A+ A-
السودان: الفترة الانتقالية الجارية وبناء الدولة الوطنية
2007-03-25
مقدمة:

شهد السودان خلال الخمسين عاماً الماضية ثلاث فترات انتقالية، الفترة الأولى فترة الحكم الذاتي 53-1956م التي بدأت بانتخابات 1953 وانتهت بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في مطلع عام 1956م (حسب الاتفاقية البريطانية المصرية 12/2/1953) وكانت تستهدف تمهيد الطريق لتحقيق الاستقلال ووضع الأسس المطلوبة لبناء الدولة الوطنية السودانية الحديثة. ولكن القوى السياسية والاجتماعية المسيطرة، التي قادت الحركة الوطنية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت علي سودنة الإدارة البريطانية وجلاء قوات الاحتلال ومن ثم وراثة الدولة الكولونيالية، كما هي دون أي تغيير في بنيانها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولذلك تجاهلت قضايا الديمقراطية والوحدة الوطنية والتنمية الشاملة والمتوازنة.

وبرز ذلك أولاً في تجاهلها لمطالب الجنوب في الحكم الفيدرالي والمحافظة علي خصوصيته الثقافية،رغم وضوح مطالبه في مؤتمر جوبا 1947،و استمرار توتر الأوضاع في المديريات الجنوبية وتدهور العلاقة مع السياسيين الجنوبيين طوال فترة الحكم الذاتي وتفجر تمرد الفرقة العسكرية الجنوبية في أغسطس 1955 قبيل خروج القوات البريطانية من البلاد.
وبرز ثانيا في تمسكها بالديمقراطية الليبرالية ممثلة فى النموذج البريطانى كأسلوب للحكم، دون أي محاولة لتطويرها وربطها باحتياجات وخصائص الواقع السوداني.
ووضح ثالثا في طرحها لشعار (تحرير لا تعمير) وبالتالي إفراغ الاستقلال السياسي من مضمونه الاقتصادي الاجتماعي... وكان يمكنها في كل ذلك الاستفادة من تجربة حزب المؤتمر الهندي بقيادة غاندي /نهرو- وهي تجربة كانت معروفة في أوساط النخبة السياسية وكان لها تأثيرها المباشر في الحركة الوطنية منذ النصف الثاني لثلاثينات القرن الماضي وفي تجربة مؤتمر الخريجين بشكل خاص. ونتيجة لكل ذلك ظلت القوى السياسية والاجتماعية المهيمنة تركز علي صراعاتها مع بعضها حول السلطة وصراعاتها في مجموعها مع الحركة الجماهيرية الديمقراطية و الحركات الإقليمية، في نفس الوقت، وتتجاهل تماما قضايا بناء الدولة الوطنية الحديثة والموحدة. وفي ذلك يشير بيتر ودوارد إلى أن فترة الحكم الذاتي كانت تمثل تلخيصاً مكثفا لصراعات ومناورات ومكايدات هذه القوى طوال فترة ما بعد الاستقلال اللاحقة (السودان: الدولة المضطربة) وربما حتى الآن.

 ومن خلال هذه الصراعات ونتيجة لها جاء الانقلاب العسكري الأول (17/11/1958) وبالتالي إدخال البلاد في دوامة حلقة شريرة مفرغة بين الانقلابات والانتفاضات والحكم الديمقراطي المدني. ومن هنا نبعت فكرة البحث عن بداية جديدة تضع الأساس لتسوية وطنية شاملة تضمن وحدة البلاد ومشاركة الجميع في تقرير مصيرها. ولذلك جاءت الفترة الانتقالية الثانية بعد ثورة 21 أكتوبر 1964 والفترة الثالثة التي أعقبت انتفاضة مارس/ابريل 1985.

وتميزت هاتان الفترتان بصعود قوى سياسية جديدة مؤثرة في الشمال والجنوب علي السواء طرحت قضايا الإصلاح السياسي بشكل واسع وعميق، وخاصة قضايا الدستور القومي، والحل السلمي الديمقراطي لمشكلة الجنوب، وتغيير التركيبة الكولونيالية للدولة، والتنمية الشاملة والمتوازنة. ولكنهما لم تنجحا في تحقيق تلك الأهداف نتيجة لظروف ذاتية وموضوعية، وخاصة إصرار القوى المهيمنة والمسيطرة علي الدولة والمجتمع علي إبقاء الأوضاع القائمة كما هي ومقاومة أي توجه للإصلاح السياسي، بدعاوى حماية الوحدة الوطنية والدستور الإسلامي. وبرز ذلك، بشكل صارخ، في تحرك هذه القوى لإسقاط حكومة ثورة أكتوبر الانتقالية بعد شهور من تكوينها، وفي سيطرة المجلس العسكري الانتقالي علي الفترة الانتقالية الثانية. وأيضا في تحرك الجبهة الإسلامية القومية وقيامها بانقلاب 30 يونيو 1989 لإجهاض التجربة ...

-كلمة الأستاذ محمد علي جادين في ورشة عمل الاصلاحيون العرب وبناء شبكات والتحالفات