر التاريخ ، بما في ذلك الثقافات العربية والإسلامية ، وحصاد كفاح كل الشعوب ضد كافة أشكال الظلم والقهر الداخلي والخارجي . وهي بهذا المعنى ملك للبشرية جمعاء بما في ذلك الشعوب العربية.
2- رفض التذرع بالخصوصية الحضارية أو الدينية للطعن أو الانتقاص من عالمية مبادئ حقوق الإنسان أو تبرير انتهاكها . والتأكيد علي أن الخصوصية التي ينبغي الاحتفاء بها هي تلك التي ترسخ شعور المواطن بالكرامة والمساواة.
3- حق كل الشعوب في العالم العربي في التمتع بأنظمة حكم تمثيلية مدنية ، تقر بحقها في أن تشرع لنفسها وبنفسها ما يوافق زمانها . وأن يشارك المواطن في إدارة الشؤون العامة عبر انتخابات حرة ونزيهة.
4- أن تقر الدساتير في العالم العربي الحق في التعددية الفكرية والسياسية والحزبية. علي أن تقوم الأحزاب علي أساس المواطنة.
يلاحظ أن المنتدى في توصياته ركز بوضوح علي إصلاح الخطاب الديني في مناهج التعليم وغير الديني وتطويرها وتخصيبها بأفكار المجددين الدينيين . ويبدو أن مجموعة وثيقة الاستقلال الثاني اهتمت بالدين وأعطته قيمة عليها في الإصلاح والتجديد . وتنتقد غياب آليات التنفيذ في جميع المبادرات الأجنبية والإقليمية ، رغم وجود تشابهات كبيرة بين عناصر الإصلاح المقترحة . تفتقر كل الدول إلى الإدارة السياسية الكاملة للإصلاح وكأن وثيقة الاستقلال تقول بأن الإصلاح يدخل الآن مرحلة عملية أكثر من حاجته إلى البحث عن المعنى والمفاهيم والأفكار . فهذه مسائل تكاد تكون قد حسمت . لأن كل التيارات لا تختلف حول ما هو المطلوب.
التيار القومي – الإسلامي
يطلق أحد الباحثين علي هذا التيار صفة "النخبة السياسية المحافظة" بسبب تمسكه بالقيم الإقليمية القديمة وبالخطاب القومي الذي تنطلق منه في موقفها من الإصلاح بتركيز علي الدفاع عن الأمة واستنهاض قدراتها للخروج من العجز والمهانة. (8) ولا يختلف هذا التيار عن الليبراليين في مضمون الإصلاح ولكنه يثير إشكالية مصدر الإصلاح هل يأتي من الداخل أم الخارج؟ وتعتبر المبادرات الأمريكية والأوربية شكلاً صارخاً – لدى هذا التيار – للتدخل في الشؤون الداخلية وتعارضاً مع الخصوصية الثقافية للعالم العربي باعتبار تفرض نموذجاً جاهزاً للديمقراطية علي العرب والمسلمين . وقد أثار موضوع الخصوصية جدلاً واسعاً فقد اعتبره أصحاب وثيقة الاستقلال الثاني من الليبراليين العرب مجرد ذريعة ، تقول ورقة لبهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لحقوق الإنسان:"وهذه الذريعة لا تقدم مثالاً واحداً فقط من المطالب المتضمنة في هذه المبادرة يتعارض مع الخصوصية الثقافية ، فكل هذه المطالب واقعية ومثارة في العالم العربي ، بصرف النظر عن الاختلاف أحياناً في الأولويات أو طريقة الطرح . وطرح هذه الذريعة بالجملة يشكل إهانة فظة للثقافة العربية ، فهي تعني أن هذه الثقافة تحض علي الفساد والاستبداد ظن وترحب بالتعذيب وتزييف الانتخابات والتعصب الديني والإرهاب وغيرها من الموبقات".
يتميز خطاب القوميين والإسلاميين باعتبار أن حل القضية الفلسطينية وانسحاب القوات الأجنبية من العراق شرطاً للإصلاح . ويرى الليبراليون أن هذا الموقف يمثل أيضاً ذريعة لوقف أو تعطيل الإصلاح . إذ هناك اتفاق بل وإجماع تام حول ضرورة حل عادل للقضية الفلسطينية ، وكما يقول أصحاب وثيقة الاستقلال من داخل المجتمعات يساعد علي خلق بيئة وقوة دفع ذاتي نحو الإصلاح من داخل المجتمعات في العالم العربي ، لأن هذا سيساعد علي أن تركز النخب السياسية والثقافية علي جدول الأعمال داخل كل دولة ، كما أنه ينزع أحد أهم أسلحة الحكومات العربية في صرف انتباه الشعوب عن هموم الداخل . ولكن كيف يمكن للحكومات العربية مثلاً أن تبرهن علي أن شيوع التعذيب أو تفشي الفساد أو اللجوء لتزوير الانتخابات العامة أو ... أو ... هو بسبب عدم حل المسألة الفلسطينية". أما احتلال العراق فهذا أمر حديث لا يتجاوز بضع سنوات ولا يمكن ربطه بضرورة الإصلاح.
أخذت مسألة الداخل والخارج حيزاً كبيراً في نقاش ومجادلات الإسلاميين والقوميين ، خاصة وقد ارتفعت أصوات الليبراليين تقول أنه لا يهم أن يأتي الإصلاح بيدي أو بيد عمرو أن يأتي راكباً جملاً أو دبابة . فقد تبنت الحكومات الرأي القائل برفض دور الخارج وأصابتها نخوة وكرامة وطنية فجائية حين طرح أمر الإصلاح ، بينما هي تقبل كل أشكال الخضوع والتبعية الأخرى ما عدا في موضوع الديمقراطية . ويهدد أو ينذر ليبراليون مثل سعد الدين إبراهيم ، من أنه إذا لم يتم التغيير عبر آليات الداخل ، فلابد من تدخل السيد "عمرو" كما حدث في النموذج العراقي . ويبدو في بعض كتابات الليبراليين وكأن التدخل الأجنبي صار مطلوباً وضرورياً لسوء الأوضاع وعجز العرب عن المبادرة والحركة . ويتصدى أحد الإسلاميين – من الأكثر انتشاراً إعلامياً – وهو فهمي هويدي للقابلين لفكرة التدخل لو دعت الضرورة ، ويقول:
"وفي سياق الحوار – حتى الآن علي الأقل – بدأ أن ثمة تسامحاً شديداً وصل إلى حد القبول والترحيب ، مع فكرة التدخل ، التي تفترض أنها من المحرمات أصلاً ، ومن الثوابت المستقرة في الفكر الوطني ، بل في التراث الإنساني" . ويدحض فكرة أن التدخل حمل معه تحرير العراق مثلاً ويعتمد في ذلك علي ممارسات جيوش الاحتلال في "أبو غريب" وكيف أنهم لم يقدموا النموذج المنشود بل العكس . والاختيار بين الاستبداد والاحتلال وأيهما نفضل؟ سؤال مغلوط في لحظات خطرة ، إذ يرى أن الاستبداد يذل المواطن في حين أن الاحتلال يذل الوطن كله ، وقد يضعف الإنسان فلا يرى بأساً من أن يتغاضى عن إذلال الوطن بالاحتلال في مقابل أن تنقذ نفسه من الاستبداد.
وقد استغل القوميون والإسلاميون هذه المعادلة في الهجوم التخويني علي كل التيار الليبرالي ويصرون علي أن فكرة الإصلاح بحكم التوقيت والظروف ، هي أمريكية تماماً . وهذه وسيلة لسحب الارتباط بالجماهير عن الليبراليين بوضعهم في معسكر معادٍ لشعوبهم يواصل هويدي: "نسجل ملاحظة أخرى لا تخلو من مفارقة هي أن الأسئلة التي تطرح والجدل الذي يدور حولها ، ذلك كله يجري في دائرة محدودة نسبياً ، تضم جماعات المثقفين ذوي الاتجاهات التغريبية ومنهم من هو محسوب علي حزب أمريكا في العالم العربي" (نفس المرجع السابق).
ينقل القوميون والإسلاميون الصراع حول الإصلاح السياسي إلى صعيد الخلافات الإيديولوجية ويعيدون إنتاج الحرب الباردة التي انتهت في العالم كله ومازالت تستعر في المواقف المصيرية أي التي تواجه التغييرات والتحولات مثل موضوع الإصلاح . وهكذا تتفرق رؤى الفرق المختلفة لأن مفاهيم كثيرة تفاعل في الساحة الفكرية . إذ نجد مقابل الإصلاح ظهور قضايا ومفاهيم الاحتلال والهوية والمقاومة والتطبيع . كما أن بعض الناقدين للأوضاع العربية يتم تصنيفهم حسب كتاب بلال الحسن كأسماء في "ثقافة الاستسلام" مثل حازم صاغية (لبناني) وكنعان مكية أو سمير الخليل (عراقي) صالح بشير والعفيف الأخضر (تونسيان) وأمين المهدي (مصري). ويقول أحد النقاد في عرض لكتاب الحسن: "والحقيقة أن جهداً أكبر يجب أن يبذل في هذه الاتجاه . اتجاه فضح كتاب هذه الثقافة المسمومة . ثقافة الاستسلام".
يرى أحد الباحثين أن الإصلاح السياسي العربي يواجه مشكلة ثلاثية الأبعاد فيما يخص جهات داعية – كل بطريقتها – للإصلاح: الخارج وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، لأن النموذج الذي قدمته سيئاً ومن يقوم بدعوة التجديد هم النخبة المكونة من المحافظين الجدد بكل انحيازاتهم للكيان الصهيوني وميلهم للعنف والغطرسة . والبعد الثاني دولة منفصلة عن مجتمعها وبالتالي سيكون مشروعاً للإصلاح إما غريباً عن رغبات المجتمع أو مفتعلاً . وقد مثل التيار الإسلامي البعد الثالث والذي رأي الإصلاح في العودة إلى أصول دين الأمة . يقول الحروب: "وقد وقف المجتمع في حيرة إزاء "الإصلاح" الذي يطالب به التيار الديني ، فهو من جهة يؤيد ويتعاطف مع ما يقع منه تحت العناوين الكبيرة التي تتناول مطالبة النخب الحاكمة بفك قبضتها عن السلطة والثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية ، لكنه في الوقت ذاته يشعر بتردد تجاه البرنامج الاجتماعي والمسلكي الذي يريد الإسلاميون فرضه باسم الإصلاح".
نحو رؤية مشتركة للإصلاح
بعد استعراض أهم أفكار التيارات الليبرالية والقومية والإسلامية نلاحظ الاتفاق حول الشعار ، ولكن سرعان ما ينشب الخلاف حول أسباب ومصادر المطالبة بالإصلاح . وأول ما يبرز علي السطح ويفّرق دعاة الإصلاح هو السؤال المفعم بالحماس والإيديولوجية: دور الداخل أو الخارج . ومن البداية يمكن القول أن هذا السؤال مضلل لأنه يأتي أحياناً كبديل للسؤال: هل نريد إصلاحاً أم لا نحتاجه الآن؟ فقد أصبح من الصعب تعيين حدود الداخل مقابل الخارج ، لسببين الأول: التداخل والتفاعل علي مستوى العالم في الأفكار والآراء التي تهاجر بسهولة عابرة للحدود الجغرافية المادية للدول . فقد صارت أقرب إلى الخطوط الوهمية أو المفترضة علي الخرائط . فهل كل الأسئلة التي نواجهها الآن في بلادنا داخلية بحتة؟ علي سبيل المثال: دور الإعلام وتأثير الفضائيات ، أو انتشار مرض الإيدز أو الإرهاب والجريمة المنظمة ، اتفاقية القات ، المحكمة الدولية الجنائية ، هجرة العقول ، حتى شفرة دافنشي .. الخ أعني أن سيرورة العولمة لم تعد تسمح لأحد بإدعاء "النقاء" الذاتي والبعد عن رياح العالم الخارجي . والمطلوب كيف التعامل معها دون أن تقلع جذورك؟ ولكن لا يمكن صدها . ومن ناحية أخرى ، فإن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يدعو إليها الإصلاح ، ليست حكراً علي الثقافة الأوربية الغربية رغم أنها كانت مصدرها الأساسي . فقد نختلف حول أشكال وآليات ومؤسسات الديمقراطية أي حكم الشعب بالشعب وللشعب أو المشاركة في اتخاذ القرار واحترام الحريات.يمكن توحيد الرؤية المشتركة حول أولوية وضرورية الديمقراطية دون أي أجندة خفية أو توظيف الديمقراطية للقضاء عليها . كما يخطط البعض: أن يستفيد من صناديق الانتخابات للوصول لي السلطة ثم خرق هذه الصناديق بعد ذلك إلى الأبد . لأنهم يرفضون الفلسفة الثاوية في الديمقراطية وتجريدها إلى التداول السلمي للسلطة فقط . فهم يرون الديمقراطية جماع الفلسفة اليونانية القديمة ومسيحية الإصلاح الديني بالذات والثورة الفرنسية .
لذلك ، المطلوب وجود ديمقراطيين حقيقيين يقودون عملية الإصلاح ، ويؤمنون بالديمقراطية كرؤية للحياة والمجتمع والكون لا تتعارض مع الرؤى الأخر أن لم تكن تكملها . مثل هذا الموقف الواضح من الديمقراطية يعطّل – بين الإصلاحيين - الجدال حول الداخل والخارج . ليس بمعنى الذوبان في الخارج ولكن تعديل الأولوية بضبط التعامل مع الخارج جيداً دون تبعية أو استلام. ونعيد السؤال مرة أخرى: هل تحرير فلسطين والعراق شرط للإصلاح في العالم العربي؟ فنحن نعلم ، علي الأقل بالنسبة لفلسطين كم من الجرائم ارتكبت تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة . فقد استنزفت الأنظمة الشمولية العربية – عسكرية وقبلية – زخم الحماس الصادق تجاه فلسطين ، وساهمت في أبعاد الجماهير عن تحقيق التحرير . والآن بعد كل هذه الهزائم وبعد أن دخل الفلسطينيون أنفسهم في عملية السلام وسكتت المدافع العربية صراحة . يصعب المزايدة باسم فلسطين وستكون كلمة حق يراد بها باطل كبير هو تكريس القمع وحكم الفرد . تبدأ مكونات الرؤية المشتركة من الإجماع حول الديمقراطية ، مؤكدين علي أن السلام العادل في فلسطين لابد أن تكون حاضنته أنظمة عربية ديمقراطية إذ يستحيل تحقيق السلام وسط أنظمة دكتاتورية وفاسدة.
يفترض في منظمات المجتمع المدني أن تكون وسائل لتكريس وتقوية الديمقراطية بين النخب والمجموعات القاعدية (Grassroot) . ونلاحظ بالفعل أن كل التيارات الفكرية والسياسية تسعى لتأكيد وجودها الملموس في المجتمع المدني العربي . ولكنها في أحيانٍ كثيرة تنقل أمراض الأحزاب والعمل السياسي التقليدي عموماً ، إلى ميدان المجتمع المدني . مثل غياب الديمقراطية والمؤسسية في إدارة المنظمات ، والضعف الفكري والنظري في مجالات الاهتمام والعمل إذ تشكو هذه المنظمات الكثيرة من وجود أدبيات تعقلن الأهداف التي قامت من أجلها . ومنظمات المجتمع المدني العربي تتسم – في الغالب – بطابع نخبوي مديني يقلل من ديمقراطيتها لعدم وصولها إلى أصحاب المصالح الحقيقية في قيامها . وهي منظمات حركية أكثر منها فكرية تهتم بتنمية الوعي مع العمل ، خاصة وأن هذه المنظمات تسمى تجاوزاً مؤسسات مجتمع مدني . فهي جمعيات خيرية في كثير من الأحيان ولا تهتم بقضايا التغيير المجتمعي والثقافي.
تستوجب عملية الإصلاح السياسي تحقيق حاجات اقتصادية واجتماعية تتمثل في تبني خطط تنموية منتجة وعادلة في التوزيع . ومن الخطأ الفصل في خطاب وممارسة الإصلاحيين بين الديمقراطية السياسية وبين الديمقراطية الاقتصادية – الاجتماعية . إذ لا يمكن أن تتعايش الديمقراطية السياسية أو الإصلاح السياسي إلى جانب الفقر والتخلف والحرمان . وكثيراً ما يشكو الناشطون السياسيون من اللامبالاة والانسحاب بين المواطنين العاديين . فقد أصبحت الانتخابات مثلاً لا تعني شيئاً بالنسبة لمواطن تسحقه الظروف المعيشية ويلهث طوال الوقت من أجل الحصول علي لقمة العيش البسيطة . ولا يتبقى له أي زمن لحضور الليالي السياسية أو اجتماعات حزبية مثلاً . لذلك ، لابد أن يهتم الإصلاحيون بالقضايا الاقتصادية – الاجتماعية ، خاصة وأن بعض الليبراليين يتبنون بعض خصائص الرأسمالية المتوحشة والتي يعتبرونها – خطأ – من محفزَّات الإصلاح والديمقراطية السياسية ولا يهتمون كثيراً بالضمانات الاجتماعية . ولا يعارضون تخلي الدولة الكامل عن التزاماتها تجاه المواطنين خاصة حقوقهم في التعليم والصحة.
يصعب تصور وجود رؤية مشتركة بين الإصلاحيين العرب بتياراتهم ومدارسهم المختلفة ، دون موقف واضح مرتبط بالعقلانية والتنوير في العالم العربي . فقد عاش العرب والمسلمون ركوداً طويلاً وهيمن الفكر الخرافي والغيبي غير العلمي . وساد خطاب ديني محافظ لم يتأثر كثيراً بالاجتهاد وبضرورات العصر الحديث ولم يمتثل لدعوة الإسلام إلى التعقل والتفكر . ومثل هذا الفكر المحافظ يتسبب في ممانعة الإصلاح خاصة وأنه قادر علي تجنيد البسطاء وغير المتعلمين للوقوف ضد الإصلاح بدمغة أنه موالٍ للمستعمر والكافر مثلاً.
من أهم الوسائل العملية للرؤية المشتركة ، الإكثار من الحوار والتفاعل بين التيارات المختلفة . فاللقاءات الفكرية الكثيرة تساهم في قبول الآخر والتعرف علي طريقة تفكيره . ولابد أن يكون هدف مثل هذا اللقاء البحث دائماً علي المشترك والمؤتلف فيما يتعلق بالإصلاح السياسي واعتقد أن فكرة الشبكة الحالية ستساعد كثيراً في التقارب الفكري وفي التدريب علي الديمقراطية بين دعاة الإصلاح السياسي.
هوامش ومراجع
1- عزمي بشارة ، "الإصلاح والثورة" صحيفة الحياة 1/7/2004.
2- محمد السيد سعيد، "ورشة وطنية للإصلاح" صحيفة الأهرام 5/4/2004.
3- علي ليلة: الإصلاح السياسي في الوطن العربي – المفهوم – المرتكزات – المؤشرات. في مرصد الإصلاح العربي . تحرير السيد يس . الإسكندرية ، مكتبة الإسكندرية 2005، ص 35.
4- عوني فرسخ، "الإصلاح بين الطروحات الأمريكية والطموحات العربية" ورقة للمؤتمر الثاني للإصلاح العربي ، التجارب الناجحة: الإسمندرية 13-15/3/2005، ص 10.
5- المرجع السابق ، ص 11.
6- مؤتمرات منتدى الإصلاح العربي . إصدارة عن مكتبة الإسكندرية . آذار /مارس 2004، ص 38.
7- نفس المرجع السابق ، ص 45.
8- مهيوب غالب أحمد "الإصلاح الديمقراطي العربي بين برامج الداخل ومشاريع الخارج" في: المستقبل العربي . نيسان/أبريل 2005، ص 156. ويذكر من ممثلي هذا الاتجاه: راشد الغنوشي ، طارق البشرى ، حسن الترابي ، يوسف القرضاوي ، رضوان السيد ، وجيه كوثراني ، وإلي حد ما: محمد عمارة ، حسن حنفي ، وفهمي هويدي.
9- بهي الدين حسن: 4 مبادرات تطارد سراب الإصلاح في العالم العربي . ورقة خلفية قدمت في اجتماع اللجنة التنفيذية للشبكة الاورومتوسطية لحقوق الإنسان في 20 مايو 2004.
10- نفس المرجع السابق.
11- فهمي هويدي ، "أسئلة مغلوطة في لحظة الخطر" صحيفة الأرام 26/8/2003.
12- بلال الحسن: ثقافة الاستسلام ، قراءة نقدية في كتابات كنعان مكية ،حازم صاغية ، صالح بشير ، العفيف الأخضر ، أمين المهدي . بيروت ، رياض الريس 2005. التعليق لفاروق عبد القادر في مجلة وجهة نظر ، يوليو 2005 ، ص 31.
13- خالد الحروب ، "العدوان الثلاثي لإصلاح المجتمع العربي: الخارج ، والدولة ، والتعصب الديني"