A+ A-
قراءة في تطور العلاقات السورية العراقية في عهد الرئيس بشار الأسد
2001-01-04

موسى فوده

الهدوء الذي يلف عودة العلاقات السورية العراقية وتدريجية هذا التطبيع يشيران إلى رغبة البلدين في طي صفحة الماضي ، وترسيخ العلاقات بينهما وفق أسس علمية تعكس مصالح البلدين المشتركة بعيدا عن الطروحات العاطفية الدافئة بالشعارات القومية ، ويلحظ المراقبون تقلص دور الايديولوجيا في خطابهما السياسي ، وتركز الخطاب الإعلامي على تقاطع المصالح المشتركة .وفي ذات الوقت يأخذ السوريون بعين الاعتبار الخطوط الحمراء المتعددة التي تحيط بهذه العلاقة ، خاصة وأن هذا الانفتاح السوري يعد انقلابا على التحالف الذي ضمها إلى جانب دول التحالف في حربها مع العراق ، ولن تمرره بهدوء بعد تزايد المؤشرات الدالة على فشل سياسة الولايات المتحدة في الاحتواء المزدوج للعراق وإيران ، واضعافه لمواقف "الدول المعتدلة " التي باتت في مرحلة الدفاع .

وشهدت أوائل أكتوبر تحركات للقوات العراقية باتجاه الحدود السورية مما دق ناقوس الخطر ووصفتها جهات عدة على أنها استعداد عراقي للدخول في الحرب دفاعا عن سوريا بعد التهديدات التي أطلقتها محذرة سوريا ولبنان عقب أسر حزب الله لثلاثة من الجنود الإسرائيليين وأحد جواسيسهم .ويكاد يجمع المحللون على أن مؤشرات التقارب السوري العراقي أشعلت الحملة الإعلامية الإسرائيلية الأمريكية ضد سوريا نظرا لما قد تحمله في المستقبل من تطورات ليس اقلها تكاملا اقتصاديا عراقيا سوريا لبنانيا مع تحييد أو مغازلة الأردن وإيران وتركيا ، وأخطرها أن تؤدي هذه التطورات إلى إفراز جبهة عريضة تمتد من إيران إلى البحر الأبيض في مواجهة إسرائيل خصوصا بعد استعراض الرئيس العراقي لملايين المتطوعين لمحاربة إسرائيل .


ثوابت ومتغيرات

عندما كان كلود شيسون وزيرا للخارجية الفرنسية وصف الرئيس حافظ الأسد بأنه " صاحب فلسفة الثوابت والمتغيرات السياسية الواقعية ".
ولعل أهم درس أعطته مسيرة العملية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين من جانب وبين الإسرائيليين والأردنيين من جانب آخر لصانع القرار في دمشق أن السلام وبدون أوراق تفاوضية قوية داعمة لن يتمخض على طاولة المفاوضات إلا عن سلسلة من التنازلات ، يعقبها لدى دخولها حيز التنفيذ تنازلات مضاعفة حتى عن تلك التي يتم التوقيع عليها على الطاولة ، ولهذا يعمد السوريون إلى تصليب أوراقهم أمام معركة السلام القادمة ولا ريب فيها .

وفق المتغيرات السياسية يتجه السوريين منذ أمد ليس ببعيد إلى انفتاح على خصوم الأمس (العراق ) ، وفي ثوابتهم يواصلون تمسكهم بالملف اللبناني والذي يأتي في المقام الثاني في سلم الأولويات بعد الجولان ، ويتمثل هذا التمسك بدعمهم لحلفاءهم الاستراتيجيين والممثلين بالسلطة اللبنانية وحزب الله ، هذا إلى جانب مواصلة عرى الصداقة مع الحليف الاستراتيجي الإيراني الذي يصفهم (41) ب "رأس الحربة في مقاومة إسرائيل "، كما ويسعون للحفاظ على عرى التنسيق المصري السوري السعودي كصمام أمان ومرجع رئيسي عند المنزلقات الخطيرة التي قد تعترض الدبلوماسية السورية ، ذلك التنسيق الذي اعتبره رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري(42) بأنه " أحد أهم الوسائل للاستقرار في المنطقة ويشكل مثلث دعامة الأمان العربي ".

معركة المتغيرات السياسية

من خلال المتغيرات السياسية تعمد السوريون إلى جس النبض الإسرائيلي والأمريكي من خلال الإفصاح عن نواياهم باستغلال هذه المتغيرات ، وتخطي المحظور بالتقارب مع العراق والاستفادة من نفطه ، والتغاضي عن عمليات حزب الله في مناطق شبعا اللبنانية .
وفي معركة المتغيرات السياسية هذه يحرص السوريون على الموازنة بين مصالحهم في الانفتاح على العراق وتصادمها مع مقررات مجلس الأمن الخاصة بالملف العراقي . ويرجح السوريون أنه آن الأوان لمراجعة القرار 986 والمتعلق بالنفط مقابل الغذاء وبالتالي فرض معبر إضافي ثالث للنفط علاوة على مينائي البكر العراقي وجيهان التركي ، انطلاقا من الضغوط المترتبة على تزايد أسعار النفط وتزايد الحرج الأمريكي أمام هذا التزايد والذي يقلص من جملة المتشبثين بعباءتها . ناهيك عن تأجج الحملة الشعبية في المنطقة ضد موقف الراعي الأمريكي لعملية السلام و المتساوق مع السياسة الإسرائيلية جملة وتفصيلا في اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني .

وقد اعتبرت مصادر مطلعة (1) أن " تصعيد حزب الله كان بموافقة سورية لاختبار باراك بعد الانسحاب من لبنان ، وفعلا اختبروه وامتحنوه لكنه فشل في الامتحان ، وهكذا صاروا يقولون الآن بأن باراك ليس سوى ضجيج فارغ ".
من هنا يعتبر المراقبون أن الإدارة الأمريكية لخصت في رسالة " كلنتون إلى الأسد " ردها على الموقف السوري الداعم لحزب الله والمتقارب مع العراق ، تلك الرسالة المذيلة بتوقيع الصحفي الأمريكي اليهودي توماس فريدمان (2) والتي جاءت بعد تلك التي تهدد فيها مصر تحت عنوان "من كلنتون إلى مبارك " عشية فشل قمة كامب ديفيد ، والتي تستوحي رؤيتها من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين خلال الشهرين الفائتين ، والمتتبع يكتشف انسجامها نصا وروحا مع هذه التصريحات التي تلخص الخطوط الحمراء .

مبررات توقيت الاجهار بالعلاق

يرجح بعض المراقبين أن اندلاع الغضب الفلسطيني في انتفاضة الأقصى أعطى الضوء الأخضر للسوريين لتخطي المحظور في عمقهم الاستراتيجي الطبيعي تاريخيا ، وهو علاقتهم مع العراق ، وأن القضية الفلسطينية كانت وما زالت مفتاح المتغيرات في المنطقة لما تحمله في رحمها من أجنة التراث القومي والديني الذي يتغلغل في عقول العرب .فقد خلقت الانتفاضة حالة شعبية معادية للنفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة لم تشهدها منذ مرحلة سبات القومية العربية في السبعينيات على اثر توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل .وأنه آن الأوان لاقتناص هذه الإفرازات خصوصا بعد مرور عقد على حرب الخليج ، والذي أعقبها تضعضع الدور الإقليمي السوري ، مع تزايد النفوذ الأمريكي البريطاني ودخوله حيز التواجد العسكري الفعلي في المنطقة ، ولم تعد العلاقة السورية الخليجية بمثابة صمام أمان خليجي في مواجهة الطموحات الإيرانية و لعراقية في الخليج .

وباتت هذه المستجدات تلح على القيادة السورية لاتخاذ جملة من التغييرات التكتيكية للحفاظ على هذا الدور ، ومنها فتح الملف العراقي بصورة مغايرة عما شهده العقدان الفائتان ، فقد سبق للرئيس الراحل حافظ الأسد أن نسج خيوط هذا التوجه ، وارسى قواعده لخليفته وأجاد الصنع بترك بعض الملفات الداعمة لاستمرار نهجه وفق المتغيرات مع الحفاظ على الأسس والثوابت السورية.

وذكرت مصادر مطلعة(47) في دمشق بأن الرئيس حافظ الأسد كان أول من طرح عام 1996 حضور العراق للقمة العربية التي عقدت في ذلك العام ، ولكنه جوبه بموقف الذين طالبوه بالتريث لعدم ملائمة الظروف ، وتعتبر هذه الأوساط بأن ذلك كان وراء عدم استضافة دمشق قمة عربية أخرى كما اتفق آنذاك .

ولا شك أن معركة زيادة أسعار النفط تسهم في تقليص النفوذ الأمريكي لما يحمله من بوادر تتهدد سياستها ويسهم في فصل مصالحها عن غيرها من البلدان ، والفرصة سانحة في المن