A+ A-
مطلوب لجنة تحقيق دولية لتقصي الحقائق في صعده.... حل الأزمة لن يكون  بغير تدخل عربي على غرار اتفاق الدوحة
2009-08-26
يبدو أنه لامناص من الاستعانة بلجنة تحقيق دولية لتقصي الحقائق وكشف الغموض الذي اكتنف حروب صعده منذ العام 2004م وحتى اليوم، فخلال خمس سنوات فقط تنشب ستة حروب في هذه المحافظة المنكوبة دون أن يدري احد ما السبب الحقيقي وراء اندلاعها؟ وما المصلحة المتحققة من وراء كل هذا الدمار والخراب وهذا الاستنزاف المهول لموارد البلد؟ المثير للدهشة أنه في ظل أوضاع اقتصادية غاية في السوء تنذر بكارثة محققة على المدى القصير ليس أقلها مجاعة قد تضرب البلد في غضون عام كما تنبئ الإرياني، أو تَحَول اليمن إلى صومال أخرى كما حذر الأرحبي، أو خروج الأوضاع عن السيطرة نتيجة تزايد مخاطر التوجهات الانفصالية في الجنوب وتهديدات القاعدة كما حذرت التقارير الدولية، في مثل هكذا ظروف استثنائية ومخاطر كارثية تحيط بالبلد تذهب السلطة ومن ورائها الحوثيين إلى ساحة حرب جديدة تستنزف وتبدد موارد بلد أعلن تخفيض 50% من موازنته العامة بسبب شحة تلك الموارد، وهو مازال يقتات على فتات المانحين! ما يؤسف له أن الحرب صارت خيار السلطة في المرحلة الراهنة عوضاً عن توجهها صوب العمل على تهيئة الأوضاع وتنقية الأجواء السياسية، وفتح قنوات الحوار مع المعارضة، وإزالة كل المعوقات التي تقف في طريق الانتخابات البرلمانية القادمة!!

قوة الأمر الواقع
ما الذي يغري السلطة أو الحوثيين لخوض معترك ستة حروب عبثية مُكلفة في زمن قياسي؟ هل يمكن القول بأن ثمة تواطؤ على إبقاء ملف الحرب مفتوحاً لاستثماره في تصفية حسابات خاصة، وإحراز مكاسب سياسية، وترجيح ميزان القوى لصالح بعض مراكز السلطة على حساب البعض الآخر؟ على كلٍ، مهما تكن الإجابة فقد أفرزت حروب صعده المتلاحقة جملة حقائق على الأرض لا يمكن التغاضي عنها أو القفز عليها بأي حال، من ضمنها: أن الصراع الدائر اليوم في صعده هو صراع سياسي محض، لا شأن له بالخلافات المذهبية أو الطائفية أو القبلية، أو بما يقال عن الفروق الاجتماعية والصراع الطبقي، هذا الصراع السياسي (العسكري) يتمحور الآن حول التنافس على كعكة السلطة ومحاولة تقاسمها مع الأطراف المعنية في اتجاه استعادة الحقوق المسلوبة وفقاً لنظرية الإمامة (الحق الإلهي) لدى الجماعة، هذا الحق شكل هويته بُعد تاريخي يضرب جذوره في مئات السنين عبر التاريخ، وصاغته تعاليم المؤسس الأول للجماعة، والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، كما جذرته خمسة حروب ضارية مع السلطة، عمدته الجماعة بالدم، وعمقته في نفوس الأتباع.

الشيء الآخر، أن الحوثيين صاروا رقماً صعباً، وأمراً واقعاً لم يعد بالإمكان تجاوزه، وهذا الواقع يتطلب التعاطي معه بعقلانية وبروح المسئولية مهما كان حجم خلافنا معه، فالسلطة فوتت في وقت سابق وفي ظروف أفضل مما هي عليه الآن فرص الحسم أكثر من مرة لإنهاء هذا الملف وإغلاقه بشكل نهائي، ووفقاً لحسابات خاصة بها عمدت إلى الإبقاء على هذا الملف مفتوحاً كيما تظل تستخدمه في مناوراتها السياسية مع خصومها في الداخل وشركائها في الخارج، وحين لاحت فرصة جديدة للوصول إلى تسوية مقبولة للأزمة عبر الوساطة القطرية التي حظيت بتأييد مختلف القوى السياسية والشعبية في الداخل، عمدت السلطة تالياً إلى تشويه حقيقة تلك الوساطة واتهامها بالاصطفاف إلى جانب الحوثيين! وبصرف النظر عما إذا كانت الأموال القطرية التي لم تصل خزانة الحكومة هي السبب في تغير الموقف الرسمي أو لا فقد مثل ذلك الموقف إذاناً بتهيئة الأجواء وانطلاق العد التنازلي لبدء دورة جديدة من العنف وظفت أخطاء الطرف الآخر المتكررة وعدم ضبط سلوكياته في اتجاه صناعة أزمة جديدة معه.

الأمر الآخر المهم هو أن كل الشواهد والمؤشرات تضافرت لتؤكد على حقيقة ناصعة لا مفر من الاعتراف بها وهي أن صعده أوشكت على الخروج وبشكل نهائي من يد السلطة، وما يعزز هذا الرأي هو ذلك الانهيار المخيف والمريب الذي حدث في أوساط الجيش في الأيام الأولى لاندلاع المواجهات، ففي غضون أيام قلائل سقطت أكثر من ثمانية مواقع، حتى أن معسكرات وألوية سلمت سلاحها وعتادها بالكامل لمقاتلي الحوثي في مقابل الخروج بسلام من تلك المواقع، وقيل بأن واحد من تلك المعسكرات التي سقطت وجد فيه اثنين مليون طلقة ذخيرة غنمها الحوثيون!! فهل ذهب هؤلاء للقتال بتلك الأسلحة أم ذهبوا لتسليمها؟! أضف إلى ذلك المناورة العسكرية التي أجراها الحوثيون لأول مرة قبيل المواجهات بمختلف أنواع الأسلحة والتي مثلت تحدياً سافراً لهيبة السلطة وجاهزية مستفزة لمواجهتها، وقيل بأن الحوثيين استخدموا فيها أسلحة ذاتية الصنع شديدة الفتك، زد على ذلك التهديدات التي أطلقها عبدالملك الحوثي مؤخراً بالاستيلاء على كل محافظة صعده ما لم تتوقف السلطة عن شن غاراتها العسكرية على مواقع جماعته، وهو تهديد يشي بقدرات عسكرية هائلة تمتلكها الجماعة، ويوحي التهديد من ناحية ثانية بأن لدى زعيم الجماعة تقدير استراتيجي لحجم وقوة السلطة في المحافظة.

وإذا أخذنا في الاعتبار تجربة خمسة حروب سابقة أخفقت فيها السلطة في تحقيق أي تقدم ملموس على مليشيات الحوثي الذين حمتهم الجغرافية الوعرة وتمرسهم عليها، بالإضافة إلى تفاقم السخط الشعبي ضد السلطات نتيجة إهمال المحافظة طيلة سنوات مضت وتردي الخدمات فيها، فإن الحسم يبدو بعيد المنال، وإن كانت حماسة القتال تبدو في البداية في أعلى مستوياتها.

مشكلة إقليمية
المؤكد أن مشكلة صعده خرجت عن نطاقها المحلي لتغدوا مشكلة إقليمية بامتياز، إذ وجدت الأزمة طريقها للخارج منذ اتفاق الدوحة في عام 2007م، وعليه فمن غير المستبعد دخول أطراف خارجية أخرى على خط الأزمة(عربية وأجنبية)، فمن جهة لا تحظ الحرب بتأييد كل القوى الفاعلة في الداخل، وثمة شكوك قوية بمدى قدرة النظام على حسم الحرب لصالحه، والشكوك ذاتها تثار حول جديته تجاه مسألة كهذه، ومن جهة أخرى فإن أطرافاً خارجية أخرى باتت شريكة- بصورة غير مباشرة- في تقرير مصير الصراع الدائر في صعده في حدود مصالحها القريبة أو البعيدة من القضية برمتها، وبالتالي فالمرجح أن يأخذ الحل القادم شكل الحل الذي جاء عبر اتفاق الدوحة، وسيمثل حل كهذا أفضل المخارج المتاحة لكلا الطرفين المتصارعين، لا سيما وأن الجانب الأمريكي والغربي عموماً لا يبدو متحمساً لصراع جديد تخوضه السلطة يشغلها عن صراعها الأكثر أهمية من وجهة نظرهم وهو التصدي لتهديدات القاعدة والبحث عن حلول عاجلة لمخاطر الانهيار الاقتصادي الماثلة مشاكله اليوم بتراجع العائدات النفطية إلى معدلات قياسية، وهروب الاستثمارات، وتراجع ثقة المانحين بقدرة الحكومة وصدقيتها في محاربة الفساد ووقف نزيف موارد البلاد التي يأتي معظمها كمساعدات وقروض، ثمة مخاوف غربية حقيقية من انهيار وشيك للدولة اليمنية نتيجة مخاطر كثيرة تحيط بها، وهو ما سيقود بالنتيجة إلى فوضى عارمة في كل المحيط الإقليمي لليمن وفقاً للتكهنات الغربية، وقد حاولت السلطة عبر شروطها الستة التي عرضتها على الحوثي ومن ضمنها مطالبتهم الكشف عن مصير المختطفين الألمان في صعده الإيحاء لأصدقائها المانحين- الألمان على وجه الخصوص وأيضاً الأمريكيين- بأنها تقاتل في صعده في سياق الحرب على الإرهاب المتحالف مع الحوثيين!! وانتظرت مقابل ذلك دعم حلفائها السياسي والمادي أو على الأقل إشارات مشجعة ومطمئنة بأنهم سيغضون الطرف عن خطوتها تلك، لكنهم أظهروا عدم حماستهم للحرب، بل وطالبها بعضهم بالعودة إلى اتفاق الدوحة كحل وحيد للأزمة.

على أن قضية أخرى مهمة تفرض نفسها بقوة على مساقات الحرب في صعده، وهي القضية الجنوبية التي من الواضح أنها تحولت مع الوقت إلى ملف يتجاذبه عدة شركاء، ويتحكمون بمساره بطريقة تسبب الكثير من القلق والإزعاج للسلطة، وهذه الأخيرة تجد نفسها مضطرة لدفع فاتورة القضية الجنوبية على جبهة صعده.

وأخيراً فإن الحسابات الانتخابية تلعب دوراً مهماً على صعيد تأزيم الأوضاع الداخلية بأكثر مما تحتمل لتقليل الفرص والخيارات أمام شركاء التجربة الديمقراطية الذين عادة ما يطالبون بأجواء سياسية ملائمة للمضي في العملية الانتخابية، لكن الأزمات المحلية المتصاعدة على هذا النحو ستدفع بهم صوب القبول بالحد الأدنى من شروط نجاح العملية الديمقراطية- طبقاُ لتوقعات السلطة- لاسيما وأن الاهتمام الغربي باليمن- في أوضاع كهذه- سينصرف نحو المسائل المتعلقة بالأمن والاستقرار كخيار مهم ربما يأخذ الأولوية على ما عداه وإن كانت العملية الديمقراطية نفسها.