2007-02-28
حيث أن موضوع هذه الجلسة قد أشبع نقاشا خلال السنوات الماضية، فإنني سأحاول خلال الدقائق العشرين القادمة أن أتوقف عند بعض أبرز الإشكاليات والمحددات التي أعتقد شخصيا أنها تساهم بقدر رئيس في تشكيل صورة الغرب ورسم ملامح "النموذج الغربي" في الوعي الجمعي لأبناء هذه المنطقة وبناتها، آملا أن أتمكن من رصد التحولات التي طرأت على صورة الغرب ونموذجه في أوساط الرأي العام العربي تحديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبالأخص بعد الحرب الأمريكية على العراق.
واسمحوا لي بداية، أن أبدأ بتشخيص ملامح الصورة والنموذج الغربيين كما تشكلا في العصر الحديث، والذي بدأ مع تفسخ الإمبراطورية العثمانية ودخول المنطقة العصر الكولونيالي والاحتلالات المباشرة وأنظمة الانتداب، استعمارية الطابع، مرورا باندلاع حركات التحرر الوطني والاستقلالات الوطنية، ونشؤ ظاهرة الاستعمار الجديد بل وعودة المنطقة مجددا لعصر الاحتلالات العسكرية المباشرة، خلال هذا الحقبة وكنتيجة لها، استقرت صورة الغرب في الوعي الجمعي العربي كمزيج من مكونات عدة: بعضها سلبي وبعضها جاذب، وهنا تمكن الإشارة إلى عناصر عدة من بينها: التقدم العلمي والتكنولوجي في الغرب، أنماط الحكم وأنظمته القائمة على الحرية والتعددية والديمقراطية، مستويات المعيشة المتقدمة في مجتمعات الرفاه والضمان الاجتماعي والصحي، وإلى حد كبير المنظومة القيمية والأخلاقية الغربية التي بدأت مفرداتها بالتسلل إلى الخطاب السياسي والفكري والثقافي لمبدعي هذه المنطقة ومثقفيها ونخبها الحديثة.
لكن هذه الصورة كانت تختلط أيضا بالكثير من المكونات الإيجابية / الطاردة، بعضها ماضوي، يضرب عميقا في الذاكرة ويعود إلى عهود الفتح الإسلامي والتجربة الأندلسية والمرحلة الصليبية، وبعضها حديث مرتبط بإشكاليات مرحلة تصفية الاستعمار الكولونيالي وما رافقها من آلام وتضحيات، وما نجم عنها من تقسيم هذه المنطقة إلى دويلات وممالك، والأهم من كل هذا وذاك، الدور الغربي، الفرنسي – البريطاني ابتداءً ولاحقا الدور الأمريكي، في قيام إسرائيل وضمان تفوقها النوعي اقتصاديا وعسكريا، وتشريد الشعب الفلسطيني وتبديد هويته الوطنية ومصادرة حقوقه الوطنية المشروعة.
إن العودة المتفحصة للخطاب الثقافي والفكري والسياسي العربي منذ عصر النهضة والتنوير وحتى يومنا هذا، تشير بما لا يدع مجالا للشك، إلى أن هذه الصورة المركبة للنموذج الغربي، كانت مبثوثة في ثنايا هذا الخطاب على اختلاف مرجعياته الدينية والقومية والإسلامية والليبرالية.
فحركة التنوير الإسلامي التي انتعشت بقوة في الحواضر العربية، اقتبست بعضا من أنوارها من منجزات الغرب المادية والتكنولوجية وحركة الإصلاح الديني هناك، والفكر القومي العربي المؤسس للعديد من الحركات الجماهيرية والأحزاب السياسية التي ملأت ساحات المنطقة وأفقها، استلهم في الكثير من جوانبه، تجارب الحركات القومية الأوروبية، واليسار العربي بمدارسه وتلاوينه المتعددة لم يكن في حقيقة الأمر سوى محاولة للدخول إلى "عصر الحداثة الغربية" من بوابة الماركسية والفكر الاشتراكي، ناهيك بالطبع عن إرهاصات التحول الليبرالي والديمقراطي في الفكر والممارسة والعمل السياسي والثقافي التي أطلت برأسها في مفتتح القرن الفائت، قبل أن تجهز على مكتسباتها الجنينية، الانقلابات العسكرية وأنظمة الحكم الفردية التي أخذت تتفشى في دولنا ومجتمعاتها في المنقلب الثاني من القرن المنصرم.
لقد تأثرت سيرورة التفاعل العربي مع النموذج الغربي بجملة عوامل، جاذبة وطاردة في العقود الستة الماضية، لعل أهمها على الإطلاق الصراع العربي الإسرائيلي، وموقف الغرب المنحاز عموما وإن بدرجات متفاوتة إلى جانب إسرائيل، وفشله استتباعا في توفير فرص حل عادل ودائم لقضية الشعب الفلسطيني، حيث تحوّل هذا الصراع على مدى هذه العقود، إلى "خط تماس أول" بين الثقافتين والحضارتين، يطل برأسه في كل ندوة أو اجتماع أو ملتقى.
وجاءت الحرب الباردة لترسم خطوط تماس جديدة بين العرب والغرب، فالحكومات الغربية عموما، اصطفت في خندق واحد مع حكومات وأنظمة عربية شمولية وديكتاتورية وفاسدة، تفتقر للشرعية ولا تعبر عن تطلعات شعوبها ومصالحها في التحرر والاستقلال وفي التنمية والحرية والديمقراطية، بل أن هذا الحلف لم يتوان عن إخراج "مارد الحركات الإسلامية" من قمقمه لمواجهة ما يسمى بالخطر الشيوعي وتصفية نفوذ الحركات القومية واليسارية والديمقراطية العلمانية في المجتمعات العربية، ولعب هذا الحلف غير المقدس، دورا لا أخلاقيا في مطاردة وإضعاف المعارضات العربية وتصفية الحركات السياسية والحزبية، وقطع الطريق على قيام مجتمع مدني فاعل، وخضعت المنطقة عموما، إلى قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وأفسح في المجال أمام الحركات الإسلامية من إخوانية وسلفية وغيرها، لتكون صاحبة اليد العليا في قيادة الحراك الاجتماعي والسياسي الداخلي، خصوصا بعد ثورة أسعار النفط في أواسط الثمانينات، وتوفر المؤسسة الدينية السلفية على أذرع مالية واقتصادية عملاقة، مكنتها من التمدد والانتشار، حتى في مجتمعات لم تعرف نفوذا للسلفية من قبل.
خلال هذه الحقبة، طغت عوامل الطرد على عوامل الجذب في تكوين صورة النموذج الغربي في الوعي الجمعي العربي، فالغرب الذي اكتسب صورة "العدو" للقومية/ القوميات العربية مع بداية العصر الكولونيالي مرورا بدعم إسرائيل والانحياز لها البالغ حد القتال إلى جانبها (تجربة العدوان الثلاثي والجسور الجوية في حربي 67 و 73)، انتهى في خواتيم الحرب الباردة إلى "عدو" للديمقراطية العربية بعد أن أظهر من الدعم والإسناد للنظم والحكومات المناهضة للديمقراطية ما يكفي لوضعه في مكانتها وتصنيفه إلى جانب حلفائها من قبل العديد من المثقفين والمفكرين والحركات والنشطاء العرب.
وشهدنا مع نهاية الحرب الباردة، ولوج العلاقة بين العرب والغرب أعتاب مرحلة جديدة، تميزت بتبدل الأولويات والتحالفات، وإعادة تعريف "العدو" من قبل لاعبين فاعلين على ضفتي المعادلة، فالحليف الإسلامي في الحرب الباردة، بدأ يأخذ صورة "العدو" للغرب والحكومات العربية الحاضنة له والراعية لنفوذه، فيما القوى الديمقراطية والليبرالية واليسارية العلمانية التي أنهكتها سنوات المطاردة والتحجيم والاستهداف، لم تعد تحتل سوى مكانة هامشية في مجتمعاتنا، وأخذت العلاقة بين الغرب والحكومات والأنظمة العربية تهتز على وقع إخفاق الأخيرة في اجتياز استحقاقات التنمية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، تلك الاستحقاقات التي أخذت تأخذ حيزا أوسع، في الحوارات العربية الأوروبية وصولا إلى عملية برشلونة، مثلما بدأت تثير اهتمام أوساط أمريكية واسعة.
وكان للانطلاقة الواعدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، منذ مدريد وبالأخص بعد أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، أثرا هاما إضافيا في تعميق الحراك الداخلي في الدول والمجتمعات العربية من جهة، وفي تشكيل أنماط جديدة من العلاقات العربية الغربية اكتسبت معها مفاهيم من نوع: السلام، حقوق الإنسان، الحرية والديمقراطية، قيما معيارية مؤثرة إلى حد ما، في بناء الصورة وتكوين النموذج، وتؤخذ بنظر الاعتبار كذلك في بناء التحالفات والعلاقات بين العرب والغرب، خصوصا بعد أن دخل إلى مسرح العلاقات العربية الغربية لاعبون جدد من خارج "نادي الحكومات والأنظمة"، وأعني به المجتمع المدني العربي.
لقد بدا لبعض الوقت، أن قطار الشرق الأوسط، قد انطلق على سكتين متوازيتين:
سكة السلام المفضي إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وسكة التحولات الديمقراطية المفضية إلى وضع نهاية لحقبة طويلة من الركود والتخلف، لكن السير على أي من هاتين السكتين، كان يفضي حتما إلى زيادة مقاومة القوى الرافضة لهذا الحراك والمتضررة من نتائجه وعواقبه، فالأنظمة والحكومات التي ضاقت ذرعا بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، أبدت ارتياحا لتقدم مسار السلام، لكنها في المقابل أبدت ضيقا من "الإشارات والضغوط" التي تمارس عليها داخليا وخارجيا من أجل التقدم على دروب الإصلاح السياسي والاقتصادي والتحول الديمقراطي.
فيما القوى الإسلامية والمعارضات العربية المتشككة بعملية السلام والمناهضة لها، أبدت ترحيبا باتساع هوامش الحرية والتعددية والديمقراطية في العالم العربي، وأخذت ترفع من منسوب اهتمامها بقضايا المشاركة السياسية والانتخابات والحريات العامة. ومرة أخرى وجد "النموذج الغربي" نفسه على محك جديد: فأسئلة السلام تستتبع حكما أسئلة الديمقراطية وفقا لفرضية "الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضا"، وأسئلة الديمقراطية تستثير حكما أسئلة الإسلام السياسي على تنوعه.
مرة أخرى وجد "النموذج الغربي" نفسه أمام مرحلة إعادة تقييم: فالحركات الإسلامية التي ملأت فراغ جميع الحركات والتيارات الشعبية الأخرى، ووفرت بديلا – وهميا كان أم حقيقيا – لفشل الأنظمة والحكومات وعزلتها، أخذت تنظر لهذا النموذج بمنظار الشك والريبة من نواياه الخبيثة وأجنداته الخبيئة التي يراد تعميمها على المجتمعات العربية بغرض تحقيق هدفين: تحجيم الحركات الإسلامية وتعويم إسرائيل كقوة إقليمية متفوقة ومهيمنة على الإقليم من بوابة السلام و"الشرق الأوسط الجديد"، أما الحكومات والأنظمة التي طالما استمرأت تحالفها مع الغرب، وارتقت به وعززت أواصره ليصبح شرطا وجوديا لبقائها واستمرارها، فقد أخذت تتوجس خيفة من نوايا تعميم هذه النموذج على دولها ومجتمعاتها، الأمر الذي لا يعني – إن حصل – سوى مواجهة واحد من خيارين: إما المقامرة برحيل هذه الأنظمة والحكومات، وإما قبولها بفتح نوافذ نظمها السياسية لرياح المشاركة والتكيف مع وجود لاعبين منافسين بقوة لها في عقر بيتها بالذات.
لكن في المقابل، رأى الإسلاميون، وقد أكسبهم نفوذهم بقواعده الشعبية المتسعة ثقة عالية بالمستقبل، أن فرص توظيف هذا "النموذج" محليا، ستمكنهم من "شرعنة" وجودهم واحتلال مواقع متقدمة في النظام السياسي العربي، فأخذوا يعدون البرامج والخطط الإصلاحية التي تستلهم الكثير من جوانب "النموذج الغربي"، ويظهرون ميلا متعاظما للمشاركة في الحياة السياسية والعملية الانتخابية، في حين ظلت الحكومات والأنظمة العربية المتحسبة من مشاريع الإصلاح والمتخوفة من رياح الديمقراطية، تراهن على "العلاقة الزبائنية" التي أنشأتها مع الغرب، تارة بحجة وقف الزحف الشيوعي، وأخرى لضمان الأمن والاستقرار، وثالثة بدعوى الحفاظ على منجزات عملية السلام وضمان تقدمها للأمام، فكانت النتيجة أن نافذة الأمل والفرص التي فتحت بحذر أمام هبوب رياح السلام والديمقراطية، ظلت على حذرها وترددها، إلى أن وقع الزلزال الكبير في واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر الماضي وما أعقبه من حروب وتداعيات.
نقطة تحول
إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما أعقبها من حرب كونية على "الإرهاب" واجتياح واحتلال أفغانستان والعراق، وما رافق ذلك كله من سياسات وممارسات، أفضت من ضمن ما أفضت إليه إلى حدوث اختلال عميق في صورة "النموذج الغربي" في الوعي الجمعي العربي. في البدء، وفي البدء فقط، بدا أن الولايات المتحدة بصدد اعتماد مقاربة مختلفة في علاقتها مع الأنظمة والحكومات العربية، خصوصا الاستبدادية والشمولية منها، تقوم على نظرية "بوجود مثل هؤلاء الأصدقاء، ما حاجة الولايات المتحدة للأعداء"، فالتطرف الأصولي والحركات الإرهابية تولّد في أحضان النظم الصديقة للولايات المتحدة، وهي النظم التي تحولت بدورها، إلى هدف مقدم لهذا التطرف وتلك الحركات.
وفرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر للولايات المتحدة فرصة قيادة ائتلاف دولي عريض، وبإجماع دولي نادر، لإلحاق منطقة الشرق الأوسط برمتها، بركب السلام والاستقرار والتنمية والديمقراطية، بيد أن محافظي هذه الإدارة ويمينييها، آثروا السير على طريق محفوف بالألغام والمجازفات.
• فبدل الاستظلال بمظلة الأمم المتحدة وشرعيتها، آثرت واشنطن العمل بمعزل الشرعية الدولية، معطية لنفسها الحق في ممارسة دور القاضي والشرطي الدوليين.
• بدل العمل جنبا إلى جنبا مع المراكز والكتل الدولية الأساسية، آثرت تحيّد روسيا وعزلها، وتقسيم أوروبا إلى قديمة شائخة وجديدة مسكونة بهواجسها الأطلسية، وتبني نهج أحادي، لم يرتد على صورتها ودورها سوى بأوخم العواقب، بدلالة ما يجري على أرض العراق.
• بدل اعتماد مقاربات تجعل من الحرب خيارا أخيرا، روجت للحروب الوقائية والاستباقية، ومارست أبشع أنواع الضغوط لجر أطراف عدة معها إلى ميادين حروبها في العراق وأفغانستان وعلى امتداد الكرة الأرضية ضد "خطر الإرهاب".
• لم تحترم واشنطن في حربها على الإرهاب أبسط قواعد القانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فكانت سجون باغرام وأبو غريب وغوانتناموا والسجون السرية والطائرة، وعمليات خطف المشتبهة بهم، شاهدا على الهزيمة المرة التي تعرضت لها منظومة القيم الأمريكية.
• ولعل الهزيمة الأخلاقية الأكثر فداحة وأشد وطأة تلك التي تمثلت في ممارسات قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني للعراق، بدءا باستسهال عمليات إطلاق النار على المدنيين وقصف أهداف مدنية، مرورا بعمليات التعذيب والاغتصاب والاختطاف، والتستر على جرائم المليشيات المذهبية، وانتهاء بتعميم الفساد والتورط فيه والتغطية عليه، حتى بات العراق نهبا لعصابات الجريمة المنظمة وتبييض الأموال وتهريب النفط والأسلحة، والعقود المشبوهة والصفقات غير الشفافة.
• شجعت قواعد الحرب على الإرهاب الحكومات العربية على سن تشريعات وانتهاج ممارسات مقيدة للحريات العامة، ومصادرة للحقوق الأساسية للإنسان العربي، ودائما تحت شعار "محاربة الإرهاب"، ودائما بادعاء الاقتداء بالولايات المتحدة التي سمحت لنفسها بالتعدي على حقوق مواطنيها وحرياتهم الأساسية، فما بالك حين يتعلق الأمر بالشرق الأوسط أو بذوي السحنة الشرق أوسطية، وهو تعبير بات رائجا برغم عنصريته الفاقعة.
• لم تعد قضايا نشر الحرية والديمقراطية تتصدر جدول أعمال واشنطن في الشرق الأوسط، خصوصا بعد أن تكشفت نتائج الانتخابات الفلسطينية والمصرية عن فوز ملحوظ للحركات الإسلامية، فالغرب عموما والولايات المتحدة على وجه الخصوص، يعطون أذنا من طين وأخرى من عجين لكل الأصوات المنددة بعودة الحكومات العربية لممارسة القبضة الحديدة ضد معارضيها، ونكوصها عن مسارات الإصلاح السياسي، بل أن بعض الدوائر اليمينية في واشنطن تحرض هذه الحكومات على انتهاج سياسات استئصالية ضد حركات الإسلام السياسي.
• أعادت الولايات المتحدة ترميم تحالفها القديم المتجدد مع الإنظمة والحكومات الديكتاتورية والشمولية، وعلى قاعدة "العلاقة الزبائنية ذاتها"، بعد أن بدا لبعض الوقت أن واشنطن بصدد تغيير مقاربتها من هذه الأنظمة لصالح تعميم الديمقراطية ونشرها، وتعطي مقارنة سريعة لهوية من التقتهم السيدة رايس في جولاتها المتعاقبة في المنطقة، ما يكفي لفضح أولويات الاستراتتيجية الأمريكية في المنطقة، فبعد أن كانت تحرص على التقاء نشطاء المجتمع المدني والإصلاحيين العرب، صار اجتماعها مع الرباعية العربية الأمنية، بندا ثابتا على جدول أعمالها.
• وثمة ما يشير، إلى أن الولايات المتحدة خصوصا وبعض الغرب عموما، بصدد إعادة إنتاج تحالفات الحرب الباردة ومحاورها، مع تبديل بسيط في "هوية العدو" فبعد أن كان الخطر الشيوعي جامعا مشتركا لائتلاف ضم الغرب وإسرائيل ومن يطلق عليهم العرب المعتدلين" وبعض الحركات الإسلامية، تلوح في الأفق بوادر عودة لتشكيل هذا الائتلاف وبمكوناته ذاتها، ولكن في مواجهة الخطر الشيعي، حيث تتجمع الدلائل من غير ساحة من ساحات الصراع وبؤرة التوتر في المنطقة، إلى انخراط نشط لمكونات هذا التحالف في السعي عن "رديف إسلامي سني"، سلفي أو إخواني، وأن عمليات تدريب وتمويل تجري على قدم وساق في العراق ولبنان وغيرهما، فضلا بالطبع عن تسهيلات تعطى لهذا التيار في تحريضه الدعائي المذهبي ضد إيران ومحورها أو هلالها الشيعي.
• تفاقم انكشاف سياسة "المعايير المزدوجة" التي تتبعها الولايات المتحدة وبعض مكونات "النموذج الغربي" وبصورة سافرة مخلة بالصدقية وطاردة للنموذج الغربي تماما:
- فبعد أن كانت ازدواجية المعايير متركزة في ميدان الصراع العربي الإسرائيلي لجهة المزيد من الانحياز لإسرائيل والتجاهل للحقوق الفلسطينية والعربية، باتت نهجا عاما في مختلف أوجه الممارسة والسياسة الأمريكيتين في المنطقة.
- معايير مزدوجة في النظر إلى مسألة الانتشار النووي، فلا مطلب تحويل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل وجد أذنا صاغية عن الغرب، ولا المطالب بوضع البرنامج النووي الإسرائيلي تحت الرقابة الدولية أخذت بنظر الاعتبار، فيما العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة، يجييش ضد إيران سياسيا واقتصاديا وعسكريا على خلفية برنامجها النووي. صحيح أن برامج إسرائيل النووية العسكرية لا تبرر لإيران تشريع أبواب التسلح النووي، لكن الصحيح أن كذلك، أن العالم العربي يجد صعوبة فائقة في تصديق الدعاوى الغربية والثقة بنزاهتها.
- معايير مزدوجة حين يتعلق الأمر بالديمقراطية والحرية، فالكثير من الأنظمة القمعية لا تحظى بالنقد الذي تتعرض له أنظمة مناهضة للسياسة الأمريكية في المنطقة، علما بأن أوضاع حقوق الإنسان في هذه دول مثل ليبيا مثلا، لا تقل سوءا عن مثيلاتها في سوريا أو إيران. ثم أن تسويق عدد من الدول العربية غير الديمقراطية تحت شعار ملتبس من نوع" معسكر الاعتدال العربي"، ليس في واقع الحال محاولة لجعل الاعتدال مرادفا للانصياع للاملاءات الأمريكية، فالاعتدال هنا بات فارغا من مضمونه تماما، خصوصا حين يتصل الأمر بأنظمة وحكومات متطرفة في قمعها لشعوبها ومصادرها لحرياتهم واستيلائها على ثرواتهم.
- والمعايير المزدوجة تطل برأسها حين نجري مقارنة بين سياسات بعض الغرب ومواقفه من مجريات الوضع في فلسطين ولبنان، هنا الانتخابات ديمقراطية وتوجب احترام نتائجها، وهناك الانتخابات كارثية توجب تطويق نتائجها والإطاحة بها، هنا رئاسة غير شرعية وحكومة مدللة من الغرب، وهناك رئاسة شرعية وحكومة منبوذة تماما، هنا تبدو الدعوة لانتخابات مبكرة مؤامرة إيرانية يجب قطع الطريق عليها، وهناك ينظر لدعوات مماثلة بوصفها طريق الخلاص وتعبير عن النوايا الصادقة للاحتكام لإرادة الشعب.
- معايير مزودجة حين يتعلق الأمر بتوصيف الإرهاب وتصنيف الإرهابيين، فالولايات المتحدة تتعامل في العراق مع قوى إيرانية معارضة مصنفة أمريكيا على قوائم الإرهاب السوداء، وهي وبريطانيا تدعمان حركات أصولية وانفصالية إيرانية لا يمكن تمييزها عن أكثر الفصائل الإرهابية بأسا وقسوة، وثمة انفتاح على قوى أصولية في لبنان والعراق، لا تختلف بحال من الأحوال عن الكثير من الحركات التي لا تكف الولايات المتحدة عن مساعي تطويقها وعزلها واستئصالها.
- ورقة عمل مقدمة إلى ورشة عمل" التقاليد الدينية والتحديث الاجتماعي والسياسي 28 شباط – 1 آذار 2007
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة