2007-02-28
بقلم:مارتين انديك
تمارا كوفمان ويتيس
ترجمة مركز القدس للدراسات السياسية
خلاصة:إن الصدع الجديد القائم في سياق العلاقات السنية - الشيعية، والتراجع الكبير في النفوذ الأمريكي يشكلان أحد التحديات المهمة لرئيس الولايات المتحدة القادم وسياسته في الشرق الأوسط. ويتطلب هذا التحدي العودة إلى توازن القوى الدبلوماسية وتوازن أفضل للمصالح والقيم لاحتواء الحرب الأهلية في العراق ، وتعزيز قوى الاعتدال ، ومنع إيران من أن تصبح دولة نووية ، وتعزيز الإصلاح الديمقراطي.
وتجدر الإشارة إلى انه في الآونة الأخيرة قد اتسع قوس النفوذ الإيراني الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت. والراديكاليون في هذا الإطار قد اكتسبوا المزيد من القوة باستغلال أخطاء الولايات المتحدة ذاتها من خلال افتقارها إلى الفعالية في العراق، والابتعاد عن عملية السلام العربية - الإسرائيلية، وتمكين القوى المعادية للديمقراطية من الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، وعدم القدرة على وقف السعي الإيراني لامتلاك الأسلحة النووية. ولكن الانقسام في المنطقة ليس مجرد مسابقة بين المتطرفين والمعتدلين، أو حتى بين السنة والشيعة.
ولأن الولايات المتحدة لم تعد هي القوة المهيمنة في المنطقة، فان الرئيس القادم لن يكون أمامه من خيار سوى العودة إلى إعادة التوازن للقوى الدبلوماسية. ومع الإقرار بالتعقيدات المصاحبة لقضية الولاءات العربية، فإن الولايات المتحدة ستكون بحاجة إلى دعم تحالف القوى المعتدلة وفي نفس الوقت المحافظة عليه حيث يمكن لهذا التحالف من مواجهة الطموحات الإيرانية الإقليمية. ويجب أن تشمل إستراتيجيته العناصر التالية:
- تجديد جهود المصالحة العربية الإسرائيلية والتي يمكن لها أن تؤدي إلى انسلاخ النظام السوري عن النظام الإيراني.
- احتواء الآثار الجانبية للحرب الأهلية في العراق.
- التفاوض مع إيران في حول طموحاتها النووية بما في ذلك المشاركة الثنائية للتعاطي مع المشاكل الأكبر.
- وضع ترتيبات أمنية إقليمية لاحتواء التهديد الإيراني ومنع السباق النووي الشرق أوسطي، وفي حال استدعت الضرورة وضع حلفائنا تحت حماية مظلتنا النووية.
- ووضع أجندة للإصلاح السياسي والاقتصادي والتي قد تساعد على خلق اتفاقية اجتماعية جديدة بين الحكومات العربية ومواطنيها.
- وفي الدول الأقل أمنا، يجب التركيز على بناء المؤسسات الديمقراطية بصورة أكبر من التركيز على إجراء الانتخابات الديمقراطية.
السياق:
عندما أوضح الرئيس موقفه الجديد والمتمثل "بإستراتيجية زيادة عدد القوات" في العراق إلى الشعب الأمريكي في كانون الثاني / يناير 2007، وحدد فيه التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير وهو الصراع الايدولوجي الأكثر حدة وحسما في عصرنا. فمن جهة هناك الذين يؤمنون بالحرية والاعتدال وفي الجهة المقابلة هناك المتطرفون الذين يقتلون الأبرياء وأعلنوا عزمهم على تدمير اسلوب حياتنا.
المشكلة مع هذه المعادلة المتمثلة بالخير ـ مقابل هيكل الشر والنزاعات التي تعصف وتحطم الشرق الاوسط هي انها لا تصف حدة الصراع كما يبدو في الواقع في نظر الدول الاقليمية الفاعلة. واذا كان على الرئيس القادم ان يرسم استراتيجية اكثر فعالية لحماية وتعزيز المصالح الأميركية، فانه ولا شك سيحتاج إلى البدء فى اجراء تقييم أكثر دقة لما يحدث في تلك المنطقة، ومن ثم تحديد ما يمكن وما يجب ان تفعله الولايات المتحدة حيال ذلك.
الاتجاهات الإقليمية
سوف يحتاج التقييم إلى الأخذ بعين الاعتبار اثنين من الاتجاهات العامة في المنطقة:
أولا: ظهور الصراع على السلطة بين الشيعة والسنة. فعلى مدار قرون عدة كان التناحر الطائفي يترصد الفرصة المناسبة للظهور من تحت السطح. أما الآن فقد اندلعت الحرب الطائفية بكامل قوتها لان القتل الطائفي في العراق يغذيه السباق الاقليمي بين الكتلة الشيعية بقيادة إيران والدول العربية السنية بقيادة المملكة العربية السعودية ومصر. وكلا الكتلتان تضمان في إطارهما المعتدلين والمتطرفين، الأمر الذي يضيف المزيد من التعقيد على الجهود الرامية إلى انتهاج إستراتيجية أمريكية متماسكة بهدف تعزيز الدعم لتيار المعتدلين على حساب المتشددين.
ثانيا: تراجع قدرة الولايات المتحدة على التأثير في الاحداث التي تجري في المنطقة. لقد كان التاثير الأمريكي في أوجه بعد التطبيق الناجح للقوة: في المرة الاولى عندما طردت صدام حسين من الكويت وفي 2003 عندما اطاحت بنظامه. وقد تعاظم هذا التاثير مع انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 والذي ترك الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم. ان الهيمنة الأمريكية الآن تتضاءل، وعلى أية حال فقد أضعفها الفشل في العراق، والتعب الذي الحقته الحرب على المستوى الداخلي للولايات المتحدة، والتجاهل المقصود من قبل الادارة الامريكية لعملية السلام العربية - الاسرائيلية، وازدياد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. ان خسارة الهيمنة والتأثير تعني ان على الرئيس الامريكي القادم العودة الى منهجية توازن القوى، مع كل العيوب والمعضلات الأخلاقية التي تنطوي على ذلك. وهذا يعني ان الولايات المتحدة ستضطر إلى الأخذ بها بالكثير من المرونة والتوافق لمواجهة المفاهيم المتعددة ومشاكل المنطقة المختلفة.
سوف يتعين على الرئيس المقبل ان يواجه في الشرق الأوسط الأوضاع التي تنذر باندلاع الحروب الأهلية في العراق ولبنان وغزة والتي يمكن ان تمتد لتعمل على زعزعة استقرار الدول المجاورة. فإيران قد وطدت العزم للحصول على الأسلحة النووية وهذا من شأنه أن يثير سباق التسلح النووي في المنطقة. ورغم ان الوضع المثالي يتمثل في أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها عن النفط العربي إلا أن استقلال مصادر الطاقة سيستغرق على الأقل عقدا من الزمان لتحقيقه. وفي غضون ذلك ولأن الاقتصاد العالمي لا يزال يعتمد على النفط والغاز، فان الولايات المتحدة سوف تحتفظ بمصالحها الحيوية من خلال تأمين حرية تدفق إمدادات الطاقة من الخليج الفارسي، وبأسعار معقولة. كما انها يجب أن تحافظ على التزامها الثابت بأمن ورفاه إسرائيل وحلفائها من العرب. وفي ظل هذه الظروف، وحتى لو انسحبت القوات العسكرية الأمريكية من العراق، وفكت ارتباطها الكامل من المنطقة فإن ذلك لن يكون مجديا.
الأهداف الاستراتيجية:
سيكون على الرئيس القادم صياغة الاستراتيجية التي من شأنها حماية المصالح الأمريكية في وقت يشتد فيه النزاع ويتضاءل فيه التأثير. إن الإستراتيجية تهدف إلى تطبيق الأهداف التالية :
1) احتواء الحرب الأهلية في العراق ، لمنع الانهيار الذي يحدث هناك وكي لا ينفجر ويتحول إلى صراع إقليمي واسع.
2) تعزيز قوى الاعتدال في العالم العربي، كي تتمكن من مواجهة النفوذ الإيراني والحد من آثار العناصر الاقليمية المتطرفة. ويشمل هذا النشاط إعادة إطلاق عملية السلام العربية - الإسرائيلية لإقامة تحالف فعلي وقوي بين إسرائيل وشركائها في السلام من العرب ضد إيران وعملائها.
3) منع إيران من تطوير الأسلحة النووية، واذا فشلت في هذا المسعى، يجب وضع وتطوير إطار أمني من شأنه ان يردع استعمال إيران للأسلحة النووية وتفادي سباق التسلح النووي في الشرق الأوسط.
4) مواصلة أجندة طويلة الأمد بهدف تحقيق التحرر السياسي والاقتصادي والتي ستساعد في تلبية تطلعات شعوب المنطقة، مما يقلل من عوامل الجذب لدى عناصر التطرف الاقليمية، والمساعدة على ضمان استقرار الأنظمة التي تشترك مع الولايات المتحدة في مصالحها الإستراتيجية.
المصالح الأميركية والعربية:
متقاربة ولكن ليست متطابقةلقد كان الثمن حربا جديدة لفضح الصدع الطائفي السني ـ الشيعي. وعلى مدار فترة من الزمن حذر قادة السنة العرب في مصر والسعودية والاردن من " الهلال الشيعي " ونشر نفوذه عبر المنطقة. ان انزلاق العراق نحو حرب اهلية، والتحدي الإيراني المتمثل في السعي نحو حيازة الأسلحة النووية يغذيان مصادر القلق العربية. ولكن فقط وفي عام 2006 ، عندما أشعل حزب الله مواجهة مع إسرائيل في لبنان، وعندما منعت دمشق مصر من تنظيم عملية تبادل للأسرى لتهدئة التوترات في غزة دق هؤلاء القادة ناقوس الخطر.
فبالنسبة لهم، فمن غير المقبول الهيمنة الشيعة، وتاريخيا تتدخل إيران الفارسية وبشكل سافر في العراق، ولبنان، وفلسطين، وأصبحت تتحكم بالمصالح العربية. وشجبوا المحور الشيعي والذي يبدو انه بدأ من قاعدته في طهران إلى الحكومة التي يقودها الشيعة في بغداد، الى النظام الغير سني " العلوي " في دمشق الى حزب الله في بيروت. عندما ، وقبل نهاية السنة ضبطت الكاميرات الحراس الشيعة وهم يهتفون بشعارات شيعية عندما كان صدام حسين على المشنقة، الأمر الذي قاد قطاعات كبيرة من الجمهور العربي السني مشاركة قادتهم مخاوفهم من الهلال الشيعي.
اختلاف التصورات الأميركية - العربية
ومن منظور واشنطن يبدو إن هذا الصدع قد عزل معتدلي المنطقة عن متطرفيها. والواقع إن الحرب التي وقعت في صيف 2006 في لبنان بدت وكأنها حرب بالوكالة بين مجموعتين من القوى وتتنافس كل منها في تقديم الرؤى لمستقبل الشرق الأوسط. لقد قدم كل من زعيم حزب الله الديناميكي حسن نصر الله والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد رؤياهم عن المنطقة والمعروفة بعدم وقف "المقاومة" (أي العنف والإرهاب ، والصراع الدائم ضد إسرائيل ، والولايات المتحدة ، و وزعماء العالم العربي الحاليين. ويتحدث نصر الله و أحمدي نجاد عن تعويض قيمة العنف وتقديم الوعود الكاذبة والعدل والكرامة للعرب الذين يشعرون بالاهانة للتاريخ الطويل من الهزيمة على أيدي الغرب وإسرائيل.
وحسب تقييمهم يؤكدون ان العنف وحده الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من طرف واحد من لبنان في ايار / مايو 2000 ومن غزة في آب / اغسطس 2005. وكما يقولون فهو التحدي الذي مكن إيران من المضي قدما فى برنامجها النووى فى مواجهة المعارضة الدولية بقيادة الولايات المتحدة، وفي رأيهم ان العنف والتحدي قد مكنا حزب الله من الوقوف بفخر في عام 2006 ضد الجيش الإسرائيلي وقرارات مجلس الأمن التي صدرت بتأثير أمريكي.
وبالنسبة للزعماء العرب من المعتدلين السنة – بما في ذلك الرئيس المصري حسني مبارك والملك الأردني عبد الله الثاني، والملك عبد الله ملك المملكة العربية السعودية وهم جميعا من أصدقاء الولايات المتحدة، فالتحدي الذي تقوده إيران يشكل تهديدا حقيقيا وعلى مستويات متعددة. وحتى في شوارع مدن هؤلاء القادة أنفسهم هم أقل شعبية من حسن نصر الله ومحمود احمدي نجاد. ان الرسالة التي يبعث بها المتطرفون مفادها ان المقاومة تقترن دائما بالتنديدات للعرب السنة للجوئهم العقيم للمظلة الأمنية الأمريكية وعقد الاتفاقيات المهينة مع إسرائيل.
وفي لبنان فالمحور الإيراني ـ السوري ـ حزب الله يحاول علنا الإطاحة بالحكومة المعتدلة بقيادة السنة. وفي الأراضي الفلسطينية فان المحور الشيعي يؤمن الدعم وبصورة حاسمة لحركة حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني والجماعات التي ترفض السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذي ألتزم به قادة السنة. وفي العراق تقوم ايران بدعم وتامين المساعدة للمليشيات الشيعية المسلحة وتشجيعها على القيام بعمليات التطهير العرقي في بغداد وجنوب العراق والتهديد بإنشاء دولة الشيعة المفترضة على حدود السعودية و الكويت، والذي من شأنه أن يشكل فرصة للتهديد. والأكثر رعبا هو السعي الإيراني لتحقيق الهيمنة العسكرية من خلال البرنامج النووي والذي يمكن من خلاله أن تمتلك السلاح النووي في غضون خمس سنوات.
وفي ضوء المخاوف العربية، والبروز الشيعي فإن الولايات المتحدة تتمتع بقدر معقول من فرص النجاح. إن الطريقة الوحيدة أمام القيادة العربية السنية والتي يمكنهم من خلالها مواجهة إيران في محاولتها للهيمنة الإقليمية هي ضمان قيام الولايات المتحدة بتعزيز عمل الحكومة اللبنانية والرئاسة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، وتعزيز فعال لعملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية ، ومنع إيران من الاستحواذ على العراق، ووضح حد لبرامج إيران النووية، وتعزيز قدراتهم الأمنية الذاتية.
بيد أن هذه القيادات العربية لا تملك نفس الرؤيا التي لدى واشنطن في تعارضها وكراهيتها للمتطرفين السنة، وتفضل استيعابهم بدل أن تراهم وهم يتساقطون في أحضان إيران، وحزب الله. و على سبيل المثال أصبحت حركة حماس و بإطراد ملحوظ أكثر اعتمادا على إيران بالتمويل والتدريب بينما القادة العرب رضخوا لإصرار الإدارة الأمريكية في قطع وسائل الدعم عن حركة حماس الإسلامية. ولكن ومع ظهور التصدع الجديد في سياق الطائفتين السنية والشيعية، فإن قادة العرب السنة يرغبون بإبعاد حركة حماس عن إيران وإعادتها من جديد إلى الجانب السني. كما أنهم لن يجددوا دعم الجهود الأميركية لقمع التمرد السني في العراق وخاصة إذا كان ذلك لا يؤدي فقط إلا إلى السيطرة المطلقة للشيعة هناك. وهم الآن يتطلعون إلى دعم الجهود التي يبذلها الاخوان المسلمين " السنة " لزعزعة استقرار نظام الرئيس بشار الأسد العلوي ( العلويون هم أقلية في وسط أغلبية سنية في سوريا) وهذا التكتيك قد يروق دعاة تغيير النظام في إدارة بوش ولكن ذلك يمكن أن يكون بوابة للفوضى والاضطرابات في قلب الشرق الأوسط.
دعم المعتدلين إن التحدي الذي سيواجهه الرئيس المقبل سيكون تقوية ودعم ائتلاف القوى المعتدلة في الشرق الأوسط ومكافحة القوى المتطرفة التى ظهرت حديثا والرؤية الغير مستساغة التي يحملونها لمستقبل المنطقة. ولكن إستراتيجية الولايات المتحدة سوف يتعين عليها أن تأخذ في الاعتبار ن حلفاء أمريكا الرئيسيين من العرب لديهم أهداف متباينة عن أهدافنا. استغلال الخلافات بين إيران وسوريا لا شك أن المصالح الأمريكية ستكون بحال أفضل من خلال محاولة استغلال اختلاف مصالح النظامين السوري والإيراني بدلا من محاولة إسقاط بشار الاسد. إن النظام العلوي يدرك تماما طبيعة الموقف المتوتر الناجم عن قيادته للجماهير السنية والتي يمكن أن تصبح أكثر تململا فيما لو تحول النظام بصورة أكثر قوة نحو الجانب الشيعي، ولعل هذا قد يفسر لماذا يدعو الرئيس السوري لمفاوضات سلام مع إسرائيل، مع أن الرئيس الإيراني يدعو إلى تدمير إسرائيل.
دعم التعددية في العراق وبالمثل فإن الولايات المتحدة لا تسعى لتحقيق سيادة الشيعة ولا السنية في العراق، بل إلى تحقيق نظام تعددي قادر على حماية مصالح جميع الطوائف العراقية. رغم أن الانزلاق نحو الحرب الأهلية قد يجعل من الاستحالة بمكان تحقيق هذا الهدف، إلا أن الولايات المتحدة لا يمكن ان تشارك في محاولة لإنقاذ المتمردين السنة هناك، أي أكثر مما يمكن ان تتغاضي عن قمع الشيعة للطائفة السنية والذي يترافق مع إنشاء مناطق نفوذ إيرانية.
العودة إلى توازن القوى
إن التعقيد والتحدي الذي يقف أمام تطوير إستراتيجية أمريكية متماسكة وفعالة في الشرق الأوسط يكمن في تراجع قدرة واشنطن على التأثير في الأحداث هناك. في الفترة ما بين 1991 لغاية 2006 التي شكلت عصر الهيمنة الأميركية في المنطقة، كانت الولايات المتحدة قوية بما فيه الكفاية للحفاظ على مصالحها الإقليمية من دون الاعتماد على توازن القوى في الخليج بين إيران والعراق. ففي السابق كانت واشنطن تسعى الى المحافظة على توازن مناسب للقوى، من خلال دعم إيران إبان حكم الشاه ومن ثم دعم العراق وصدام حسين في الثمانينات من القرن الماضي في حربه مع آيات الله الإيرانيين.
إن الهيمنة الأميركية التي تحققت عبر طرد جيش صدام من الكويت، وانهيار الإتحاد السوفيتي مكن إدارة كلينتون من تجنب لعبة توازن القوى لمصلحة سياسة الاحتواء لكل من إيران والعراق. كان يمكن لسياسة الاحتواء المزدوج أن تستمر، لو أن كلينتون قد حقق انجازا في سعيه لتحقيق السلام العربي الإسرائيلي الشامل وكان ذلك من شأنه أن يعزل الدول المارقة، ولكن وبعد انهيار جهود كلينتون للسلام في 2000 اختار الرئيس بوش طريقة أخرى.
إن فشل جهود إدارة بوش الرامية إلى تحويل المنطقة من خلال تغيير النظام والديمقراطية قد أثر بصورة كارثية على موقف أميركا في المنطقة من خلال الطرق الثلاث التالية:
1) تفتيت العراق أثناء الحرب العراقية قد مال وبوضوح إلى ترجيح الكفة لصالح إيران، في حين أن ذلك قد وجه ضربة إلى صورة الولايات المتحدة التي لا تقهر بالإضافة إلى تشويه قيمها.
2) مساواة الرئيس بوش بين عملية الدمقرطة مع إجراء الانتخابات المبكرة وحتى في ظل ضعف المؤسسات السياسية، والأحزاب، والثقافة الديمقراطية وقد أضاف هذا امتيازا للأحزاب الإسلامية مثل مقتدى الصدر وأنصاره في العراق وحزب الله في لبنان، وحركة حماس في الأراضي الفلسطينية. و مع وجود منظمة على درجة عالية من التنظيم، ورسالة مناهضة للولايات المتحدة والنظام القائم، وحكومة مركزية ضعيفة ولا تقدر على مواجهتهم، استطاع هؤلاء من استغلال الانتخابات للدخول إلى الحكومة مع بقاء مليشياتهم المسلحة وكوادرهم سليمة دون أن تمس. وعطفا على ما سبق فقد نجحت في اضعاف مؤسسات الدولة في العراق،ولبنان، والسلطة الفلسطينية، وتقديم الأجندات المتطرفة ودفع تلك الدول إلى مستنقع الحروب الأهلية أو ربما الوقوف على شفيرها.
3) تصميم إدارة بوش على الابتعاد عن عملية السلام الاسرائيلية ـ الفلسطينية ساهم بوصول حماس إلى دفة القيادة في السلطة الفلسطينية، كما أن القرار الإسرائيلي بانتهاج سياسة الانسحاب الأحادي الجانب قد عزز من إدعاءات حركة حماس وحزب الله والتي تشير إلى أن العنف هو السبيل الوحيد لتحقيق المكاسب ضد إسرائيل. و تجدر الإشارة إلى أن هذا كله قد قوض المزيد من سلطة الرئيس عباس الذي كان ملتزما بالتفاوض مع إسرائيل على أساس الحل القائم على الدولتين. وعلاوة على ذلك يأتي فشل الرئيس بوش في المشاركة ببذل أي جهد جاد لإنهاء الانتفاضة الفلسطينية وتشجيع التوصل إلى حل للمشكلة الفلسطينية واقتناع العرب والمسلمين على صعيد المنطقة أن الولايات المتحدة مهتمة فقط بأمورها. بالإضافة أيضا إلى صور التعذيب في أبو غريب وتقارير عن سوء معاملة في السجن العسكري في خليج غوانتانامو، وكان لهذه التطورات أثرا كبيرا في توليد مشاعر الغضب الشديد تجاه الولايات المتحدة والتي نالت من قدرة الأنظمة العربية على العمل مع واشنطن.
ومع تراجع النفوذ الأميركي، وبروز روسيا والصين كأطراف مستقلة وفاعلة في الشرق الأوسط، كان لذلك بشكل أو بآخر أثرا بإضافة المزيد من التعقيدات أمام الدبلوماسية الاميركية. فالرئيس فلاديمير بوتين قام بعقد صفقات مربحة من خلال الاتفاق على قيام روسيا بتوريد التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الصواريخ الى إيران. كما أن للصين مصلحة في تأمين خطوط إمدادات الطاقة من إيران، وهي الجار الأقرب إليها في الشرق الأوسط، ما خفف من وقع العقوبات وكذلك الحال مع روسيا.
كما تسعى كلا الدولتين إلى بيع الأسلحة في المنطقة. ولا يبدو أن الدولتين تشكلان تحديا أساسيا للسيادة الأميركية في الخليج، ولكنهما في نفس الوقت سعداء لرؤية أمريكا وهي غارقة بالتزاماتها الأمنية بينما تقوم الدولتان بتأمين مصادر الطاقة على أساس تفضيلي وكذلك إقامة العلاقات التجارية مع دول المنطقة. ومع عدم التقيد بالضعف الأمريكي، فإن روسيا والصين استطاعتا وبفعالية تقويض أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها إدارة بوش في استخدام الدبلوماسية لتحقيق أحد أهدافها في الشرق الأوسط : المتعلق بفقرة البرنامج النووي الإيراني.
الأجندة الدبلوماسية
ومن آثار هبوط القوة الأمريكية أن الولايات المتحدة وجدت نفسها الآن في موقف عدم القدرة على الطلب من الآخرين، بتنا في موقف لا يمكن فيه للرئيس بوش أن يصر في خطابه إما "معنا أو ضدنا". والاعتراف بمحدودية القوة العسكرية حيث أثبتت الأحداث في العراق وتجربة إسرائيل في لبنان في صيف 2006، أن الولايات المتحدة مضطرة إلى اللجوء إلى الدبلوماسية. ولكنها تفعل ذلك الآن في الوقت الذي فيه خصومها في الشرق الأوسط أقل خوفا من قوتها العسكرية ولا يرون فيها حاجة كبيرة لمصلحتهم، وعندما لم يعد حلفاؤها على يقين من ان أمريكا هي الشريك الذي يمكن الاعتماد عليه والوثوق به. لهذا السبب تستطيع إيران أن ترفض عرض الوزيرة رايس بالتفاوض حول برنامجها النووي، والسخرية من العقوبات التي أقرتها الأمم المتحدة ضد إيران نتيجة لبرنامجها النووي،ولهذا السبب كان الرئيس بوش يحاول إثارة قعقعات السيوف في وجه إيران ويحاول قطع المعونة الدولية عن حكومة حماس، بينما يحاول السعوديون العمل مع إيران لنزع فتيل الأزمة في لبنان ومع حركة حماس لنزع فتيل الازمة في غزة.
إقامة تحالف معتدل في الشرق الأوسط
يتوجب على الولايات المتحدة الآن أن تعود إلى نهج توازن القوى في المنطقة، وبناء تحالف في مواجهة التحالف الإيراني ـ السوري ـ وشيعة العراق ـ وحزب الله وتصحيح الميل الذي يشير إلى مصلحة إيران، وهي النتيجة الغير مقصودة الناجمة عن الوضع في العراق. وكما كان من قبل فإن هذا النهج حتما سيضع الولايات المتحدة في تحالف مع أطراف غير مألوفة وتفتقر إلى المصداقية، وهذا من شأنه خلق معضلات وتناقضات سياسية. إن الإدارة القادمة لن تنعم بخاصية الترفع عن الدخول في نزاعات ومطالبة الجهات المحلية بضرورة قراءة الأهداف الأمريكية جيدا.
إتباع الدبلوماسية مع إيران
وبحكم الضرورة سيكون هناك مجالان للنشاط الدبلوماسي هما وقف البرنامج الإيراني للحصول على الأسلحة النووية ومحاولة إحياء عملية السلام العربية الإسرائيلية. وعلى الرغم من جهود الوزيرة رايس وعلى مدار سنتين للضغط على إيران لتعليق تخصيب اليورانيوم لم تسفر فقط إلا عن ضعف العقوبات التابعة للامم المتحدة ولم توقف إيران برنامجها النووي الإيراني إلا إن الدبلوماسية لم تأخذ مجراها الصحيح. لقد كان للتصويت بالإجماع في مجلس الأمن ، بالإضافة إلى التهديد بفرض عقوبات أقوى وغير مسبوقة أثرا في إثارة انتقادات علنية داخل طهران لنهج المواجهة الذي يتبناه محمود أحمدي نجاد. إن سمة العزلة الدولية التي ترافق العقوبات التي تفرضها الأمم المتحدة، ومهما كانت ضعيفة بيد أنها لا تتواءم مع مشاعر الفخر الفارسية. كما أن المواجهة مع المجتمع الدولي قضية لا تلقى الترحيب عند العديد من القادة المحافظين في إيران. وبالتالي فإن أولئك الايرانيين الذين يتحدثون عن السعي لحيازة الأسلحة النووية خفية، مصممون مرة أخرى على فصل أميركا عن شركائها الدول الأوروبيين والروس والصينيين. وفي حال نجاحهم في تطويق أحمدي نجاد أو كبحه ، فإن إيران قد تتوقف بصورة مؤقتة عن جهودها في تخصيب اليورانيوم ، حيث يمكن استئناف المفاوضات حينها.
هل يجب أن تستأنف المفاوضات؟ ينبغي على الولايات المتحدة في حال استئناف المفاوضات أن تقتصر المحادثات على الملف النووي، لأن هناك الكثير من الجوانب الأخرى المثيرة للقلق بالتصرفات الإيرانية والتي تحتاج إلى معالجة : دعم الميليشيات الشيعيه العراقية، رعاية الإرهاب،التدخل في لبنان ، ومعارضة إسرائيل وعملية السلام، وعلى سبيل المثال لا الحصر ينبغي أن تجري المفاوضات بصورة ثنائية وليست متعددة الأطراف. لأنه و للأسف، فان هناك دائما من شركاء الولايات المتحدة من يقبل بأي ثمن في سبيل عقد صفقة.
العودة للمشاركة في دبلوماسية الصراع العربي - الإسرائيلي إن ميدان الدبلوماسية في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي ، والتهديد الإيراني يوفران زخما جديدا للتقدم، حيث يتشارك الآن الزعماء العرب السنة والإسرائيليين نفس المصلحة في إظهار حقيقة ان المفاوضات قد تعمل بصورة أفضل من المقاومة. ان مشاركة الدول العربية عبر المبادرة السعودية يمكن أن توفر دفعة قوية للرئيس عباس وحافز للإسرائيليين الذين يبحثون عن شريك عربي موثوق.
ان الرغبة لدى القادة الاسرائيليين والفلسطينيين لمناقشة "الافق السياسي" والتي من شأنها ان تحدد عناصر الاتفاق النهائي تعتبر ايضا من التطورات الايجابية، لانها ستعطي المزيد من الطمأنينة للجانبين حول المرحلة النهائية، ولانها تتخذ خطوات على صعيد بناء جسور الثقة للشراكة من أجل السلام. وهنا ايضا فان التهديد الإيراني قد ساعد على تغذية هذه العملية، كما أن المعتدلين الفلسطينيين قلقين من التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية من (خلال دعم حركة حماس والجهاد الاسلامي الفلسطينيتان) كما ان إسرائيل تشعر بالقلق ازاء التهديدات النووية لأحمدي نجاد.
وبما أمريكا تسعى لاستغلال هذه الظروف من خلال المشاركة المستمرة في الدبلوماسية العربية - الإسرائيلية، فسيتعين عليها ان تكون واقعية بما يتعلق بالعوائق التي تعيق إحراز أي تقدم على هذا الصعيد. وبعد ست سنوات من إهمال عملية السلام وترك الفلسطينيون مع مؤسسات منهارة، وحكومة بقيادة حماس تعارض وجود إسرائيل، ودولة فاشلة وإرهابية في غزة. على الجانب الآخر هناك رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت في أدنى درجات التأييد والموافقة من الرئيس بوش، وما لم يمكنه إعادة بناء موقفه، فإنه لن يتمكن من القيام بالمخاطر الكبيرة الكامنة في التفاوض على صفقة من شأنها تفكيك أكثر من 100 مستوطنة في الضفة الغربية، والتغيير في وضع القدس، والإعتماد على شريك فلسطيني بقدرات مريبة وغامضة على الوفاء بأي التزام.
ومع ذلك ، فإن العملية الدبلوماسية يمكن ان تساعد على وضع قطار عملية السلام على المسار والمضي قدما فيما إذا:
- ركزت على عملية بناء القدرات الأمنية والاقتصادية الفلسطينية ( في البداية عن طريق مؤسسة الرئاسة الفلسطينية).
- تحديد الافق السياسي للفلسطينيين والإسرائيليين.
- إشراك الدول العربية.
ان مثل هذه العملية ستعزز من النفوذ والسمعة الأمريكية، وتسهيل تعاون القادة العرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن شأن هذه العملية أيضا أن تزيد من العزلة الإيرانية والضغط على سوريا بالدخول في عملية مماثلة او مواجهة العزلة.
احتواء آثار الفوضى في العراق وبزوغ إيران ولكي تكون على درجة من الفعالية فان الدبلوماسية الأميركية بحاجة إلى دعم الإستراتيجية الأمنية التي تدعم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة ضد مجموعة من التهديدات الناجمة عن تنامي حالة عدم الاستقرار وسباق التسلح النووي المحتمل. والولايات المتحدة تملك بالفعل علاقات أمنية قوية مع إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية (ودول مجلس التعاون الخليجي) ، وشركائنا في التحالف الفعلي ضد الطموحات الإيرانية. وللمحافظة على أمن شركائنا، يجب علينا الآن بنجاح مواجهة التحديات التي يفرضها انزلاق العراق نحو حرب اهلية والسعي الإيراني الحثيث لحيازة الأسلحة النووية.
فالولايات المتحدة تحتاج إلى تطوير إستراتيجية الاحتواء لمنع الانهيار في العراق والانفجار الذي قد يؤدي إلى اشتعال المنطقة . إن الحرب الأهلية في العراق يمكنها وبسهولة زعزعزة استقرار الدول المجاورة : تركيا وإيران والسعودية والتي يمكن ان تقرر التدخل فى الحرب الأهلية، وتدفق اللاجئين باعداد كبيرة يمكن ان يؤثر على الأردن والكويت وغيرهما. كما ان احتواء الحرب الأهلية سيتطلب الحفاظ على وجود قوات أميركية على الحدود العراقية المحيطة، وربما بأعداد قليلة في وقت ما من المستقبل.
توسيع الاتفاقيات الأمنية إن تصميم إيران على المضي قدما في برنامجها النووي قد أثار بالفعل استعدادات إسرائيل لاحتمال توجيه ضربة وقائية لإيران، وسعي الدول العربية المجاورة لبرامج نووية خاصة بها. وفي حال اخفقت الدبلوماسية في إيقاف البرنامج النووي الإيراني، فربما حينها قد تضطر الولايات المتحدة اللجوء إلى تنفيذ ضربة وقائية من نوع ما. وعلى أية حال وفي أحسن الأحوال فان مثل هذه الضربة لن تؤدي فقط إلا إلى تأخير إيران لحيازة أسلحتها النووية، وهي وحدها لن تكون كافية لمنع حدوث سباق تسلح نووى اقليمي.
ينبغي على الرئيس المقبل الدخول في مناقشات مع حلفاء أمريكا الإقليميين ـ إسرائيل ومصر والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي ـ لتطوير الاتفاقيات الأمنية التي من شأنها توسيع المظلة النووية الأمريكية لتشمل تلك الدول في مقابل التزامها باتخاذ الإجراءات التي تدعم هذا التحالف الافتراضي (مثل الدعم الواضح لعملية السلام العربي - الإسرائيلي ، والإصلاح الداخلي ، والتعاون الأمني). ان الأهداف المرسومة لمثل هذه الإجراءات ستكون منع سباق التسلح النووي وردع العدوان النووي الإيراني. وعلى الرغم من ذلك فان مثل هذا الحلف على غرار الإطار الأمني لحلف الناتو لمنطقة الشرق الأوسط سيكون مثار جدل في الداخل، ولكن مثل هذه الخطوات سيكون لا مفر منها اذا فشلت الدبلوماسية النووية.
تشجيع الإصلاحات الديمقراطية وفي صياغة واقعية للإستراتيجية الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، فسيكون من السهل التخلي عن جهود إدارة الرئيس جورج بوش الرامية إلى تعزيز الديمقراطية العربية. على كل حال ،فإن قادة العرب السنة والذين تسعى الولايات المتحدة إلى تحرير ودمقرطة أنظمتهم هم أنفسهم سيكون دعمهم من الأهمية بمكان لمنع إيران من المحاولة للسيطرة على المنطقة. كيف يمكننا اذا الإصرار على إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية هي بطبيعتها تعمل على زعزعة الاستقرار؟
استخدام وسيلة الاقناع لاظهار ضرورة الاصلاح للمعتدلين
علمتنا التجربة المريرة ان قمع المتطرفين في المنطقة لا يزيل الخطر الذي يشكلونه، وبدلا من ممارسة سياسة القمع في بلد ما والذي غالبا ما يدفع المتطرفين إلى ملاذات أكثر أمنا حيث يمكنهم إلحاق الضرر بصورة أشد فظاعة. إن الدعوة الإسلامية المتطرفة تكمن في ايديولوجية المقاومة الثورية لحالة الركود والمعاناة الموجودة في كثير من المجتمعات العربية اليوم. ولمواجهة تلك الايديولوجية يتطلب وجود بديل إيجابي لرؤية المستقبل، حيث يوجد الاعتدال والتسامح والسلام وتقديم المزيد من المزايا والفرص بصورة أكبر من خيارات المقاومة والعنف.
ولا ان يكون هناك من رؤيا تعمل على تهميش عناصر الرفض المتشددة، وهذه الرؤيا يجب ان تشمل الاحتمالات لتحقيق التطلعات الوطنية الفلسطينية. ولكنها يجب أيضا أن تمثل الغالبية العظمى من العرب في خارج فلسطين مع وجود فرصة لتشكيل مستقبلهم. إن هذا الوعد لا يمكن تنفيذه إلا عن طريق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية بعيدة المدى والتي من شانها ان تخلق عقد اجتماعي جديد بين الحكومات العربية ومواطنيها.
يشعر القادة العرب بخطورة التهديدات الذي يمثلها الإسلام المتطرف داخل مجتمعاتهم. وتجدر الإشارة إلى أن الفساد وعدم الكفاءة والمحسوبية المستشرية في الأنظمة المعتدلة قد أدت إلى انتشار ظاهرة الركود الاقتصادي وازدياد عدم القدرة على تقديم الخدمات الحكومية الأساسية إلى الأعداد المتزايدة من السكان. وقد استطاع الإسلاميون الاستفادة من هذا الفشل من خلال بناء شبكاتهم الخيرية التي توفر وعلى درجة عالية من الكفاءة الرعاية الاجتماعية إلى المحتاجين. وعلاوة على ذلك وعلى مدار عقود، والحركات الإسلامية في الأردن ومصر وغيرها من الدول الحليفه لأميركا استطاعوا وبصورة ثابتة بناء قواعدهم الشعبية من خلال الهجوم على سلبية هذه الأنظمة في وجه السياسات الامريكية والإسرائيلية التي صورت بشكل سلبي. كما أن هذه الحركات استفادت من النجاحات الواضحة لزعيم حزب حسن نصر الله والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد. وعلى نحو مماثل فإن النقد المحلي الذي توجه به الإسلاميون لأداء النظام في الداخل والخارج يتردد صداه عاليا في أبواق الخطاب الإيراني وحزب الله.
وفي هذه البيئة وفي ظل الجهود الأميركية لإقناع القادة العرب بالحاجة الملحة للإصلاح والتي ينبغي أن تجد لها صدى لدى النظام العربي الرسمي، والمهمة ليست صعبة كما قد يبدو. كما أن القادة العرب يدركون وبصورة متزايدة حجم النفوس الثائرة والقلقة، وعدم استخدام الطاقات الشابة بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها في العالم العربي اليوم ويشترك ذلك مع المتطلبات المستمرة لعولمة الاقتصاد لإبراز التطلعات المتزايدة لدى جيل الشباب. و آخذين بعين الاعتبار أن أكثر من نصف عدد سكان العالم العربي هم تحت سن الرشد. وبينما لا تزال القدرة لدى الحكام الحاليين على التلاعب في المؤسسات السياسية، وشراء الدعم لهم من خلال الموارد الحكومية، وإمكانيات هؤلاء القادة على دعوة قواتهم الأمنية في حال الفشل، إلا أن هذه القدرة على ممارسة هذه اللعبة أصبحت بصورة متزايدة مثار تحدي. وفي حال زيادة القمع الآن فان ذلك يعني ارتفاع نسبة المخاطرة لدى هذه الأنظمة بالتفريط بمؤيديها. وبالاعتماد أساسا على الولايات المتحدة في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي، فإنها تسيء الى صورتهم كمدافعين عن الاسلام والمصالح العربية.
فحتى الآن تعتقد الأنظمة العربية أن أفضل طريقة لخفض التهديد الذي تمثله المعارضة الإسلامية الداخلية تتمثل في العمل على حل النزاعات الاقليمية مثل العراق و لبنان و فلسطين ، مما يخفف عليهم عبء معالجة المشاكل والمظالم المحلية. في حين ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل مع هذه الأنظمة لتسوية الصراعات الإقليمية، والرئيس القادم أيضا يجب عليه مساعدتهم على فهم ان العزل الأفضل ضد آثار عوامل زعزعة الاستقرار للحركات الإسلامية المحلية يتمثل بإصلاح العقد الاجتماعي المنهك بين المواطنين والدولة.
الإصلاح أساس الشراكة ولإخراج الحكام العرب من هذه المعضلة، ومع ديمومة وفعالية الإجراءات المتخذة في مواجهة المحور الراديكالي في المنطقة، فان التعاون العربي - الأميركي يجب أن يقوم على أساس جديد من الشراكة بين الولايات المتحدة والحكومات العربية المعتدلة، والتي تحظى بأغلبية معتدلة من المواطنين، وحينها يجب تصميم هذه الشراكة بهدف تقديم مستقبل أفضل لشعوب الشرق الأوسط.
توفير الدعم المادي للإصلاح الإصلاح لن يتحقق إلا عن طريق استعداد الأنظمة العربية لإجراء التغييرات الضرورية. ولم يبق أمامنا من خيارات أخرى سوى العمل معهم. إن الدور الأمريكي يجب أن يكون في الحد من مخاطر وتكاليف الإجراءات الضرورية للإصلاحات والتي تأخرت طويلا من خلال الحوافز المادية والمثبطات، والحوار.
من خلال المعونة الاقتصادية المقررة لمصر في عام 2008 يجب البحث في تقديم مساعدة جديدة من خلال "حساب تحدى الديمقراطية" والذي يمكن من خلاله تقديم الحوافز للدول العربية الراغبة والمستعدة لتحمل المخاطر التي قد تنجم عن الخطوات الإصلاحية.
إن الناشطين على صعيد تعزيز العمل الديمقراطي والسياسي في العالم العربي لا يخشون من "قبلة الموت" الأميركية. وكما فعلنا في كوريا الجنوبية والفلبين، يتوجب على حكومة الولايات المتحدة الحكومة تقديم الدعم الواضح والملموس للحركات الديمقراطية مع الحفاظ على حسن العلاقات الرسمية مع الحكومات العربية.
تجربة استعداد الإسلاميين للاعتدال في ظل الظروف الراهنة، فإن الحركات الإسلامية ستكون المستفيد الأول من أية إنفراجات سياسية جديدة. ولكن توسيع إطار الحريات السياسية سيسمح أيضا بخروج أصوات غير إسلامية، وإجبار الحركات الإسلامية على توضيح برامجها السياسية. فإذا دافعت هذه الحركات عن الأعمال والآراء المتطرفة، أو إذا ما انتهجت العنف أو غيره من الوسائل المعادية للديمقراطية ، فإنها ستصبح أهدافا مشروعة لإجراءات الدولة. ومع الموافقة على المداهمات التي تستهدف العناصر المتطرفة، إلا انه لا ينبغي لنا الانضمام إلى أي حجة للنظام تحت شعار الإسلام المتطرف وبالتالي قمع أي نشاط للمعارضة. ويمكن للولايات المتحدة أن تدعم التدابير القاسية ضد حركات المعارضة الداخلية، ولكن فقط عندما تغلب اللامسؤولية السياسية على تصرفات هذه المجموعات، وأيضا عندما تكون هناك بدائل معتدلة.
تعتبر تنمية الاعتدال في الشرق الأوسط من الضرورة بمكان لبناء الديمقراطية، في المقابل فإن تنمية الديمقراطية ضرورية أيضا لبناء الاعتدال. ومع مرور الوقت فان محدودية الانفتاح السياسية ستعتبر كواجهة أخرى للاستبداد، وبالتالي فإن المعتدلين سيكونون موضع شك ويفقدون مصداقيتهم مقابل ازدياد شعبية المتطرفين.
التركيز أولا على حلفائنا الأقوياء
إن بناء الديمقراطية والاعتدال معا يتطلب تركيز الجهود لتعزيز الديمقراطية في تلك المجتمعات مثل حلفائنا في مصر والمغرب والأردن وهي حكومات قوية وقادرة نسبيا على "تدجين" الحركات الإسلامية المحلية. وفي تلك المجتمعات فإن المخاوف الأمنية الفورية هي على درجة متدنية و أقل بالنسبة للحكومة والمواطنين، وحجج التطرف الباقية هي الأضعف، ولدى العناصر الإسلامية الحافز الأكبر للبقاء مسالمين ومعتدلين مقابل القدرة على لعب دور في السياسة العامة والمجتمع. هناك أنظمة قوية بما يكفي لتحمل حرية التعبير وتكوين الجمعيات، في حين أن المواطنين مستعدون للبدائل الإسلامية المعتدلة بصورة أكبر من البدائل المتطرفة. و في الدول الضعيفة مثل لبنان وفلسطين والعراق، يجب أن تكون الأولوية لبناء الدولة، بدلا من تعزيز الديمقراطية. وفي هذه السياقات عندما تضمن مؤسسات الدولة المحايدة و الموثوقة الأمن لمواطنين عندها ستفقد عناصر التطرف المحلية عناصر بقاءها والولاء لها بين الجمهور.
سوف تكون الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تكون ثابتة وصريحة مع الدول العربية الحليفة لتعبر عن تطلعات وأولويات الإصلاح وتحقيق التكامل بين سياسات الإصلاح في إطار العلاقات الثنائية كشرط مسبق لتعاون أمريكي طويل الأمد، ويتمتع بالمصداقية والاستقرار مع الدول العربية. سوف تحتاج الولايات المتحدة لان تقدم للدول العربية ضمانات أمنية كبيرة لمواجهة العواقب الوخيمة للفوضى في العراق والأطماع الإيرانية، في المقابل يتوقع من الدول العربية أن تكون على مستوى الاستثمار الأمريكي من خلال القيام بالتغييرات الضرورية لبناء الاستقرار الداخلي.
ملاحظات ختامية
على الرئيس المقبل مواجهة مشكلة الشرق الاوسط الذي يعيش في حالة من الفوضى و مواجهة الرأي العام الاميركي الذي سيكون على درجة كبيرة من الحذر للمشاركة فيها. وكما ان الامتناع عن المشاركة سيكون له عواقب وخيمة للمصالح الأمنية للولايات المتحدة الداخلية و على مستوى الكرة الأرضية. ولحماية تلك المصالح فان الولايات المتحدة ستضطر إلى إعادة اختراع دبلوماسية مدعومة بضمانات أمنية والتهديد باستخدام القوة، في خدمة استراتيجية ترمي إلى حماية حلفائنا، ومكافحة خصومنا، وقيام عالم أكثر سلاما واستقرارا في المنطقة بوجود الحكومات المسؤولة أمام شعوبها.
إن هذا التحدي الهائل يتطلب الإبداع والمرونة والاستعداد للعمل مع الشركاء الذين قد لا تكون أهدافهم دائما منسجمة مع مصالحنا. وسيتعين علينا التخلي عن المزيج المشؤوم المؤلف من السذاجة والأيدلوجية وهو النهج الذي تميزت به إدارة بوش، لصالح الواقعية العملية التي تجمع القيم الأميركية للتوازن مع المصالح الأميركية.
-المصدر:معهد بروكنجز
brookings foreign policy studies progam |
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة