2003-05-24
أصحاب الشرف الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،وبعد،
عندما تلقيت الدعوة من مركز القدس للدراسات السياسية، للمشاركة في أعمال هذه الندوة، ترددت مرتين، الأولى لان عامل الوقت بات غاية في الأهمية لمن عزموا على ترشيح أنفسهم لانتخابات النيابية الوشيكة، وأنا أحدهم، والثانية خشية من ان تكون الصراحة التي عنها لن أحيد سببا في أن يفسر بعض الأبرياء كلماتي وآرائي بغير ما هي عليه، وان يتعمد كيد الرجال تحميل عباراتي معاني أخرى، غير ما هي عليه، أيضا.
ولكن، ولأهمية الندوة، واحتراما لراعيها والمشاركين فيها، وللمركز الذي ينظمها، وعلى الرغم من قناعتي بأنها كان يمكن ان تعقد قبل هذا الوقت بكثير، باعتبارها طرحا ذكيا نحتاجه جميعا، فقد قررت المشاركة، بأمل ان استفيد وأتعلم، اكثر مما قد أفيد أو أضيف.
حضرات الأعزاء،،،
عندما دعوت في وقت مبكر لان تبادر الأحزاب الأردنية إلى حل نفسها والجلوس من جديد حكما وحكومة ومؤسسات وفعاليات، كان مسعاي يرمي بكل البراءة والوضوح، لان نجلس جميعا في ندوة أو مؤتمر أو ملتقى شبيه بهذا اللقاء الكريم، لنتبادل الآراء والأفكار بسمو فكري مجرد عن كل هؤلاء والأغراض والكمائن، ولنرسي الأسس الراسخة لمسيرة حزبية أردنية قوية، لا مكان فيها لتصارع الأشخاص، وانما لتنافس البرامج على استمالة العامة واستقطاب الجمهور، ضمن نسق شوري راق، نقدم من خلاله الأنموذج الأروع ليس للمنطقة وحسب، وانما لسائر دول العالم النامي.
لقد حُز في نفسي ما كنت أتوقعه حقا، فقد فسر الكلام بغير معانيه، وقبل أنني قد "فتحت النار" على تيار بعينه، وإنني ارمي إلى تقزيم تيارات أخرى، إلى غير ذلك الذي انفيه جملة وتفصيلا، فأنا لم أتحدث عن أشخاص قط، لسبب بديهي هو إيماني بان الأشخاص ذاهبون، أما الفكر النظيف المستند إلى المبدأ، فباق إلى يوم الدين.
هذا هو فهمي للأمور، فالذين أسسوا لفكر قبل عقود وقرون، هم أشخاص مثلنا، تفتقت عقولهم في حقب لها ظروفها ومواصفاتها وتحدياتها، عن أفكار جامعة صاغوا لها أدبيات وآمن بها الكثيرون من بعدهم، والى يومنا هذا، والحكم هو بالضرورة على المنتج والنتائج، فان كانت خيرا، فهو كذلك، وإلا فان العقل البشري لا يجب ان يتعطل عن الإبداع ويتسمر خلف قوالب جاهزة جامدة.
ولكي أكون اكثر وضوحا في إجابتي عن سؤالين هما موضوع مشاركتي في هذه الندوة الكريمة، حول ما إذا كنا بحاجة لمراجعة مفهوم الحزب السياسي أم لا، وحول الحاجة إلى دعوة الأحزاب الأيديولوجية لمراجعة منظوماتها الفكرية، فأنا أرى وقد أسست لقناعتي على أساس هذه الرؤية، ان الزمن الراهن مختلف جذريا عن زمن مضى، وان أنماط التفكير في عالم اليوم، هي على شاكلة مختلفة تماما عما كان، وان اهتمامات إنسان اليوم، تطورت بتسارع نفى عنها جملة وتفصيلا سمات اهتمام إنسان الأمس، وإذا ما كان الله سبحانه وتعالى خالق الحي والجماد، قد جعل "الحركة" بمعناها المجرد، دليلا على أن هناك حياة، فان الجمود إنما هو دليل التخلف أو اللاحياة، فالحي على سطح هذا الكوكب، هو كل ما يتحرك ذاتيا وليس بفعل فاعل، والجامد على سطح هذا الكوكب، هو كل ما افتقد خاصية الحركة إلا بفعل فاعل، ولنا أن نتصور مثلا لو أن ماء البحر ظل راكدا دونما حراك ولو لساعات، إذن لتحول إلى سطح هائل من مياه آسنة تدمر الحياة!
هي إرادة خالق الكون إذن، لان نتحرك ونفكر ونبدع وإلا فاتنا كل شيء، وليس سرا ان مكمن التخلف في حياة الشعوب النامية أو ما يسمى العالم الثالث، هو عجزنا عن الحركة، والإنجاز والإبداع، فنحن متلقون لا مرسلون، ومستهلكون لخيرات بلادنا التي تردنا ثانية بعد ان يصنعها غيرنا، ونحن راضون تماما بالعجز والكسل والجمود في فكرنا وعملنا، ولا نتردد عن شتم أولئك الذين نمد أيدينا لتلقي بركات ما ينجزون، والتمتع بخيرات ما يقدمون من منجزات.
حضرات الأعزاء،،
بصراحة، أؤمن تماماً بان الفكر الأيديولوجي القائم على الشعارات السياسية وحسب، قد انتهى زمانه تماما، فالشعوب المستعمرة بقوة العسكرة وسطوة القوة المسلحة في أزمان غابرة، لم بعد يستهويها أو حتى يقنعها الحديث عن أمة واحدة، أو شعارات تتحدث حديثا وحسب، عن الوحدة والحرية والاشتراكية، وعبيد قوت يومهم، لا تحرك المؤثرات والشعارات فيهم شيئا من مشاعر، وشهود هزائم الأمة وقارئو تاريخها المعاصر، باتوا على قناعة بان كل الشعارات قد سقطت، أو هي أخفقت، أو لربما كانت السبب المباشر في كل الهزائم والنكسات.
نعم.... نحن بأمس الحاجة إلى مراجعة مفهوم الحزب السياسي، ولن ندفن رؤوسنا في الرمال أو نتعامى عن حقيقة ماثلة بين ظهرانينا نحن الأردنيين، فمن بين خمسة ملايين أردني هم مجموع السكان تقريبا، لا تملك كل أحزابنا الثلاثين أو اكثر، أن تتحدث إلا عن بضعة آلاف انضموا إلى صفوفها، واكاد اجزم أن قلة منهم، انتظمت في العمل الحزبي عن قناعة حزبية مبدئية حقيقية تؤمن بان الحزبية عمل تطوعي وسبيل ديمقراطي سلمي لتداول السلطة، عبر التنافس بين البرامج لا الصراع الظاهر والخفي بين الأشخاص.
أيها الاخوة والأخوات،،،
لا بد لنا من اليقين بان الثورة لم تعد سلعة قابلة للتصدير بإرادة القوة والإصرار، وبان المذهب السياسي الذي اعتنق، ليس بالضرورة هو المذهب الذي يجب أن يلتف حوله الآخرون ولو بالقوة أيضا، وبأن خطاب العقول هو سيد الموقف في الزمن السياسي الراهن لأمم غيرنا، وبأن خطاب العواطف هو الذي أدى بالأمة إلى ما هي عليه من هوان وتخلف وشرذمة.
لقد تآكلت الأيديولوجيات في مهدها، وشرعت شعوب اقتنعت بلا جدواها، في البحث عن وسائل أخرى لحياة حرة كريمة ذات شأن، واستفادت من تجارب النابهين في هذا العالم، ممن تعلموا مبكرا أن اجعل مع دعائك "شيئا من القطران"، والدعاء لا يستجاب طبعا إلا إذا كان صاحبه صالحا، فالصلاح شرط للاستجابة، ومع ذلك، فلا بد كذلك من الحركة والعمل معا، كي يتحقق المراد.
أتساءل معكم حضرات الأعزاء،،،
ما الذي يختصر المسافات في المشاعر بين عربي في موريتانيا، وعربي آخر في الأردن مثلا، هل هو اللغة مثلا، أم هو التاريخ الجامع، هل هو العقيدة الدينية مثلا، أم هو الشعور الواحد بأننا قوم موحدون.
ما يختصر كل المسافات، ما يقرب العقول من العقول، ما يقرب الأجساد من الأجساد، ما يفعل كل هذا، هو المصالح المادية المجردة بداية، وأين هي تلك المصالح، في زمن نستحي فيه أن نقارن بين حجم التجارة العربية مع الغرب، مقارنة بحجم التجارة البينية العربية...! ومع ذلك، وما زال بين ظهرانينا من يردد نشيد... بلاد العرب أوطاني... وفلسطين ما زالت مستعمرة بعد هزائم متلاحقة قادها بجدارة رافعوا الشعارات وتجارها.
حضرات الأعزاء،،،
تجربتنا الحزبية الأردنية بحاجة ملحة للمراجعة والتقييم، وهي تجربة لا بد لها أن تستفيد من تجارب غيرنا، خاصة أولئك الذين بنوا مجداً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً قائماً على تبادل المصالح وتكامل السياسات في سائر مناحيها، فأوروبا الموحدة ذات العملة الواحدة والبرلمان الواحد والاقتصاد المشترك، لا تملك من مقومات التوحد افضل مما تملك امتنا، إحراز حياة افضل وكرامة افضل لشعوبها، ولست شخصيا أرى هدفا آخر غير هذا الهدف، لأي نشاط سياسي حزبي في أي مكان على هذا الكوكب، إلا إذا بقينا متمترسين خلف الاعتقاد الخاطئ بان الحزبية وسيلة لنجومية ووصول ومكاسب القائمين عليها وحدهم دون سواهم.
لن أتراجع عن دعوتي وقناعتي بحتمية أن نجلس معا في سائر التيارات الحزبية على الأرض الأردنية ودافعي في هذا، أن المملكة الأردنية الهاشمية، تملك كل المقومات وبجدارة وتميز، لبناء أنموذج تعددي سياسي يصلح لان يعمم لكل من يرغب وعن قناعة في عالمنا العربي كله، أنموذج يزاوج بين العقائدي الإسلامي المتطور الذي بمقدوره الاتكاء على جدار صلب من المرجعية السياسية الهاشمية، والعروبي القومي الذي بمقدوره الاتكاء على جدار صلب من المرجعية السياسية الهاشمية التي لم يجد أحرار الأمة افضل منها عندما تنادوا قبل قرابة قرن للثورة ضد التسلط والاستعمار، والوسطي الوطني الذي بمقدوره الاتكاء كذلك على الجدار ذاته، واليساري الذي بمقدوره مواصلة ممارسة فكرة محتمياً بالتسامح الهاشمي الذي يستوعب كل المبادرات وحقها في أن نعمل وفقا لرؤاها بأساليب ديمقراطية سلمية.
عندها لا بد للأردنيين والأردنيات أن يقضوا أمام برامح واضحة، وليس أمام أشخاص وحسب، ليقرروا بإرادتهم الحرة أي مذهب يذهبون في اختيار البرنامج الذي يريدون له أن يحكم لاربع سنوات، أو اكثر أو اقل، إذ لا تناقض بين البرامج من حيث العقيدة الدينية المجردة، ولا تنازع بينها في الانتماء للعروبة أبدا، وبالضرورة، فان البرنامج الذي يحقق للأردنيين والأردنيات مصالحهم الوطنية والقومية والعقائدية وبتدرج كامل، قد يكون هو القاسم المشترك للحالة السياسية الأردنية بكل تفاصيلها.
عندها، اعتقد أننا نؤسس للأنموذج الرائع الذي يحترم إرادة الجمهور ذي الاختيار الحر، دونما تطرف أو تمترس أو انشقاق أو عدمية أو اتهام.
أشكركم، واستأذنكم في توجيه الشكر لمركز القدس للدراسات السياسية رئاسة وعاملين.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة