A+ A-
تحديات على طريق الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي في الأردن

2004-04-15

عريب الرنتاوي

قبل خمسة عشر عاما، قرر العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وقف العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وفتح الباب لإجراء أول انتخابات نيابية في العام 1989 بعد انقطاع دام قرابة الربع قرن...حيث أتيح لمختلف الأحزاب السياسية أن تشارك في تلك الانتخابات، على الرغم أنها لم تكن شرعية بعد، ذلك أن قانون الأحزاب السياسية لم يصدر إلا بعد ذلك التاريخ بثلاث سنوات.

والملاحظ أن دخول الأردن مرحلة من التحول الديمقراطي، قد تزامن على المستوى الكوني، مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية، وانفلات عدد من الدول في آسيا وأوروبا من قبضة حكم توتاليتاري ودخولها هي الأخرى مرحلة التحول الديمقراطي بعد خمسة عقود من الدكتاتورية ونظام الحزب الحزب الواحد.

لكن أية نظرة مقارنة بين ما أنجزه الأردن من جهة، وما أنجزته دول أوروبا الشرقية من جهة ثانية، تكشف عن اتساع حجم الفجوة بين ما تحقق هنا وما أنجز هناك...فالإردن ما زال في بدايات طريقه فيما كثير من الدول الأوروبية الشرقية، قد نجحت في كسب عضوية الاتحاد الأوروبي بعد أن استكملت المعايير المتعارف عليها لاحترام حقوق الإنسان وصون حقوق المرأة وتكريس قواعد الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة.

ووفقا لاستطلاعات الرأي العام التي يجريها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية سنويا، فإن غالبية الأردنيين تعتقد بأن الأردن ما زال يراوح في منتصف الطريق باتجاه التحول الديمقراطي، ففي مقياس من عشر نقاط، احتل الأردن مكانة تتراوح بين النقطة الرابعة والنقطة الخامسة على هذا التدرج، فيما غالبية الأحزاب السياسية والنخب الاجتماعية، تتحدث عن تراجع مسار التحول الديمقراطي عمّا كان عليه الحال في النصف الأول من التسيعينييات، أي قبل التوقيع على معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية.
ويغزو كثير من المراقبين والمحللين والناشطين السياسيين في الأردن، أسباب "المراوحة في نفس المكان" أو التراجع كما تقول بعض التقديرات المتشائمة، إلى جملة أسباب داخلية وخارجية أهمها:

أولا: على المستوى الإقليمي:تأثر الأردن في مختلف النواحي بما يدور حوله من صراعات وحروب وأزمات إقليمية، خصوصا على حدوده الغربية مع فلسطين وإسرائيل، وحدود الشرقية مع العراق...فالتعثر الذي أصاب عملية السلام بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابين في العام 1996، وازدياد حدة المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أثر بشكل كبير على التحولات السياسية الداخلية في الأردن، حيث اتسعت شقة الخلافات بين الحكومات المتعاقبة وقوى المعارضة وأحزابها، لا سيما التيار الإسلامي العريض في الأردن، الذي اتخذ موقفا مناهضا لعملية السلام منذ بداياتها في مدريد وأوسلو ووادي عربة، ودعا إلى اتخاذ مواقف تؤيد المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بشكل خاص، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب القلق والتوتر في العلاقة بين الإسلاميين والحكومات في الأردن.


ومثلما أدى تصاعد نفوذ قوى اليمين الديني في المجتمع الفلسطيني ممثلا بحركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى انتعاش دور الحركة الإسلامية في الأردن، فقد أفضى صعود اليمين الإسرائيلي وتسلمه سدة الحكم في إسرائيل قبل أربع سنوات تقريبا، إلى تنامي القلق والتوتر في العلاقة بين بعض القوى السياسية والاجتماعية في الأردن، فالمخاوف من التهجير الجماعي للفلسطينيين للأردن أو كما يسميه البعض خطر "الترانسفير والوطن البديل"، أدى إلى ظهور بعض الاحتقانات بين هذه القوى، وأظهر على السطح مجددا، واحدا من أهم التحديات التي تجابه مسيرة التحول الديمقراطي في الأردن، والمتمثل في الدور الذي يتعين أن يلعبه الأردنيون من أصل فلسطيني في هذه العملية، وكيف يمكن تطبيق قواعد المواطنة وسيادة القانون وتكافؤ الفرص بين الأردنيين بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم.
وعلى الحدود الشرقية، كانت التطورات العاصفة التي ألمت بالعراق، سيما بعد غزو الكويت وعملية عاصفة الصحراء، كانت هذه التطورات قد داهمت الأردن وهو على عتبة التحول الديمقراطي، الأمر الذي ألقى بأعباء سياسية وأمنية واستراتيجية واقتصادية ثقيلة، على المواطن وصانع القرار على حد سواء، فالعراق يقف على مفترق الطرق الأخطر منذ سنوات، ومعه تقف دول كثيرة في المنطقة، وفي مقدمتها الأردن الذي تربطه بالعراق، صلات متداخلة ومتشعبه، يصعب معها "فك ارتباط" الأزمة العراقية بالتحولات الداخلية الجارية في بلادنا.

ثانيا: على المستوى المحلي:تجابه عملية التحول الديمقراطي في الأردن، عددا من التحديات التي تتفاوت في قدرتها على تعطيل هذه العملية أو عرقلتها، وسنتوقف هنا أمام اثنين من أبرز هذه التحديات:
التحدي الأول: النفوذ الواسع الذي تحظى به الحركة الإسلامية في المجتمع الأردني، ممثلة على نحو خاص في جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي حزب جبهة العمل الإسلامي، حيث تتجلى المشكلة هنا في ثلاثة وجوه أساسية:

1. الضعف الشديد الذي أصاب مكانة ونفوذ الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية الأخرى، الأمر الذي جعل الإسلاميين، لاعبا مهيمنا على مؤسسات المجتمع المدني وعلى حركة الشارع السياسي الأردني عموما، وهو امر مقلق للحكومات ويعمق خشيتها من التقدم بخطوات جريئة على طريق التحول الديمقراطي، تحسبا لاستئثار الإسلاميين بأية مكاسب يمكن أن تتربت على سن قوانين حديثة وعصرية للانتخابات والأحزاب السياسية والاجتماعات العامة وغيرها.

2. اتساع شقة الخلاف السياسي بين الحكومات المتعاقبة والحركة الإسلامية منذ بداية التسعينييات حتى اليوم، حيث يصعب تذكر محطة استراتيجية واحدة، توافقت أو حتى تقاربت، بشأنها الآراء والمواقف بين الجانبين، بدءا من عملية السلام في الشرق الأوسط، مرورا بالحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق، وانتهاء بالموقف من قضية الإرهاب بفصولها وصفحاتها المختلفة، الأمر الذي انعكس صعودا وهبوطا، توترا وانفراجا في علاقات الحركة الحركة الإسلامية مع الحكومات المتعاقبة.

3. ضعف المعالجات الحكومية لما يسيمه بعض المراقبين "إشكالية العمل الإسلامي في الأردن"، حيث تميزت هذه المعالجات بطابعها الإجرائي – الأمني، في غياب رؤية سياسية استراتيجية حول "صورة الإسلام السياسي" التي يريدها الأردن، وفي غياب تصور واضح عن آليات دمج الإسلام السياسي واحتوائه في نظام سياسي ديمقراطي تعددي.التحدي الثاني: ويتمثل في الدور الذي يتعين على الأردنيين من أصول فلسطينية أن يلعبوه في إطار عملية التحول الديمقراطي، والمدى الذي يحدد مستوى مشاركتهم في مؤسسات الدولة وسلطاتها، سيما في هذه المرحلة الانتقالية التي لم تتقرر فيها بعد، صورة الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ولم تتضح فيها بعد حدود الدولة الفلسطينية الجغرافية، ولا ولايتها الديمغرافية.

وتؤثر هذه المسألة بشكل مباشر على صياغة قوانين الانتخابات وتوزيع المقاعد والدوائر الانتخابية على نحو يحفظ لهذه الفئة من المواطنين تمثيلا محددا، لا ينسجم مع نسبتهم الفعلية إلى عدد السكان، كما تثير مسألة "الوحدة الوطنية" بين مكونات المجتمع الأردني المخلتفة، جدلا حادا بين الحين والآخر، سواء بين النخب الأردنية المختلفة، أو بين بعض القوى السياسية المعارضة والحكومات، حيث ينظر أحيانا إلى الإخوان المسلمين بوصفهم حزبا للأردنيين من أصول فلسطينية، وتجري التعامل معهم ميدانيا على هذا الأساس، وهذه نظرة غير واقعية، فالإخوان المسلمون وإن كانوا يحظون بنفوذ هام في بعض المناطق ذات الأغلبية السكانية من الأصول الفلسطينية كالمخيمات مثلا، إلا أنهم مبثوثون أيضا في مناطق ذات غالبية سكانية من أصول شرق أردنية.
وتلحق مثل هذه التعبئة السياسية أحيانا، أضرارا بنسيج الوحدة الوطنية والمجتمعية بين الأردنيين على اختلاف منابتهم وأصولهم، لا سيما حين يتعلق الأمر بالانتخابات الطلابية في الجامعات الأردنية، حيث تتشكل القوائم المتنافسة على أساس منابت الطلبة وأصولهم، بدل التوجه لتشجيع الطلبة الديمقراطيين والليبراليين على توحيد صفوفهم في قوائم لمواجهة القوى المحافظة دينيا واجتماعيا.

وفي مواجهة هذه التحديات التي تجابهة عملية التحول الديمقراطي في الأردن، لم تظهر الحكومات المتعاقبة، الإرادة والوعي السياسيين الكافيين لتذليلها، فغالبا ما كان يجري الالتفاف على المشكلات والعقبات التي تبرز في سياق هذه العملية، إما بتأجيل استحقاقاتها الهامة والاكتفاء ببعض الخطوات الجزئية التجميلية، أو باللجوء إلى بعض المعالجات البيروقراطية والأمنية الإجرائية.
ومن أبرز الشواهد على هذه المعالجات المنقوصة، المصائر التي انتهت إليها توصيات "الهيئة الوطنية للأردن أولا" والتي خرجت بوثيقة مرجعية للشروع في الإصلاح السياسي والإدراي والقضائي والتعليمي، ووضعت الأساس لتفعيل دور المرأة والأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة، فضلا بالطبع عن توصياتها بشأن تنشيط دور البرلمان وتفعيل حضوره كسلطة تشريعية رقابية في النظام السياسي الأردني، حيث ظلت معظم هذه التوصيات، حبرا على ورق.

ومن الشواهد على هذه المعالجات المنقوصة، قانون الانتخاب الذي جرت بموجبه الانتخابات البرلمانية في العام الماضي، حيث أسهم القانون المذكور مسبقا، في تحديد نتائج الانتخابات، وجاء ببرلمان محافظ اجتماعيا، ولا يمثل التيارات والفئات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحديثة في المجتمع الأردني، فكانت النتيجة، أن أسقط البرلمان ذاته، مشاريع القوانين التي أريد بها النهوض بأوضع المرأة وتمكينها سياسيا واجتماعيا، ورد قانون المجلس الأعلى للإعلام الذي أريد له، الحد من احتكار الحكومات لوسائل الإعلام والسيطرة عليها، وأضاف إلى مشروع قانون الاجتماعات العامة، بنودا إضافية تقيد الحق الدستوري للمواطنين في الاجتماع والتظاهر، تعبيرا عن الرأي.

لقد جرت آخر ثلاث انتخابات برلمانية في الأردن، وفقا لقانون انتخابي صمم كما أشرنا للحد من تمثيل التيار الإسلامي، وذلك باعتماد قاعدة الصوت الواحد للناخب الواحد، من دون توزيع للدوائر الانتخابية مماثل لعدد المقاعد في المجلس النيابي، كما وضع مصمموا القانون الانتخابي في حسبانهم الحفاظ على مستوى معين لتمثيل الأردنيين من أصول فلسطينية، وذلك من خلال التوزيع غير العادل للمقاعد على الدوائر الانتخابية، فكانت النتيجة أن تعاظم دور البنى والمؤسسات والروابط التقليدية والمحافظة في الحياة العامة للبلاد، وانتعش دور العشائر والعائلات الكبيرة على حساب الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، واستمر قطاع من المواطنين ( الأردنيون من أصول فلسطينية) على استنكافهم عن المشاركة في العمل العام.

وإذ أدرك صانع القرار في الأردن أن عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي التي تشهدها البلاد منذ عدة سنوات، لن تكتمل إلا بإصلاح سياسي مواز، فقد بدأت مفاهيم الإصلاح والتحديث والمشاركة تعزو الخطاب السياسي الأردني، وجاءت حكومة السيد فيصل الفايز بتفويض رئيس قوامه تحقيق "التنمية السياسية" المصاحبة لمشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

ويلاحظ أن خطة التنمية السياسية التي تقدمت بها الحكومة بعد طول انتظار، تلحظ بشكل أو بآخر، الكثير من التحديات التي أشرنا إليها سابقا، وتعرض لأهداف وآليات، يعود بعضها لوثيقة الأردن أولا، وبعضها مشتق من الجدل الوطني الدائر منذ سنوات حول خطط الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، وربما لهذا السبب بالذات، لم تبد أطراف المعارضة وقوى المجتمع المدني تحفظات جدية حيال الخطة، بل أن بعضها رحب بها، والبعض الآخر، تحفظ على بعض بنودها وأولوياتها فقط.

بيد أن الجميع، من دون استثناء، ظل يشترط الترحيب بالخطة بالقدرة والاستعداد والالتزام، بتنفيذ بنودها والوفاء باستحقاقاتها...فقد سئم الأردنيون الحديث الممتد عن الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، وباتوا بحاجة إلى الأفعال الملموسة للبرهنة على جدية النوايا وصدقية الالتزام.

- مدير مركز القدس للدراسات السياسية