A+ A-
قراءة في العلاقة بين الدين والدولة في الدستور والتشريعات الأردنية
2009-10-31
رغم أن الدولة الأردنية لم تكن دينية بالمفهوم الذي قامت عليه المملكة العربية السعودية في الفترة نفسها تقريباً، أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، أو باكستان التي قامت على أساس القومية الإسلامية عام 1947، فإن هذه الدولة تأسست عام 1921، معتمدة على شرعية دينية، مستمدة من قيادة شريف مكة الحسين بن علي للثورة عربية على الدولة العثمانية، في أثناء الحرب العالمية الأولى.

لقد كان الإسلام مرجعاً رئيساً للحكم والثقافة والتقاليد لدى الدولة والملك المؤسس عبد الله بن الحسين، لكنه اختار عن وعي وتخطيط مسبق إقامة مملكة وراثية وليست خلافة إسلامية، وكان يدرك بوضوح الفرق بين الخلافة والملك والسلطان، كما هو واضح في كتابه «الأعمال الكاملة» (ص 473).

وكان الشريف حسين بن علي قد أعلن نفسه في 11 آذار 1924 خليفة للمسلمين، بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك رئيس جمهورية تركيا إلغاء الخلافة الإسلامية، التي ظلت الدولة المركزية للمسلمين لأكثر من أربعمائة عام، وتلقى الشريف الحسين بن علي البيعة من الناس في الحجاز والشام ومن الحجاج في ذلك العام، لكن نجله الأمير عبد الله لم يتابع تحقيق فكرة والده، ومضى في بناء دولة حديثة نيابية على غرار الدول والممالك الأوروبية، يمثل الإسلام فيها مرجعية أساسية للدستور والحكم والتشريعات والحياة العامة.

إن كل البيانات والتوجهات العملية التي رافقت تأسيس إمارة شرق الأردن، تبدي بوضوح، أن فلسفة الدولة لدى الملك عبد الله كانت ملكية حديثة على غرار الملكيات الأوروبية، تستلهم الإسلام والتاريخ مرجعيةً وإطاراً، حتى في إطار التنافس مع آل سعود لم يذكر الملك عبد الله أفضليته على منافسيه كونه من آل البيت أشراف مكة، بل إنه أخبر تشرشل في اللقاء المشهور الذي تم بينهما في القدس عام 1921 وكان أساس قيام إمارة شرق الأردن: «إذا أراد العرب استبدال بيت ببيت فذلك حق العرب»، يقصد إذا أراد العرب آل سعود بدلاً من الأشراف فذلك حق للعرب.وهو في موقع آخر من مذكراته يصف الملك عبد العزيز بأنه ملك حقيقي، وقد سافر إلى (نجد) في أواخر الأربعينات وهناك رأيت جلالة الملك عبد العزيز ووقفت على آرائه ونياته الحسنة، وهو من دهاة العرب في العصر الحاضر، حلو المعشر، وإنني أشعر الآن باحترام قلبي لجلالته، إذ أنه عاملني بما أحب من صراحة في السياسة وتبيان للحقائق، وعدم اعوجاج في ما رسم من خطط» (ص 296) وهو يعتقد في رسالة وجهها عام 1943، إلى الأمير عبد الإله بن علي الوصي على عرش العراق، أن من واجب بغداد وعمان لفت نظر النحاس باشا إلى أن يطلب باسم المؤتمر من الحكومة العربية السعودية، إيجاد إدارة دستورية وحكومة مسؤولة بالحجاز قائمة على هذا الأساس.

ومن تصوراته للحكم قوله: فلديمقراطية المرغوب فيها اليوم في الأمم الغربية والتي يقلدها فيها المسلمون هي بكمالاتها وحسنها موجودة في الإسلام، متوفرة فيه. (ص 273) والعبارات والشعارات التي كان يقول بها الأمير ويطرحها على الناس، مستمدة من القومية العربية حتى الانتساب إلى الرسول، كان يقدمه على أنه لرفعة العرب وخدمتهم «لو أن لي سبعون نفساً وضحيتها في سبيل القومية والوطن لما رأيتني قمت بالواجب» (ص 168) عندما أعلن استقلال شرق الأردن في 15 /5 /1923 قال الأمير عبد الله في حفل إعلان الاستقلال: أعلن بهذه المناسبة أنه سيجري إعداد القانون الأساسي للمنطقة وتعديل قانون الانتخاب بما يوافق روح البلاد وطبقتها وبيئتها (ص 172).

لكن الدين قام بدور أساسي ومهم في الدولة الأردنية، وكان للدولة والملوك المتعاقبين سياسات ومواقف دينية، يمكن ملاحظتها في السلوك والمواقف الشخصية للملوك، وفي الدستور الأردني والقوانين والأنظمة والتشريعات، وفي مناهج التربية والتعليم، والإعلام الرسمي وشبه الرسمي وفي سياسات الحكم والوزارات والجيش والدوائر الحكومية والرسمية، وفي المؤسسات الدينية المختصة كوزارة الأوقاف والمقدسات والشؤون الإسلامية، ودائرة قاضي القضاة، ودائرة الإفتاء في القوات المسلحة.

ونشأت في الأردن حركات أهلية إسلامية كانت على علاقة ودية مع نظام الحكم مثل جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية غير السياسية كالجماعات الصوفية، والتبليغ.فالإسلام وإن لم يكن مكوناً أساسياً للدولة، فإنه يمثل بيئة محيطة بالعمل العام والسياسي ومرجعية للملوك والدولة، وربما كان أحد أدوات الدولة في السيطرة وفي استيعاب المجتمع وترسيخ الحكم واستقراره.

في التشريعات الأردنية يمكن ملاحظة أن موقع الدين من الدولة، أكبر بكثير مما يبدو لدى الانطباع السائد، فمن الواضح أن التشريعات تنظر إلى الدولة باعتبارها مكلفة بإقامة الدين وتطبيقه وحمايته، فالدستور الأردني ينص في المادة 2: على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، وتنص المادة 27: يشترط فيمن يتولى الملك أن يكون مسلماً عاقلاً مولوداً من زوجة شرعية ومن أبوين مسلمين.

ويعبر قانون الأحوال الشخصية ووزارة الأوقاف والمحاكم الشرعية والوعظ والإرشاد، عن مجالات وواجبات الدولة في تطبيق الشريعة الإسلامية في مجالات واسعة في الأسرة والميراث والزواج والطلاق، وعلى الدور الديني للدولة وواجباتها تجاه الأحكام والتوجيهات الدينية والشرعية.

وتؤكد قوانين كثير من الوزارات والمؤسسات على موقع الدين في الحياة العامة ومرجعيته، وواجبات الدولة تجاه الدين أيضاً، فقانون وزارة التربية والتعليم ينص في المادة 3: فلسفة التربية وأهدافها: تنبثق فلسفة التربية في المملكة من الدستور الأردني والحضارة العربية الإسلامية ومبادئ الثورة العربية الكبرى والتجربة الوطنية الأردنية وتتمثل هذه الفلسفة في الأسس التالية:

أ - الأسس الفكرية- الإيمان بالله تعالى
- الإيمان بالمثل العليا للأمة العربية
- الإسلام نظام فكري سلوكي يحترم الإنسان ويعلّي من مكانة العقل ويحض على العلم والعمل والخلق
- الإسلام نظام قيمي متكامل يوفر القيم والمبادىء الصالحة التي تشكل ضمير الفرد والجماعة
- العلاقة بين الإسلام والعروبة علاقة عضوية

ب- الأهداف العامة
في المادة 4: تنبثق الأهداف العامة للتربية في المملكة من فلسفة التربية، وتتمثل في تكوين المواطن المؤمن بالله تعالى المنتمي لوطنه وأمته، المتحلي بالفضائل والكمالات الانسانية، النامي في مختلف جوانب الشخصية الجسمية والعقلية والروحية والوجدانية والاجتماعية، بحيث يصبح الطالب في نهاية مراحل التعليم مواطناً قادراً على:
- استخدام اللغة العربية في التعبير عن الذات والاتصال مع الآخرين بيسر وسهولة
- استيعاب عناصر الترا ث واستخلاص العبرة لفهم الحاضر وتطويره
- استيعاب الإسلام عقيدة وشريعة والتمثل الواعي لما فيه من قيم واتجاهات
-الانفتاح على ما في الثقافات الانسانية من قيم واتجاهات حميدة
- الاعتزاز الإسلامي والقومي والوطني
وينص قانون وزارة الأوقاف في المادة 3: على أهداف الوزارة على النحو التالي:
- المحافظة على المساجد وأموال الأوقاف وصيانتها وتنميتها وادارة شؤونها
- العناية بتطوير المسجد ليؤدي رسالته في مجالات التربية الإسلامية
- إذكاء روح التضحية والجهاد والثبات في الأمة، وتقوية الروح المعنوية من خلال المعاني الإسلامية وتوجيهات العقيدة
- تنمية الأخلاق الإسلامية وتمكينها في حياة المسلمين العامة والخاصة
- دعم النشاط الإسلامي العام والتعليم الديني وإنشاء المعاهد الدينية ومدارس تحفيظ القرآن
- نشر الثقافة الإسلامية والمحافظة على التراث الإسلامي، وإبراز دور الحضارة الإسلامية في رقي الانسان وتنمية الوعي الديني وشد المسلم إلى عقيدته
قانون وزارة التنمية الاجتماعية
- الإشراف على دور السينما والمسارح والملاهي بأنواعها، والنوادي والجمعيات والمهرجانات والموالد وتوجيهها
- مكافحة التشرد والتسول والبغاء والاتجار بالنساء والأطفال، وتشكيل شرطة آداب لهذه الغايات.

المجتمع الأهلي يستخدم الدين أيضاً في تنظيم نفسه وحمايته، كما هو واضح في جماعة الإخوان المسلمين ومؤسساتها، مثل حزب جبهة العمل الإسلامي وجمعية المركز الإسلامي التي أسسها الإخوان في أوائل الستينات، وصارت مؤسسة عملاقة تملك المستشفى الإسلامي وعشرات المدارس والمستوصفات والمؤسسات، وجمعية المحافظة على القرآن الكريم التي تدير عشرات المراكز وينتظم فيها عشرات الآلاف من الطلاب الطالبات، وجماعة فادية الطباع التي تعد أكبر وأقوى تجمع نسائي مدني، وجمعية الثقافة الإسلامية التي تملك الكلية العلمية الإسلامية أكبر وأهم المدارس في الأردن، وجمعية الثقافة العربية الإسلامية التي تغطي أعمال ونشاط جماعة الأحباش في الأردن أو أتباع الشيخ الهرري المقيم في لبنان، وجامعات ومدارس خاصة كثيرة تقدم نفسها للمجتمع على أنها إسلامية، ومؤسسات عديدة منتشرة وممتدة في المجتمع وتعمل في التعليم والإغاثة والصحة.

وفي مجال المعارضة السياسية كان الإسلام يمثل إطاراً ودافعاً لجماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير، وبعد خروج المنظمات الفلسطينية من الأردن، بدأت جماعة الإخوان المسلمين تستوعب في أطرها التنظيمية والسياسية الأردنيين الفلسطينيين، حتى أصبحت التجمع الرئيس والأكبر لهم، وامتد تأثير الحركة الإسلامية إلى النقابات المهنية والعمالية والاتحادات والمجالس الطلابية، ليتحول الإسلام من أدوات الدولة في التأثير والسيطرة، إلى قوة شعبية تضع المجتمع الأهلي في حالات من التنافس/المشاركة/ التحدي مع الحكومة.

وهكذا فإن الدين تعددت مواقعه في النظام السياسي، فهو في مرحلة كان مرجعاً للحياة السياسية والعامة، وحليفاً للنظام السياسي في مواجهة المعارضة اليسارية والقومية، وفي مرحلة أخرى كان غطاء للمعارضة السياسية، في معارضة السلطة التنفيذية، ومن أدوات المجتمع الأهلي في تنظيم نفسه وتجميع النقابيين والمتطوعين، وبديلا ًللمؤسسات الرسمية.

يرى عبد الإله بلقزيز أن أحد أهم إنجازات الحركة الإسلامية، أنها «أضافت إلى العمل القومي والسياسي والإصلاحي بُعداً دينياً استنهض طاقات الأمة وعبأها، وكسرت احتكار الدين الذي كانت تمارسه السلطة السياسية لتجعله عملاً شعبياً واسع النطاق، واستعادت الأمة هذا الكنز الروحي المصادر، وأعيدت حيويته الوظيفية الاجتماعية والتحررية ليكون الإسلام سلاح المستضعفين في مواجهة الطغيان والاستضعاف».

لكن السجال الدائر بين علمنة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية كما يراه بلقزيز، هو في حقيقته سياسي وصراع على السلطة وليس خلافاً فكرياً وفلسفياً، والنظر إليه بغير ذلك يشبه دراسة وتحليل الخلاف بين الخوارج والمرجئة والشيعة، على أنه في أساسة وجوهره حول الإيمان والفكري.

لقد صدرت السياسة مشكلاتها إلى حقل الثقافة والفكر، بل هي استعارت هذا الحقل لتعبر عن نفسها، ومن المفيد لنا - نحن المعاصرين - أن نستفيد من درس الفرق والمذاهب فلا نكرر الخطأ عينه: استنزاف الوعي في مشاكل لا تحلها إلا السياسة، ونستفيد من درس «الفتنة الكبرى» حتى لا نعيد إنتاج فتنة فكرية وحرب أهلية جديدة.

فلم ترسم النصوص الدينية شكلاً للنظام السياسي وآليات عمل الاجتماع السياسي للمسلمين، والمرجع الوحيد في ذلك هو التجربة النبوية في دولة المدينة وتجربة الخلافة الراشدة في ما بعد، وهي دولة لم تقم على أسس دينية بأي من المعاني التي تفهم من عبارة الدولة الدينية، ولكن هذا الغياب للتشريع الديني في المجال السياسي فتح المجال للاجتهاد لاجتراح نظم وقواعد وقوانين ليس منصوصاً عليها بدليل أن غياب التشريع، لم يمنع المسلمين من إقامة دولة ومن توسع جغرافيتها ولا من تأسيس فقه للسياسة واكب الدولة.

لقد طرأت تحولات كبيرة بعد الخلفاء الراشدين في أنماط الحكم واختيار الحكام، ولكن لم تتعرض ثوابت النسق الإسلامي السياسي لتغيير جوهري بل حوفظ عليها، وجرت إعادة إنتاجها.(عبد الإله بلقزيز/ الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي).
واليوم فإن الدولة الأردنية وربما جميع الدول العربية والإسلامية، بحاجة إلى أن تعيد صياغة موقع الدين في الحياة السياسية والعامة، فهو من وجهة نظر المتنافسين مورد تتنازعه الحكومة والمعارضة، وكانت الدول والسلطات قد أحسنت توظيفه لصالحها قروناً طويلة، حتى بدا الأمر وكأن المؤسسات والفكر الديني حليفٌ استراتيجي للسلطة. والطبقة التي تحكم لها علاقات وثيقة بكل المؤسسات القوية في المجتمع، مثل القوات المسلحة ووسائل الإعلام والأحزاب والجامعات والتي هي بمثابة مراكز التحكم العصبي في المجتمع المعاصر، والدين أيضاً من وجهة نظر السلطة هو أحد المؤسسات القوية في السيطرة والتأثير، وإذا خسرته فلن تسمح لمنافسيها باستثماره.

و كما يرى ميلباند (قوة الطبقة وقوة الدولة/Class Power & State Power) قد يكون من مصلحة الطبقة المهيمنة أن تقف على مسافة معينة من أجهزة السلطة المباشرة، وأن تحترم القواعد الإجرائية المنظمة لعمل هذه الأجهزة، وقد تقبل هذه الطبقة التضحية أو الإذعان لإجراءات توجه ضد بعض مصالحها في الأجل القصير أو في ظروف استثنائية مثل وقت الحرب والأزمات، وقد يعطي هذا انطباعاً سطحياً بأن أجهزة الدولة مستقلة عن الطبقة المهيمنة، ولكن هذه الطبقة في النهاية هي التي تحكم من قرب أو من بُعد في المسيرة العامة للدولة، وفي القرارات الكبرى للسلطة السياسية.

إن العلاقة التنافسية والعدائية بين السلطة والحركات الإسلامية، يجب النظر إليها في ضوء قواعد تفسير سلوك الدول حتى يمكن فهمها وتقديم حل مناسب لإشكاليتها، وبغير ذلك فإن الدول والحركات الإسلامية ستكرر السجال التاريخي العقيم بين الفئات المتسلحة زوراً أو جهلاً بالدين والتراث والفكر، دون ملاحظة طبيعة التنافس وحقيقته.

لقد أخذ موضوع دور الدين في الحكم والسياسة أبعادا جديدة ربما تكون غير مسبوقة، وظهر للمرة الأولى مصطلح الدولة الإسلامية، واتخذت حركات إسلامية شعار إقامة الدولة الإسلامية هدفاً أساسياً لعملها ونضالها، ويبدو أن الخطاب الإسلامي والسياسي شُغل كثيراً بجدوى هذا الشعار وأهميته وتقويم محاولات تطبيقه، من دون أن يشغل نفسه بما هو أكثر بداهة وأساسية في التفكير والسؤال، مثل: ما هي الدولة الإسلامية؟ هل هي قائمة بالفعل في العالم الإسلامي أم ليست موجودة؟ أم أنها قائمة على نحو متفاوت ومختلف بين دولة وأخرى، وباختلاف في مستويات تطبيقها ومفاهيمها ونسبيتها؟

ماذا نعني بالدولة الإسلامية؟ فمنظمة المؤتمر الإسلامي تضم في عضويتها ستاً وخمسين دولة «إسلامية» وهي دول قائمة بالفعل وتعتبر نفسها إسلامية، وتنص دساتيرها في الغالب على أن دين الدولة هو الإسلام، وأنه مصدر رئيس للتشريع. إن صفة الإسلام (أو عدمه) لا تطلق على هيئات أو مؤسسات أو دول أو حكومات أو جمعيات، فالإسلام أو الكفر يتعلقان بالأفراد فقط، ومن ثم فإن تسمية «الإسلامية» التي نشأت في العقود الأخيرة وصارت تطلق على الدول والجماعات... وحتى المستشفيات والشركات التجارية والاستثمارية لا تعني أبداً نقيض الكفر، أو أن ما سواها ليس مسلماً أو كافراً.

تصف مصادر الفقه في التراث الإسلامي الدول بدار الإسلام أو دار الكفر أو دار الحرب أو دار الذمة، أي دولة المسلمين أو دولة غير المسلمين، والفرق واضح وكبير بين المصطلحين، إذن فالدول الإسلامية قائمة بالفعل، والحديث عن العمل على إقامتها هو سعي إلى تحقيق ما هو محقق. لكن هذا لا يعني أبداً الحكم على جهود الحركات والدول والمجتمعات الإسلامية نحو إقامة الدولة الإسلامية، بأنه تكرار أو وهم وعبث.. فهو في معظمه محاولة لتطبيق الشريعة الإسلامية وزيادة الاقتراب من الإسلام، فالحديث إذاً هو عن تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة والحكم.

والدول الإسلامية القائمة اليوم تطبق الشريعة الإسلامية، بمعنى اعتبارها مصدراً للتشريع وانسجام الأحكام معها، إلا في حالات تقل أو تزيد من بلد إلى آخر، ولا ينفي عن دولة أو حكومة صفة الإسلام إن لم يطبق القائمون عليها أو حكامها بعض أحكام الشريعة. ولم يحدث بالفعل (ولن يحدث) أن طبقت الشريعة الإسلامية على نحو تام وكامل في التاريخ والجغرافيا منذ وفاة الرسول، ذلك أن فهم أحكام الشريعة وتطبيقها يتضمنان قدراً كبيراً من الاجتهاد والتقدير، لا بد أن يحتملا الخطأ والتقصير يدل عليه الاختلاف بين الفقهاء والحكام والمذاهب الفقهية والفكرية..

وهكذا فإننا نجد في التاريخ والجغرافيا نماذج متعددة ومختلفة للدولة الإسلامية، ففي المشهد المعاصر نرى السعودية وإيران والسودان وتركيا (تجربة حزب الرفاه وحزب العدالة والتنمية) إضافة إلى النموذج التقليدي السائد للدولة الإسلامية المختلف عن النماذج السابقة، مثل الأردن والكويت وباكستان وأندونيسيا وسائر الدول الإسلامية.

وربما يكون لافتاً أن جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928 وصارت كبرى الحركات الإسلامية في الوطن العربي، وانبثقت منها حركات إسلامية أخرى، وتأثر بها العمل الإسلامي في العالم الإسلامي لم تنص في أهدافها الأساسية على إقامة الدولة الإسلامية، ولم يرد هذا المصطلح في قانونها الأساسي، وإنما الدولة الصالحة. ومن اللافت أيضاً أن تقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر للمرة الأولى عام 2002 استخدم المصطلح نفسه الذي استخدم في النظام الأساسي للإخوان «الدولة الصالحة» أو الحكم الصالح، الذي يراه تقرير التنمية الإنسانية أحد المداخل المهمة لتحقيق التنمية والإصلاح.

وتعبر سيرة مؤسس الإخوان المسلمين وكتاباته ومواقفه، عن إدراك أن الدولة الإسلامية قائمة ولكنها تحتاج إلى إصلاح.
والخلاصة أن المسلمين يجتهدون في إقامة دولتهم وأنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق ما يرون أنه عدل وصلاح وحرية، وينتقون من أنظمة الحكم والانتخاب والإدارة ما يقترب بهم من ذلك، فينجحون أو يفشلون، ويتفاوتون في النجاح والفشل، وهم في ذلك كله يقتربون من الدين أو يبتعدون عنه، فالنظام الإسلامي ليس أحكاماً جاهزة تطبق ولكنه قواعد عامة ومقاصد كلية وأهداف وغايات وفلسفة يسعى المسلمون إلى تطبيقها، ولهذا فقد اختلفت النماذج الإسلامية في الحكم اختلافاً كبيراً، كان بعضها متقدماً في تحقيق الحريات والحقوق العامة، وبعضها الآخر يبالغ في الظلم والتسلط، ولا أحد يستطيع أن ينفي صفة الإسلام عن أي من هذه الأنظمة... وما يمكن اعتباره هنا هو ما قاله ابن القيم في كتابه «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»: «السياسة الشرعية مدارها العدل، ولو لم ينص عليه وحي، ذلك أن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت إمارات الحق وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه» وعرف السياسة بأنها «ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي، فأي طريق استخرج بها العدل فهي من الدين».