A+ A-
التفاعل الإيجابى بين النظام الإسلامى لحقوق الإنسان والنظام الدولى لحقوق الإنسان
2006-05-28
مقدمة:

غياب الإسلام غير المبرر عن الساحة الدولية لحقوق الإنسان
يعترف النظام الدولى حالياً بأربعة أنظمة حقوق إنسان وهي : النظام الدولى لحقوق الإنسان (المضمون الفكرى للنظام الدولى) والنظام الأوربى والنظام الأمريكى والنظام الأفريقي. وجميع تلك الأنظمة تتمتع بالمقومات الأساسية المطلوب توافرها في أى نظام حقوق إنسان وبصفة خاصة :-
(1) وجود مبادئ ومعايير محددة وتتمتع بقبول عريض ومنصوصاً عليها في صكوك ملزمة أبرمتها الدول الأطراف في النظام المعين.
(2) وجود آليات لمتابعة ورصد تنفيذ تلك المبادئ والمعايير على أرض الواقع.

ولاشك أن الأديان والإسلام بصفة خاصة يتضمن نظاماً متكاملاً لحقوق الإنسان من حيث المبادئ والمعايير ومن حيث آليات التنفيذ على النحو الذى سوف نوضحه لاحقاً ولا غرابة في ذلك لأنها منزلة من لدن حكيم خبير. ولكن الذى يحزّ في النفس أنه على الرغم من ذلك الإرث الفكرى الضخم لم يتمكن المسلمون بصفة خاصة حتى تاريخه من بلورة ميثاق إسلامى شامل لحقوق الإنسان سوى اعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الذى صدر عام 1990 والذى لا يستطيع أى مسلم أن يدعى أنه تتوافر فيه المقومات الأساسية المشار إليها أعلاه.

ولقد ظل ذلك الأمر يقلقنى فترة ليست بالقصيرة ولذلك فقد أصدرت عام 2000 كتاباً يدعو إلى تفاعل ايجابى بين النظام الدولى لحقوق الإنسان والأديان عموماً. ويهدف ذلك الكتاب إلى بلورة نقطة انطلاق نحو صياغة ميثاق إسلامى لحقوق الإنسان اعتماداً على اعتراف النظام الدولى لحقوق الإنسان صراحة في المواثيق الدولية بأنه نظام حد أدنى، وأنه يعترف بأي نظام آخر يوافر حداً أفضل من ذلك الحد الأدنى . ليس ذلك فحسب بل إن النظام الدولى لحقوق الإنسان يعترف بالحرية الدينية حقاً أساسياً من حقوق الإنسان. ونقطة الإنطلاق التي ندعو لها هي تواضع المسلمين على أن النظام الإسلامى لحقوق الإنسان يستوعب النظام الدولى لحقوق الإنسان ويضيف اليه الكثير عدا بعض الجزئيات الخلافية البسيطة التي يمكن معالجتها عن طريق التحفظات أو التسامح وقبول الآخر. وبصورة أكثر تحديداً فإن النظام الإسلامى لحقوق الإنسان حسب الرؤية التي ندعو لها هو نظام يتعايش مع التجربة الدولية لحقوق الإنسان ويثريها، ولكنه لا يهدمها ويقوم على انقاضها كما يذهب البعض مما جعل غير المسلمين ينظرون له بعين الريبة والشكوك.

وفيما يلى نستعرض بإيجاز عدداً من الموضوعات التي تتعلق ببلورة حقوق الإنسان من منظور الإسلام إثراءً للنظام الدولى لحقوق الإنسان. وفي ذات الوقت فإننا سوف نحاول من خلال تلك الموضوعات توضيح بأنه ليس هنالك ما يعوق بلورة حقوق الإنسان في الإسلام من وجهة نظر القانون الدولى لحقوق الإنسان، وأنه ليس هنالك ما يعوقها من حيث المقومات الأساسية كما سبق أن أوضحنا، ولكنها تتطلب جهداً كبيراً من المسلمين يتجاوز الخطابة ترديداً لأمجاد الماضى الإسلامى التليد، الذى لاينكره أحد، ومهاجمة لكل التجارب والإرث الدولى حتى ولو توافق مع منظور الإسلام. ولاشك أن اسلوب المواجهة وللأسف الشديد يجد القبول لدى عدد من المسلمين، ولكن من المؤكد أن ذلك الإسلوب لا يخدم قضايا الإسلام والمسلمين، ولابد من أن ينتفض المسلمون تطبيقاً لذلك الماضى التليد في حياتهم اليومية حفظاً لحقوق الإنسان وحماية لها، وفي ذات الوقت تقديم المنظور الإسلامى لحقوق الإنسان في لغة وصياغة يفهمها غير المسلم حتى يستفيد منها كما حدث في بادرة فريدة من نوعها حينما اقتنع المجتمع الدولى بنظام كفالة الأطفال في الإسلام وتم تضمينها المادة 20 من اتفاقية حقوق الطفل. وبذلك نتجاوز المشكل الذى عبر عنه الاستاذ خالد زياد والذى يتمثل في أن المسلمين يرون أن المنظور الإسلامى لحقوق الإنسان التزاماً، وفي ذات الوقت يرونه حلاً لمشاكل العصر، في حين يرى كثير من غير المسلمين أن المنظور الإسلامى لحقوق الإنسان يتنافى مع الحداثة والتطور.

اولاً:
الأديان السماوية وكريم المعتقدات هي أساس حقوق الإنسان : إن النظام الدولى لحقوق الإنسان على النحو المفصل أدناه عبارة عن مجموعة من القيم الأخلاقية الكريمة التي وردت في الأديان السماوية وكريم المعتقدات. ولقد تواضعت دول العالم على تلك القيم وعلى عالميتها وأسست عليها النظام العالمي لحقوق الإنسان الذى وضع لبناته ميثاق الأمم المتحدة عام 1945. ولو كان الأمر غير ذلك لما جاز لحقوق الإنسان ان تشكل قيداً على المشرع سواء كان ذلك على المستوى الوطني أو المستوى الدولي. ولكن حرص الفكر الغربى حتى يومنا هذا على النأي بحقوق الإنسان عن الأديان وذلك بسبب تجربة الغرب السالبة عندما تم إستغلال الدين لمنح الشرعية لتجاوزات الملوك والأباطرة وامراء الإقطاع. ولذلك نلاحظ بأن ميثاق الأمم المتحدة وصكوك الشرعة الدولية لحقوق الإنسان قد تمت صياغتها لتعبر عن ذلك الموقف. ولذلك نجدها تنص صراحة على أن مصدر حقوق الإنسان هو كرامة الإنسان (dignity) دون الاشارة إلى خالق الإنسان.

ومما لاشك فيه ان الأديان السماوية وكريم المعتقدات هي الأساس الفكرى والأخلاقي لحقوق الإنسان، وهي التي تعضد مشروعيتها وتعطي المبرر لعالميتها التي تتجاوز الحدود السياسية والسيادة الوطنية. ونوضح في ذلك الصدد بأن أصول وقيم كل الأديان السماوية واحدة في منظور الدين الإسلامي حيث ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبُر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب((5). وقوله تعالي : )إن هذا لفي الصحف الأولي * صحف إبراهيم وموسي( (6). وقوله تعالي : )إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (7).

ونشير بصفة خاصة الي ان مصدر كرامة الانسان في الأديان السماوية واضح بصورة لا لبس فيها ولاغموض مثال ذلك قوله تعالي في القرآن الكريم : (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم علي كثير من خلقنا تفضيلا) (8). وكما هو واضح فان الآية تشير الي "بنى آدم" وليس الانسان أو الاسرة الدولية كما ورد في المواثيق الدولية . ولاشك أن تلك الاشارة فيها عمق ومعانى كبيرة من بينها ان جميع البشر اخوة من اب واحد . وكذلك فيها عدم التفرقة بين الرجل والمرأة ، والمساواة المطلقة بين الناس دون اعتبار للعرق أو اللون أو خلافه .

ثانياً:
الأبعاد الايجابية التي يضيفها الإسلام للنظام الدولى لحقوق الإنسان
بالإضافة الى عمق ولطف الاشارة القرآنية لكرامة الإنسان على النحو الذى أشرنا إليه أعلاه فإن تفعيل البعد الديني لحقوق الإنسان يفرز العديد من الايجابيات والتي تشمل :-
(1) توسيع نطاق كل حق من حقوق الإنسان، مثال ذلك أن الحق في الحياة في المواثيق الدولية يوسع نطاقه المفهوم الإسلامى بأن: (من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) كما ورد في الآية 32 من سورة المائدة.
(2) تعميق الالتزام بالحقوق والحريات لأنه سوف يجد وازعاً دينياً للالتزام بها اضافة إلى الالتزام القانوني.
(3) وجود العقوبة الأخروية في الأديان يجعل الإلتزام بحقوق الإنسان لا يعتمد على وجود آليات الرقابة الدولية والوطنية وحدها.
(4) تنص الأديان على حقوق جديدة لاتوجد في المواثيق الدولية مثل حقوق الوالدين وحق الجار وفي ذلك إثراءٌ كبير للنظام الدولى لحقوق الإنسان.
(5) تتضمن الأديان كذلك مفاهيم كلية جديدة، ففي مجال القانون نلاحظ أن اقصى ما استقر عليه النظام الدولى لحقوق الإنسان هو مفهوم "سيادة حكم القانون"، ولكن الأديان السماوية تستوعب ذلك المفهوم وتطرح مفهوماً أشمل وهو مفهوم " العدالة".

ثالثاً:
الاستفادة من المنابر الدولية لحقوق الإنسان توافر الأبعاد الإيجابية للأديان والإسلام بصفة خاصة التي سبق ذكرها رؤية عملية ايجابية تتجاوز مفهوم حوار الحضارات الى مفهوم تحالف الحضارات لدعم وتوسيع نطاق النظام الدولى لحقوق الإنسان، وينبغى طرح تلك الرؤية خلال اجتماعات مناقشة التقارير الدورية للدول التي تقدم بموجب مواثيق حقوق الإنسان الدولية المختلفة، وكذلك خلال اجتماعات المحافل الدولية التي تعمل على صياغة معايير جديدة لحقوق الإنسان أو على تعديل المعايير السائدة وذلك للتأثير الإيجابي على النظام الدولي لحقوق الإنسان، خاصة وأن المجتمع الدولي الذي اعتبر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 هو المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تسعى شعوب العالم لبلوغه سرعان ما اكتشف ان ذلك الجهد الفكري البشرى يقبل التطوير بالحذف والإضافة والتعديل. ولذلك لم يكد يجف المداد الذي كتب به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حتى ظهرت الحاجة إلى مواثيق حقوق انسان اضافية تعيد ترتيب الحقوق والحريات التي وردت به وتفصلها وتضيف اليها وتعدلها، مما جعل النظام الدولى لحقوق الإنسان نظام حد أدنى كما سبق أن أوضحنا. ولذلك فاننا نرى أنه توجد قابلية لدى النظام الدولي لحقوق الإنسان للاستفادة من اي تصور يؤدي إلى تقوية حقوق الإنسان، وانه لابد من العمل على استغلال تلك القابلية.

إن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تمثل في تقديرنا جهداً بشريا مقدراًً، ولكن ذلك الجهد البشرى قاصر بطبيعته، وسوف يظل قاصراً، ويقع العبء الأكبر على أصحاب الديانات لتكملة ذلك النقص. ولكننا في ذات الوقت يجب أن لا نغفل التجربة الغربية التي تجعل الغرب يتخوف من استغلال الدين على النحو الذى سبق أن أوضحناه والذي ليس له مثيل في التاريخ الإسلامي. وفي تقديرنا أنه يمكن تجاوز ذلك التخوف عن طريق تحالف حضارات يؤكد دور الدين الإيجابى في دعم حقوق الإنسان وذلك من خلال مقترحات محددة لتعديل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تؤكد رفض استغلال الدين على نحو ما حدث في العصور الوسطي في أوربا. وعلى الرغم من طول ذلك الطريق ومشقة السير فيه إلا أننا نرى أن أي خطوة تتخذ فيه هي خطوة في الاتجاه الصحيح، وهو اتجاه التحالف بين الحضارات؛ ولكنه يجب ان يكون تحالفاً عملياً من خلال المحافل الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان حتى يكون له مردود عملي ملموس يتمثل في اثراء المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

رابعاً:
الاســتفادة من ديمقراطيـة اتخــاذ القرار في الآليات الدولية لحقوق الإنسان: ومما يسهل التفاعل الايجابى بين النظام الدولي لحقوق الإنسان والأديان السماوية خاصة الإسلام، على نحو ماذكرنا، ديمقراطية آليات النظام الدولى لحقوق الإنسان، والتي مكّنت الجماهيرية الليبية من رئاسة لجنة حقوق الإنسان بجنيف فى احدى دوراتها. وتتوافر تلك الديمقراطية بصفة خاصة في العديد من آليات الأمم المتحدة خاصة الجمعية العامة والمجلس الاقتصادى والاجتماعى واللجنة الثالثة للجمعية العامة ولجنة حقوق الإنسان بجنيف.

وبالإضافة إلى ديمقراطية آليات النظام الدولى لحقوق الإنسان التي تمكن من التفاعل الايجابى مع النظام الدولي لحقوق الإنسان، نشير كذلك إلى جانب هام آخر وهو ان ذلك النظام يوافر في كثير من الحالات فرصاً كبيرة لتعديله واعادة النظر فيه كما ورد صراحة في العديد من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

خامساً:
الخصوصيات :
إن التخوف من أنّ النظام الدولي لحقوق الإنسان سوف يؤدى إلى ضياع الخصوصيات خاصة الدينية والثقافية؛ فإنه تخوّف غير مبرر لأن تلك الخصوصيات قد تم الحفاظ عليها في العديد من المواثيق الدولية. مثال ذلك النص صراحة على احترام حرية الآباء في أن يؤمّنوا لاطفالهم التعليم الدينى والاخلاقى الذى يتمشى مع معتقداتهم الخاصة.

وكذلك تنص الصكوك الدولية لحقوق الإنسان على أهمية أن تؤخذ في الاعتبار تقاليد كل شعب وقيمه الثقافية لحماية الطفل وترعره ترعرعاً متناسقاً. كما أن تلك الصكوك تحترم مسؤوليات وحقوق وواجبات الوالدين أو الجماعة حسبما ينص العرف المحلى في أن يوافروا للطفل التوجيه والإرشاد الملائميْن عند ممارسة الحقوق المعترف بها في المواثيق الدولية.

سادساً:
لا يمكن التأثير في النظام الدولى لحقوق الإنسان إلا بعد فهمه فهماً عميقاً : ومما لاشك فيه انه لن يتسنى لاصحاب الديانات خاصة المسلمين التأثير الايجابى على النظام الدولى لحقوق الإنسان إلا من خلال فهم عميق لذلك النظام من حيث المضمون والآليات ومشاركة فاعلة في كافة فعالياته.

وتسهيلاً لفهم النظام الدولى لحقوق الإنسان وظّف مركز الخرطوم الدولى لحقوق الإنسان (KICHR) جهداً مقدّراً ومازال تغطية لجوانبه الأربعة الرئيسية. ففي مجال توفير نصوص الصكوك الدولية لحقوق الإنسان التي تتضمن المبادئ والمعايير والآليات، أصدر المركز مطبوعة رقم (10). وفي مجال التعليقات والتوصيات العامة التي اصدرتها هيئات المعاهدات الدولية لشرح تلك الصكوك، أصدر المركز مطبوعة رقم (12). وفي مجال كيفية اعداد الدول لتقاريرها بموجب تلك الصكوك، أصدر المركز مطبوعة رقم (11) متضمناً المبادئ التوجيهية المتعلقة بشكل التقارير ومحتواها. وفي مجال الحقوق الخاصة بفئات معينة، أصدر المركز مطبوعة رقم (13) عن حقوق الطفل ومطبوعه رقم (14) عن الحقوق المدنية والسياسية ومطبوعة رقم (16) عن حقوق المرأة. وفي مجال رصد حقوق الإنسان على أرض الواقع، أصدر المركز مطبوعة رقم (21) عن ولاية التواجد الميدانى للأمم المتحدة. علماً بأن المركز يعقد دورات تدريبية حول كل مطبوعة من تلك المطبوعات لتوفير فهم سليم للنظام الدولى لحقوق الإنسان يمكّن من التعامل معه بطريقة ايجابية وموضوعية. وبالاضافة إلى ذلك فإن المركز يفتح زراعية للتعاون مع المراكز الأخرى والمنظمات غير الحكومية والجامعات للتثقيف بحقوق الإنسان بصورة علمية مدروسة.

أما في هذه العجالة، فإننا قد رأينا أن نوظف ما تبقى من هذه الورقة لشرح النظام الدولى لحقوق الإنسان بصورة مقتضبة وذلك على النحو التالي :

(1) ميثاق الأمم المتحدة لسنة 1945 أرسى قواعد النظام الدولى لحقوق الإنسان:يعتبر ميثاق الأمم المتحدة هو الأساس التعاهدى للنظام الدولى لحقوق الإنسان وعالميته والذى يسود على كافة الالتزامات الأخرى للدول .

 ولقد تضمن ميثاق الأمم المتحدة مفهومين متعارضين:
المفهوم الأول: هو أن الدول هي العناصر المؤسسة لمنظمة الأمم المتحدة ويسود ذلك الفهم في بنية المنظمة حيث أن مهمتها الأساسية هي فرض القيود والإلتزامات على الدول خاصة فيما يتعلق بحفظ السلم والأمن الدولى وحصر استخدام القوة في حالتى التفويض من مجلس الأمن والدفاع عن النفس.أما المفهوم الثاني: فهو التركيز على حماية الكائن البشرى عن طريق تعزيز حقوق الإنسان وكفالة الحريات الأساسية للجميع. وبذلك المفهوم الثاني يكون الميثاق قد أدخل على القانون الدولي مبدأ إحترام حقوق الإنسان وفرض على الدول الإلتزامات المقابلة لذلك الحق دون أن يسرد تفاصيل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. ومن المهم ملاحظة أن الميثاق لم ينص على أي حق يستطيع الفرد الإحتجاج به ضد أي معتد. يضاف إلى ذلك أن النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهو جزء لا يتجزأ من الميثاق، ينص صراحة على أن للدول وحدها الحق في أن تكون أطرافاً في الدعاوى التي ترفع أمام المحكمة؛ ولكن يستخلَص من الآراء الفردية المخالفة للقضاة مثل القاضى تاناكا منذ سنوات طويلة أن هنالك ميلاً إلى اعتبار حماية حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من القانون الدولي المعاصر على الرغم من أن المحكمة قد رفضت ذلك الاتجاه عام 1966.

ولقد ذكر القاضي تاناكا في تلك القضية أن الإشارات المتكررة في ميثاق الأمم المتحدة إلى حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحدة من الاختلافات بين ميثاق الأمم المتحدة وميثاق عصبة الأمم، إذ لم يكن في ميثاق العصبة ما يشير إلى العلاقة الوثيقة التي تربط بين السلام واحترام حقوق الإنسان كما هو الحال فى ميثاق الأمم المتحدة. كما أضاف تاناكا أن القاعدة التي تحظر التمييز أو الفصل بسبب الجنس أصبحت قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي. وفى ذات القضية أعرب القاضي عمون عن رأيه الشخصي في شرعية كفاح الشعوب التي تقاتل من أجل حقوقها موضحاً أن شرعيته مؤسسة على حق الدفاع عن النفس وهو حق متأصل في الطبيعة البشرية وقد كرسته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وقد أشار القاضى عمون على نحو خاص إلى القرار 2396 (د – 23) الصادر في تاريخ 2 كانون الأول / ديسمبر 1968 الذي أكدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة مجدداً اعترافها بشرعية القتال الذي يخوضه شعب جنوب أفريقيا لتأمين التمتع بحقوق الإنسان دون أي استثناء. وفي ذلك تفرقة واضحة بين الإرهاب وكفاح الشعوب لنيل حقوقها.

ونلاحظ أن القاضى عمون قد سعى إلى بناء الطابع الإلزامي لحقوق الإنسان على مبدأ الدفاع عن النفس ( المادة 51 ) وعلى تحقيق أهداف ميثاق الأمم المتحدة (الفقرة 4 من المادة 2). وعلى الرغم من الطريقة التي فسرت بها المحكمة وأعضاؤها ميثاق الأمم المتحدة إلا أن ذلك لا يحسن في حد ذاته مصير الفرد، بيد أنه لا ينبغي نكران ما فعله من فتح الباب واسعاً أمام خطوات جديدة في مجال حـماية الفرد وهو ما حدث بالفعل .

ومن أمثلة الخطوات الجديدة في ذلك الإتجاه أن الشكاوى الفردية ضد انتهاكات حقوق الإنسان قد تم السماح بها لاحقاً امام الهيئات التعاقدية (Treaty bodies) التي انشأت بموجب العديد من صكوك حقوق الإنسان الدولية والاقليمية. وبالاضافة إلى ذلك فان انتهاكات حقوق الإنسان اصبحت الآن جرائم دولية بصدور نظام روما الاساسى للمحكمة الجنائية الدولية الذى نص على أن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان كلها جرائم دولية، على الرغم من أنه علق جريمة العدوان إلى حين تعديل النظام بعد سبع سنوات.

وفي تقديرنا أن الاسلام يؤمن وبتوسع غير مسبوق على كافة الأسس التي أوردها ميثاق الأمم المتحدة. ففي مجال عالمية حقوق الإنسان نجد قوله تعالى: (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) [الفرقان:1]. وفي مجال المسؤولية الشخصية نجد أن كل من يرتكب انتهاكاً لحقوق الإنسان يتحمل وزر ذلك كما ورد في قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي رباً وهو ربّ كل شيء ولا تكسب كل نفس ٍٍ إلا عليها ولا تزر وازرة ٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) [الأنعام: 164]. وفي مجال الدفاع عن النفس وعدم الاعتداء نجد ذلك في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [البقرة: 190].

(2) تفصيل النظام الدولى لحقوق الإنسان الذى ورد مجملاً فى ميثاق الأمم المتحدة:

لقد تم تفصيل النظام الدولى لحقوق الإنسان الذى ورد مجملاً في ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، على نحو لا يتعارض من الأديان على نحو ما أوضحنا أعلاه، في عشرات المعاهدات ومئات بل آلاف القرارات الصادرة عن آليات الأمم المتحدة حتى يومنا هذا. وتنحصر صكوك حقوق الإنسان الأكثر أهمية في الآتى :
أ‌- الإعلان العالمى لحقوق الإنسان 1948.
ب‌- الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصرى 1965.
ت‌- العهد الدولى الخاص بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966.
ث‌- العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966.
ج‌- اتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) 1979.
ح‌- اتفاقية مناهضة التعذيب 1984.
خ‌- اتفاقية حقوق الطفل 1989.
د‌- الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم 1990.

وتتم الرقابة الدولية لتنفيذ تلك الصكوك على أرض الواقع من خلال هيئات المعاهدات (Treaty bodies) التي انشأها كل صك من تلك الصكوك. وتختص تلك الهيئات باستلام التقارير الدورية التي تقدمها الدول وكذلك نظر الشكاواى من الأفراد والدول في حالات معينة. وتتكون عضوية هيئات المعاهدات من خبراء يتم تعيينهم بصفتهم الشخصية.

وهنالك نوع آخر من الرقابة الدولية على حقوق الإنسان وهي الرقابة التي تقوم بها الأجهزة السياسية للأمم المتحدة (Charter-based) وهى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والمجلس الإقتصادى والإجتماعى ولجنة حقوق الإنسان بجنيف وهى جهاز الأمم المتحدة المتخصص في مجال حقوق الإنسان ويشرف على أعمالها المفوض السامى لحقوق الإنسان. وتشمل آلياتها مقررو الدول (Country Rapporteurs) ومقررو الموضوع (Thematic Rapporteurs) وممثلو الأمين العام للأمم المتحدة، وتبلغ تلك الآليات أكثر من ثمانين آلية.

(3) القيود التي ترد على استخدام الحقوق :
من المهم جداً معرفة أنه يسمح بفرض قيود على استخدام الحقوق لأغراض الأمن القومى والسلامة العامة والطوارئ العامة وخلافها من الاعتبارات.

ولكن وفي ذات الوقت فإنه من الممكن أن يساء إستخدام القيود على الحق أو الحرية من قبل بعض السلطات العامة. والضمانة الأساسية ضد تلك الاساءة هي إخضاع القيود لرقابة قضائية تكون هي الفيصل فيما يحدث من خلاف في وجهات النظر بين الأفراد أو الجماعات من جانب والسلطات العامة من جانب آخر، وذلك على ضوء المبادئ الأساسية التي تحكم القيود التي تفرض على حقوق الإنسان وحرياته وهى تشمل :
• مبدأ الشرعيــة .
• مبدأ سيادة القانون .
• مبدأ إحترام كرامة الفرد .
• مبدأ أن الحقوق والحريات مطلقة وأن القيود من الإستثناءات .
• مبدأ المساواة وعدم التمييز .
• مبدأ لا جريمة ولا عقاب بلا قانون ( عدم رجعية القوانين ) .
• مبدأ المحاكمة العادلة العلنية في الإجراءات القضائية، ومبدأ عدم محاكمة الفرد عن جرم مرتين .
• مبدأ التناسب .
• مبادئ أساسية أخرى معترف بها ضمناً في الفقرة 3 من المادة 29 والمادة 30 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والأحكام المقابلة في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان وهي تشمل :-
أ) مبدأ حسن النية .
ب) مبدأ إحترام مبادئ الفرد المكتسبة .
ج) مبدأ الإنصاف .
د) مبدأ تقرير المصير .
هـ) مبدأ التضامن الإجتماعى - أي مساعدات تقدمها دول أو أفراد أكثر تقدماً اقتصاديا الى دول أو أفراد أقل تقدماً اقتصاديا - .
و) مبدأ العلاقات الودية والتعاون بين الشعوب والدول.
ز) مبدأ الحفاظ على السلام العالمى .

التوصيات:
وفي ختام هذه الورقة نتقدم بتوصية واحدة وهى أهمية تصويب جهود أصحاب الديانات محلياً ودولياً من خلال الاشتراك الفاعل في المحافل الدولية لحقوق الإنسان التى تعقد مرات عديدة كل عام، وذلك لإثراء النظام الدولى لحقوق الإنسان وتعويض الغياب غير المبرر للإسلام والأديان الأخرى وكريم المعتقدات عن الساحة الدولية لحقوق الإنسان تصحيحاً للصورة التي رسخت بأن الاسلام دين إرهاب وعنف. ولاشك أن كافة الدول الإسلامية تشارك في تلك المحافل والمطلوب فقط هو التنسيق وتصويب الجهود وجعل تلك المحافل هي ساحة حوار وتحالف بين الحضارات، بحيث يأخذ التحالف توجهاً عملياً بعيداً عن التداول النظري الذى ظل مسيطراً على الساحة دون أي مردود عملي.

 
-ورقة عمل قدمت في مؤتمر "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني " الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في الفترة مابين 27-29 مايو 2006 - عمان - الاردن