1996-06-17
من 16-17/6/1996
العلاقة الاردنية الفلسطينية" في البعدين الوطني والاقليمي "
يحتفظ الفصل السابع مـن الميثاق الوطني الاردني ، المكـرس للحـديث عن " العلاقة الاردنية - الفلسطينية " بكامل صلاحيته واهليته كاطار مرجعي عند النظر لهذه المسالة في بعديها الداخلي والخارجي ، بالرغم من التطورات العاصفة التي ضربت المنطقة والعالم منذ اواخر العام 1990 ، عندما صيغ الميثاق .
فقد تم توصيف ، هذه العلاقة بانها " حالة خاصة ومتميزة " وهو تعبير شاع استخدامه عند ذكر العلاقة الاردنية الفلسطينية ، دقيق الى حد كبير ، وان كان لا يرضي البعض منّا ... يعكس حالة التداخل والتشابك العميقة ، وعلى مختلف المستويات بين الدولتين والشعبين والكيانين ، كما انه يذهب بعيدا ليطال البعـد الداخلي لكل منهما ، وان بتفاوت .
والحديث عن الخصوصية والتميز اللذان يطبعان هذه العلاقة لا يعني للحظة واحدة ، وصفاً لمستوى التقارب او التباعد بين القيادتين السياسيتين للشعبين ، فالعلاقة خاصة ومتميزة ، سواء في لحظة التوافق والانسجام على المستوى السياسي ... وهي كذلك ايضا في لحظة التباعد والقطيعة ... فنحن نتحدث هنا اساسا عن تميز وخصوصية في الابعاد التاريخية والجغرافية والثقافية والحياتية ماضيا وحاضرا ومستقبلا ... نحن نتحدث عن روابط ووشائج اخترناها او فرضت علينا او وجدنا انفسنا في خضمها ... لا فرق ، فالنتيجة العملية التي ترتبت على كل ذلك وتكرست على مدى عقود متتالية من الزمن ، اننا بتنا نتمتع بهذه الحالة الخاصة والمتميزة .
من منظور مبدئي ، اكد الميثاق الوطني الاردني الحاجة لابراز الهوية العربية الفلسطينية بوصفها هوية نضالية سياسية بالدرجة الاولى ، ليست في حالة تناقض مع الهوية العربية الاردنية ويجب ان لا تكون ، وبالقدر ذاته شدد واضعوا الميثاق على اهمية الحفاظ على الهوية الوطنية الاردنية من هذا المنظور ايضا .
فالهويتان العربيتان الاردنية والفلسطينية ليستا متعارضتين او متصادمتين ، بل هما نقيض استهدافات المشروع الصهيوني الاستعماري ، ووظيفة ابرازهما تتلخص اساسا في تحصين الاردن وفلسطين معا من مخاطر التبديد والابتلاع ... من مؤامرات الصهينة والتهويد والوطن البديل وغيرها من مسميات للمشروع الصهيوني في المنطقة ، والذي ما زال ينتصب كخطر ماثل بالرغم من اتفاقيات السلام .
وتأسيسا على هذا المنظور المبدئي تضمن الميثاق الوطني حديثا قطعيا عن الدولة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعن حتمية قيام علاقة مستقبلية وحدوية بين دولتي الاردن وفلسطين ، على قاعدة احترام خيارات الاردنيين والفلسطينيين في تحقيق افضل صيغ الوحدة بينهما ، وبما يجعلها نموذجا للوحدة العربية الشاملة .
ولم يقتصر الميثاق في بحثه لمسألة العلاقة الاردنية - الفلسطينية على بعدها الخارجي فحسب ، بل تطرق الى بعدها الداخلي كذلك في معرض اشارته الى عدم جواز الاستناد الى تطورات العلاقة الاردنية الفلسطينية في بعـدها الخارجي ، كمدخل للانتقاص من حقوق المواطن وواجباتها او سببا لاضعاف الدولة الاردنية من الداخل ... فالوحدة الوطنية هي القاعدة الصلبة التي تقدم عليها العلاقة الوثيقة بين جميع المواطنين في الدولة الاردنية ... على اختلاف اصولهم ومنابتهم ... وحمايتها وترسيخها امر واجب لتعزيز منعة الاردن وحفظ امنه الوطني والقومي ، وحماية جبهة الداخلية ، وضمان الفرص المتكافئة لجميع المواطنين دون تمييز ، وصيانة مصالحهم المشروعة وحقوقهم التي كفلها الدستور .
واذ تعطي قراءة الاسس / المرتكزات التي تضمنها الميثاق في حديثه عن العلاقة الاردنية الفلسطينية ، الثقة بصلاحيتها كاطار مناسب لمعالجة هذه العلاقة في بعديها الوطني والاقليمي ، الا ان السؤال الذي يستوجب بعض التأمل والدراسة ، وربما الحوار والجدل ، هو اين نحن مما ذهب اليه الميثاق ؟! ... اين نحن من الصورة / النموذج التي رسمها واضعوه قبل خمس سنوات او يزيد ، وارتضتها الغالبية الساحقة من الاردنيين من شتى المشارب والاتجاهات السياسية والفكرية ... من شتى المنابت والاصول .
في البعد الاقليمي ( الخارجي ) للعلاقة:
فاذا بدأنا بالبعد الاقليمي ( الخارجي ) للعلاقة الاردنية الفلسطينية لوجدنا ان العلاقة بين مؤسسة الحكم في الاردن ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تجسد بدورها مؤسسة الحكم او السلطة لدى الشعب الفلسطيني ، ظلت محكومة بالكثير من الهواجس والمخاوف والشكوك ... تنتابها دورات منتظمة من التأزم والانفراج يغلب عليها طابع الحذر والتحسب والترقب ... بالرغم من اقرار الجانبين لحاجتهما الماسة للتعاون والتنسيق والتكامل ... واعلانهما المتكرر بان لا خلاف جوهريا يفصل بينهما .
لكن الصحيح ، ان ثمة عوامل موضوعية خارجة عن ارادة الفريقين ، واخرى ذاتية تتصل بالمواقف والسياسات الصادرة عن كل منها ، ساهمت متضافرة في الوصول بالعلاقات الثنائية الى الحالة التي اتينا على وصفها قبل قليل .
من العوامل الموضوعية الحاسمة التي تبعث عن " التنافس " و " التزاحم " وخلق الحساسيات ، ان كيانا ثالثا قد اخذ في التشكل منذ عقود ثلاثة ، بين كيانيين قائمين ... وان المنطقة الجغرافية الممتدة من ضفاف المتوسط الى عمق الصحراء ، التي تكرست منذ العام 1948 ، ساحة وحدودا لدولتين ، سوف تشهد ولادة دولة ثالثة بكل ما لهذه الولادة من عناصر ومقومات ومكونات .
واذ يسعى الفلسطينيون لاسترداد عناصر دولتهم المقبلة من براثن الاحتلال الاسرائيلي عبر سنوات مريرة من النضال والمعاناة ، وتحديدا عنصري الارض والسيادة ، فان كثير من مقومات الدولة القادمة ومكوناتها ، ستسترد من الدولة الاردنية ، التي بسطت نفوذها وقوانينها وعملتها ، وجنسيتها على الارض والسكان الفلسطينيين ، بصورة كاملة قبل عام 1967 ، ومجتزأة بعده .
ومن الطبيعي ان يصاحب كل تقدم جوهري تحرزه المنظمة في لملمة شتات الدولة والكيان ، بروز نوع من الحساسيات والاشكاليات ، بل والصدامات احيانا ... ومن الطبيعي ايضا ان ينظر لمحطات من نوع تأسيس المنظمة عام 1964 ، وقرارات الرباط عام 1974 ، وفك الارتباط القانوني والاداري مع الضفة الغربية عام 1988 ، بوصفها محطات حاسمة على طريق نقل السلطة من الدولة الاردنية الى منظمة التحرير ... ومن الطبيعي كذلك ان تقرأ هذه المحطات بصورة متفاوتة يمليها اختلاف المواقع وزاويا النظر ... فما كان يعتبر من منظور فلسطيني محطات تاريخية حاسمة على طريق بناء الكيان المستقل ، كان ينظر اليه من الجهة المقابلة بوصفه تراجعا موضوعيا في الدور الفلسطيني للحكم الاردني .
ومنذ خروج الفلسطينيين من مظلة الوفد المشترك الى مؤتمر مدريد ، مرورا باتفاقيتي اوسلو والقاهرة وانتهاء بطابا وتطبيقاتها برزت بشكل اوضح من ذي قبل ، الاشكاليات الناجمة عما يمكـن تسميتـه بتقاطـع وتـداخـل السيادات " القائمة والمفترضة ، او تلك التي قيد التشكل " .
وتعطي مسألة القدس على سبيل المثال ، صورة عن الاشكاليات التي يمكن ان تترتب على قيام كيان جديد بين كيانيين قائمين ... فالمدينة ما زالت خاضعة للسيادة الاسرائيلية ، والمقدسات الاسلامية فيها تخضع للرعاية الاردنية ، فيما الفلسطينيون يرون انها عاصمتهم ، لهم عليها حق السيادة وعلى مقدساتها حق الرعاية .
ان الاقرار المبدئي الذي تضمنه الميثاق الوطني الاردني باهمية ابراز الهوية الوطنية الفلسطينية ... والدولة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، لم يكن يعني للحظة واحدة ان مخاضا كهذا يمكن ان ينتهي دون اشكاليات وحساسيات بل ودون صدامات احيانا ... لكنه بكل تأكيد اشّر الى النتائج النهائية والمآل الاخير لهذه العملية التاريخية .
ومن بين العوامل الموضوعية الاخرى التي اضافت وتضيف الى العلاقة الاردنية - الفلسطينية مزيدا من التعقيد ، ذلك البعد المتصل بالدور الاسرائيلي ... فاسرائيل اذ تتجه نحو حل اقليمي للمسألة الفلسطينية يشترط حضورا اردنيا من " نوع ما " في الصيغ والترتيبات النهائية ، انما تلقي حجرا في مياه الاشكاليات والحساسيات الراكدة والقائمة بين الجانبين ... خصوصا كلما كان المطلب الاسرائيلي اكثر وضوحا والحاحا في تأكيده على تعظيم الدور الاردني النهائي .
لقد برزت هذه الاشكالية بصورة اوضح مع مجيء اقطاب الليكود وبنيامين نتنياهو " بخيارهم الاردني " وخططهم لـ " التقاسم الوظيفي " ، لكن المشكلة كانت قائمة حتى بوجـود اركان العمل وشمعون بيريز عـلـى رأس السلطـة فـي اسـرائيـل ، وهم اصحاب " فرضيات الحل الاقليمي " او الحلول الكونفدرالية والفيدرالية .
ولو ان العلاقات الثنائية بين الاردن والمنظمة ليست مثقلة بالحساسيات والتباينات القديمة والجديدة . لكان وقع العامل الاسرائيلي اقل وطأة ... لكن بفعل هذه الاشكاليات والحساسيات فان السياسة الاسرائيلية تجلب مزيدا من الحب الى طاحونة الخلافات والحساسيات .
ومع ذلك ، فقد امكن لطرفي المعادلة الاردنية - الفلسطينية ان يتعايشا مع المخاوف والشكوك ، وان ينجحا في صياغة الحد الادنى من التعاون والتنسيق ... خصوصا وانهما ايقنا على ما يبدو ان هذه العلاقة قدرية ، لا فكاك منها ... وان مصلحتهما المشتركة تقتضي ادارة هذه العلاقة باكبر قدر من التأني والرؤية واقل قدر من المجازفة .
لن ندخل في استعراض تاريخي للمحطات التي مرت بها العلاقة الاردنية في بعدها الاقليمي فليس وظيفة هذه المداخلة ان تؤرخ لهذه الحقبة ... لكن منذ ان اصطدم منطق الثورة بحسابات الدولة حتى العام 1970 ... مرورا بالنزاع على الساحة الدبلوماسية لحسم مسألة التمثيل الفلسطيني ، واستحقاق الرباط عام 1974 ، وانتهاء بايامنا هذه ، نستطيع ان نلحظ جملة من المعطيات التي حكمت العلاقة بين الاردن والمنظمة ، اهمها :
أ- ان هذه العلاقة ، ومنذ الصدام المؤلم في العام 1970 ، نجحت على الدوام في التغلب على ما صادفها من عقبات وتأزمات ، اذ تمكن الجانبان في كل مرة من احتواء خلافاتهما والعودة مجددا الى مائدة التنسيق والتعاون .
ب- ان الاردن ، لا يمكن ان يكون الا في موقع المراقب عن كثب لمجريات الوضع غربي النهر ، والمصائر التي ستنتهي اليها اول تجربة استقلالية فلسطينية ... وهو ايضا لا يمكن ان يكون الا في موقع المتحسب لانعكاسات هذه التطورات على جبهته الداخلية ... على امنه واستقراره الوطنيين - على سلامة وحدة شعبه الوطنية ، خصوصا وان نصف سكانه على الاقل هم من منبت فلسطيني .
ج- ان المنظمة ، لا يمكن الا ان تكون في موقع المراقب والمتحسب ايضا للدور الاردني ، ليست مدفوعة بهواجس التاريخ فحسب ، بل وبحسابات المستقبل كما تراه اسرائيل على الاقل ... وهي ايضا لا يمكن الا ان تكون في موقع المتأمل للخطاب الاردني الممزوج بـ " نبرة " الاسف لما حصل في 1974 ، حيث تحرص القراءة الاردنية لقرارات قمة الرباط على تقديم البعد العربي الاجماعي الضاغط على الاردن للتنازل عن تمثيل الفلسطينيين .
د- ان سلوك كل من الاردن والمنظمة لمسار تفاوضي منفرد مع اسرائيل ، وبالرغم من الطابع الموضوعي لهذا السلوك ، الا انه ولّد لدى كل فريق احساسا بالتحسب مما يمكن ان يقدم عليه الفريق الآخر ، و تعطي الاتفاقات الاقتصادية الموقعة بين اسرائيل والاردن والمنظمة كل على حدة ، نموذجا عن ذلك ... وكذلك الحال بالنسبة لملفات اخرى اثارت وقد تثير الاحساس ذاته وتحديدا : القدس ، اللاجئون والنازحون ، المياه وغيرها ... الامر الذي لا تمكن معالجته الا بالعودة الى ميادين التشاور والتنسيق والعمل المشترك .
في البعد الوطني " الداخلي " للعلاقة:
بالرغم من تأكيد الميثاق على ضرورة الفصل بين البعدين الوطني والاقليمي للعلاقة الاردنية الفلسطينية ، وتشديده على عدم جواز الانتقاص من حقوق المواطنة وواجباتها ... وبالرغم من الاقرار المتكرر بضرورة ضمان فرص متكافئة لجميع المواطنين وصيانة مصالحهم المشروعة وحقوقهم التي كلفها الدستور ، الا ان هذا البعد الوطني في العلاقة الاردنية الفلسطينية ، قد تعرض للانتهاك والاهتزاز جراء سياسات وممارسات متراكمة اتخذتها الحكومات المتعاقبة والاجهزة والدوائر المرتبطة بها .
ويمكن القول ان جذر التجاوز المرتكب في هذا الميدان يعود بالاساس الى بدايات الوحدة الاردنية - الفلسطينية المتحققة في مفتتح النصف الثاني من القرن الجاري ، عندما اسقطت الهوية الفلسطينية في مشروع الوحدة ، وغابت فلسطين عن الجغرافيا والسياسة ، في حين كان يمكن لهذه الوحدة ان تكون اكثر ثباتا ورسوخا واكثر استجابة لتطلعات الشعـبين الشقيقين لو انها حفظت لكل منهما حقه بالاحتفاظ بهويته وشخصيته .
وجاء التطور اللامتكافئ بن الضفتين خلال الاعوام 1948 - 1967 ، ليعيد بين الحين والاخر الاعتبار للنزعات الاستقلالية ، وعمل قانون تفاوت النمو بين جناحـي المملكة الاردنية الهاشمية على ارساء الارضية الخصبة للافتراق اللاحـق.
ومنذ الصدام الدامي بين الدولة والثورة ، في العام 1970 بدأت ملامح سياسة جديدة تطل برأسها بقوة في اوساط النخب السياسية الاردنية ، وبدأنا نسمع بشعارات " اردنة " الاردن ، وصار " البعد الامني " لصيقا بقطاع كبير من ابناء الشعب الاردني الذي شكك بولائه وانتمائه فصار عرضة للاقصاء عن اجهزة الدولة ومؤسساتها ... عملا بنظرية اخذ بها الى حد كبير في الخمسينات والستينات ، ومؤداها تكريس القاعـدة الاجتماعية للنظام اعتمادا على منبت واحد ، في مواجهة حركة المعارضة التي اعتمدت بدورها على المنبت الآخر من الناحية الاساسية .
ومع تنامي الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج كان الاتجاه داخليا يسير نحو مزيد من " التمييز " بين ابناء البلد الواحد ، حيث ضرب باستمرار مبدأ تكافؤ الفرص ، وتعرضت حقوق كثير من المواطنين الدستورية للانتهاك .
وعندما جاء قرار فك الارتباط ، ودخلت المنطقة في عملية السلام عبر محطات مدريد ، اوسلو ، اعلان واشنطن ، المعاهدة ، طابا ، كانت الصورة تتكرس باطّراد : ثمة كيان فلسطيني قيد التشكل غرب النهر ... دولة اردنية تتجه لتكريس اعتمادها على منبت واحد ... وفك الارتباط بدأ يتسلل تدريجيا نحو الداخل حيث بات حضور الاردنيين من منبت فلسطيني يكاد يكون نادرا في مؤسسات الدولة واجهزته ومراتبها العليا ... وهو بالقطع ادنى بكثير من حضورهم الديموغرافي والاقتصادي .
وبدأ الانقسام يتكرس بين قطاع حكومي يعتمد منبتا معـينـا وقطاع اهلي تتركز فيه الفئة الاخرى ... ومع تضخم القطاع الحكومي بصورة لا تنسجم من احتياجات البلاد ، اصبح الاردن يتجه نحو دولة يرتبط بها معظم الاردنيين من اصل شرقي ، معيشيا وحياتيا ، وقطاعات اهلية من اردنيين من منبت غربي ... وبمعنى آخر صار دافع الضريبة ينتمي بالاساس الى منبت معين ، ومستهلكها على شكل رواتب ومخصصات ينتمي الى منبت آخر ، مع كثير من الاستثناءات والتداخلات بالطبع .
وترتب على هذه السياسية ، بروز عدة ظواهر في المجتمع الاردني ، لا يجوز التقليل من شأنها تحت أي ظرف من الظروف ، منها :
1- ان احساس المواطن الاردني من اصل فلسطيني بان مواطنته مهددة ومطاردة ، ولّد لديه ميلا متناميا للامبالاة والانسحابية ، والابتعاد عن العمل العام ... فهو خارج اجهزة الدولة ومؤسساتها بقرار خارج عن ارادته ... وهو في الوقت ذاته بعيد عن الممارسة السياسية غير الحكومية : اقباله ضعيف على الاحزاب والنقابات ، اسهامه في الحياة العامة في تراجع بدليل موقفه السلبي عموما حيال احداث نيسان 1989 ... وهو فوق هذا وذاك الاقل اقبالا على المشاركة في الانتخابات البلدية والبرلمانية ، ان سلوكه الى حد ما اخذ يقترب من سلوك الجالية ، وهذا عائد بالاساس الى سلسلة السياسات الحكومية المتّبعة . وقد ساهم نشؤ كيان فلسطيني غرب النهر الى خلق نوع من التعويض المعنوي الزائف لدى هذه الفئة العريضة من السكان ... فهي اذ ترقب نشؤ هذا الكيان يتملكها الاحساس بان هذه العملية تعوضها عن الدور المفقود هنا في الاردن ... بالرغم من عدم قيامها باي دور في مجريات العملية الجارية غرب النهر .
2- ترتب على هذه السياسات المتعاقبة والمتراكمة غياب النخب السياسية للاردنيين من اصل فلسطيني ، اذ طالما ان الدولة في الاردن هي من يفرز هذه النخب والقيادات السياسية ، فقد كان طبيعيا ان ينعكس ضعف تمثيل هذه الفئة من السكان في اجهزة الدولة الى تراجع عملية تجديد نخبها السياسية ، الامر الذي ساهم بدورها في تعميق حالة اللامبالاة والانسحابية لديها ، هذا من جهة . ومن جهة ثانية فان الانهيار المتلاحق لاحزاب ما كان يعرف بـ " حركة التحرر الوطني العربية " وامتداداتها في الاردن من شيوعين وقوميين وبعثيين ، والانتكاسات المتلاحقة التي منيت بها التجربة عموما والمعارضة على وجه التحديد ، قد ساهمت بدورها في اضعاف عملية اعادة الانتاج الموسعة والبسيطة للنخب السياسية والقيادية لهذه الفئة .
3- ترتب على هذه السياسات بروز مظاهر للشكوى والانتقاد متبادلة لدى طرفي المعادلة الداخلية في التكوين الديموغرافي الاردني ، فالاردنيون من اصل فلسطيني تتماهى لديهم النظرة للاردنيين من اصل اردني بالنظرة الى جهاز الدولة ، وهذا امر غير صحي وغير مرغوب فيه ، فيما ينظر لتركز قطاع الاعمال في يد الاردنيين من اصل فلسطيني بوصفه واحدة من المشكلات التي تعوق الانصهار والتوحد .
4- وترتب على هذه السياسات ايضا ، وما رافقها من نشاط دعائي لتبريرها وتسويقها ، ان تعززت مظاهر الشك بولاء الاردنين من اصل فلسطيني واخلاصهم ... وبات التعاطف مع ما يجري غرب النهر وعلى صعيد القضية الفلسطينية عموما مدعاة للقلق وسببا لتحوّل الفرد الى حالة امنية .
5- وتأسس على ذلك كله ان بدأت ملامح القاعدة الاجتماعية التقليدية للحكم في الاردن بالتغيير ، فالمعارضة اليوم لم يعد يغلب عليها ، كما السابق ، منبت دون اخرى ، والفئات الاجتماعية التي شكلت تاريخيا قاعدة للحكم بدأت تحت ضغط ظروف عديدة تغزوها عوامل تغيرية عديدة ، كما بدأت اقسام منها تتجه للابتعاد عن منطق الولاء التقليدي المحسوم ، الى الولاء المشروط ، والمرتبط بالمواقف والسياسات في ابعادها المختلفة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
من بين هذة الظروف / الاسباب الكامنة وراء هذا التحول - وربما اهمها - عجز مؤسسة الحكم عن توفير نظام امتيازات وظيفية جراء تراجع الموارد الخارجية للموازنة العامة من جهة ، وتآكل القيمة الشرائية لرواتب 400 الف موظف ومتقاعد ( 10 من السكان ) يرتبط بها معيشيا قرابة نصف سكان الاردن ، اذا افترضنا ان المعدل الوسطي للاسرة الاردنية خمسة افراد ، وهذة بالطبع ارقام تقديرية ، بحاجة للتدقيق والتمحيص ، وعدم قدرة الدولة على الاستمرار بالاضطلاع بدور اكبر رب عمل في البلاد بفعل افتقارها للمساعدات السهلة التي طالما سخرت اجزاء منها لتغطية الانفاق الجاري للحكومة .
ويطرح ذلك التطور تحديا من نوع اخر على الحكم في الاردن ونحن في مختتم القرن العشرين ، واعني به تحدي تجديد القاعدة الاجتماعية للحكم وتوسيعها من خارج الاطر التقليدية للمجتمع ، والاعتقاد لدي بان جملة التطورات التي شهدها المجتمع الاردني خلال العقود الفائتة تسمح بتحقيق مثل هذة القفزة التجديدية اذا توفر الوعي والارداة السياسية لذلك ، دون ان يعني ذلك للحظة التقليل من شأن التراكمات التي ترسبت على مدى عقود واجيال ، او المصاعب التي تعترض عملا من هذا النوع ، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة ، التي بدأت تعصف بالطبقة الوسطى في مجتمعنا ، والتي من المفترض ان تشكل ركيزة الاستقرار والوسطية والعقلانية .
نظرة الى المستقبل :
ليس من السهل على المراقب لمجرى تطور العلاقة الاردنية الفلسطينية في بعديها الوطني والاقليمي ان يرسم مخططا جاهزا للمسار الواجب اتباعه لتجسيد " حالة التميز والخصوصية " التي تتسم بها ، لكن مع ذلك يمكن التأشير الى بعض من القواعد / المبادئ التي يتوجب ان تحكم هذة العلاقة في بعديها المذكورين :
اولى هذة القواعد ، لا تقتضي فقط الحيلولة دون امتداد فك الارتباط من الخارج الى الداخل ، بل والعمل لجعل البعد الوطني لهذة العلاقة نموذجا جاذبا وليس منفرا لبعدها الاقليمي ، فالصورة التي يبني فيها مجتمعنا وحدته الوطنية ، يمكن ان تدعم او تعرقل الجهود التي يبذلها المخلصون للعلاقة الاردنية الفلسطينية من اجل مستقبل وحدوي من " طبيعة ما بين " الاردن وفلسطين .
ثانية هذة القواعد ، لا يجوز بحال ان يرتهن حل الاشكاليات ذات الارتباط بالبعد الداخلي للعلاقة بترتيبات الوضع النهائي للقضية الفلسطينية ، وبالصورة التي ستتخذها العلاقة بين الاردن وفلسطين مستقبلا .
فالاردنيون من اصل فلسطيني هم مواطنون في هذة الدولة لهم حقوق وعليهم واجبات لا يجوز الانتقاص منها / سواء قرر بعضهم العودة الى وطنه الاصلي اذا ما حلت القضية الفلسطينية او البقاء في الاردن ، في الحالة الاولى تسقط حقوق المواطنة بالعودة ، اما في الحالة الثانية فالمواطنة قائمة بما لها وما عليها .اما المخاوف المشروعة من مغبة تزايد اعداد الفلسطينيين في دولة الوحدة ، فهذة يمكن تبديدها بقوانين وتشريعات دستورية تكلف التكافؤ والتوازن واحترام الهويات والشخصيات .
ثالثة هذة القواعد ، ومؤداها ان أي نظرة لمستقبل العلاقة بين الشعبين ، ينبغي ان تتجاوز حكما تجربة الوحدة الممتدة بين النكبة والنكسة ، فقد جرت مياه كثيرة في نهر العلاقات الثنائية منذ ذلك الزمن ، واي علاقة يجب ان تلحظ الهويتين معا دون تمييز او انتقاص او تغييب او تغليب او مصادرة .
مواطنوا الدولة من اصل فلسطيني هم مواطنون بكل ما للكلمة من معنى وما يترتب عليها من حقوق وواجبات ، هم ليسوا مجموعة من اللاجئين الذين منحوا الجنسية الاردنية ، مواطنتهم مستمدة من قرار وحدة الضفتين بعد النكبة ، بخلاف الحال مع الدول العربية الاخرى المستضيفة للاجئين ... انضمامهم الى الممكلكة الاردنية الهاشمية ، جاء كثمرة لوحدة شارك فيها الفلسطينيون بارضهم وقدسهم الشريف - درة العواصم العربية - ، ضياع الضفة والقدس في العام 1967 ليس مسؤوليتهم ... واليوم بعد ضياع الارض لايجوز ان تخضع مواطنتهم للمراجعة باثر رجعي ... لا يجوز وضعهم من الان امام الاختيار بين المواطنة الراهنة اوحق العودة الملتبس ... من الطبيعي ان يختار المرؤ الراهن على قاعدة " عصفور باليد " مقابل مستقبل غامض وغير معروف " عشرة على الشجرة " ... ولا ادري لمصلحة من ، ان تأتي نتيجة هذا الاختيار : تخلي الفلسطينيين عن حقوقهم في العودة حتى تصبح مواطنتهم كاملة ... اليس هذا ما يريده بينيامين نتنياهو : تخلي الفلسطينيين عن حق العودة وتوطينهم حيث يتواجدون ؟
رابعة هذة القواعد ، طالما ان بناء الكيان الفلسطيني المستقل هو مطلب استراتيجي للشعب الفلسطيني يتصدر جدول اولوياته الوطنية ، فان المهمة الاولى على جدول اعمال الشعبين هي تعزيز فرص التعاون والتنسيق وصولا في نهاية المطاف الى صياغة الشكل الانسب للوحدة ، وليس في ذلك اية مفارقة او تعارض ، فالوحدة الاردنية الفلسطينية كي تتحقق ، تشترط مسبقا وجود كيان فلسطيني يستوعب التطلع الفلسطيني المتشوق لحلم الاستقلال وتقرير المصير .
خامسة هذة القواعد, ومؤداها السعي لتكريس المنجز الديمقراطي على ضفتي النهر ، فالوحدة حتى تقوم وتستمر يجب ان تبنى على قاعدة من التعددية واحترام حقوق الانسان والديمقراطية ، وكلما قطعنا شوطا ابعد على هذا الطريق كلما امكن ضمان ان يكون الاختيار الشعبي حرا ومستقلا وثابتا ، وكلما امكن توفير السبل والاليات لحل اية اشكالات وعراقيل تجابه تجربة الوحدة ، وكلما امكننا تجنيب هذة العلاقة الخاصة والمتميزة اخطار الاهتزاز عند كل منعطف سياسي او تباين في الاجتهاد والمصلحة .
وعندما نعني تعميق التجربة الديمقراطية ، فاننا لا نتحدث هنا عن تعديلات شكلية بل عن دستورية جوهرية على ضفتي النهر ، بحيث تمكّن من صياغة تجربة متقدمة تحاكي المنجز الديمقراطي المتطور للاخر : للتجربة الاسرائيلية .
* مدير مركز القدس للدراسات السياسية
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة