A+ A-
مشاركة الاستاذ عريب الرنتاوي في مؤتمر"الأمن في خضمّ الانحلال"
2018-05-28

قدم الأستاذ عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية كلمة في المؤتمر السنوي لمؤسسة "بيت المستقبل" والذي عقد سرايا بكفيا يومي الجمعة 25 والسبت 26 أيار/مايو 2018 تحت عنوان "الأمن في خضمّ الانحلال" تحديات ضمان استمرارية الترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط واقع انحلال النظام الإقليمي.

فخامة الرئيس أمين الجميل
دولة الرئيس فؤاد السنيورة
سعادة السفير مارتن هوت 
أصحاب المعالي والسعادة
الأصدقاء الأفاضل...الصديقات الفضليات
أسعد الله صباحكم جميعاً بكل الخير، وأبدأ بتوجيه الشكر الواجب للجهات المنظمة، لهذا المؤتمر الهام في مضمونه وتوقيته، وأخص بالذكر، "بيت المستقبل، وراعيه فخامة الرئيس أمين الجميل، لذكاء الفكرة وحسن التنظيم وكرم الضيافة والاستقبال، كما وأتوجه بجزيل الشكر للصديق العزيز سام منسّى على جهده الدؤوب والمثابر، هو وجميع العاملين في هذه المؤسسة المحترمة. وبعد

من أين ندخل في صلب هذا الموضوع الشائك، ومن أين نبدأ التأريخ لحالة التفكك والانحلال التي تجتاح الإقليم بدوله ومجتمعاته، وكيف لنا أن نشخص على نحو أعمق وأدق، خصائص وسمات المرحلة الراهنة في تاريخنا، وما الذي يمكن لنا أن نجترحه من أفكار ومقاربات، تنفع الناس وتبقى في الأرض، توقف الانهيار وتحتوي التداعي ... وقبل هذا وذاك، كيف لنا أن نشخص أدوار الفاعلين الكبار، من محليين وإقليميين ودوليين في تشكيل هذه ظاهرة التداعي والتفكك ... وكيف لهذا الجمع المحترم من مثقفين ومفكرين وسياسيين ونشطاء، أن ينجح في وضع العديد من النظريات والفرضيات على محك التجربة والتمحيص والاختبار؟

وأود بادئ ذي بدء، التأكيد على أن للظاهرة قيد البحث في هذا المؤتمر، جذورها الضاربة في عمق تاريخ هذه المنطقة، منذ سنوات الركود والتخلف في الهزيع العثماني الأخير، وحتى سنوات الركود والاستنقاع التي سبقت وتسببت بثورات "الربيع العربي" وانتفاضاته ... مروراً بالحقبة الاستعمارية وتجربة دول ما بعد الاستقلالات الوطنية وتصفية الاستعمار.

صحيح أننا سنصدع لتوجيهات المنظمين بعدم الغوص عميقاً في كتب التاريخ وتقليب صفحاته، بحثاً عن أسباب الظاهرة وجذورها ... على أنني أظن، وليس كل الظن إثما، أن سعينا لاجتراح المقاربات الجديدة، سيملي علينا التوقف أمام جملة من الأسباب المتراكمة والمتراكبة، يقف في صدارتها، فشل الدولة الوطنية العربية الحديثة، في أداء وظائفها الأساسية، بدءا ببناء هوية وطنية جمعية جامعة تنهض على "مواطنة" الأفراد والجماعات، وانتهاء بخضوعها في الغالب الأعم، لحكم الجنرالات والسلالات، وبحثها اليائس عن مصادر للشرعية خارج صناديق الاقتراع، وتفشي أنماط الاستبداد والفساد، وفشلها في إنجاز تحررها وانعتاقها الوطنيين، بل وتبديدها لسيادة دولها الوطنية، بحثاً عن الوصاية والحماية والرعاية، بالاستقواء بالخارج حيناً، والسعي لاسترضائه في كثير من الأحيان.

وأقفز مسرعاً، نظراً لضيق الوقت، إلى الخلاصة التي تقول: بإن مفاعيل "الثالوث" غير المقدس: الطغاة والغلاة والغزاة، قد فعلت فعلها في تمزيق هوياتنا الوطنية وتفتيت دولنا ومجتمعاتنا، فالاستبداد هو الأب الروحي للتطرف والغلو، وكلاهما يستدعيان شتى أشكال التدخل الأجنبي ويستدرجانه ... سيما في منطقة، محاصرة بجوار إقليمي طامع وطامح، تدخلية توسعية، لطالما نظرت إلى الجغرافية العربية، بوصفها "مجالاً حيوياً" لنفوذها الإقليمي، من إسرائيل إلى إيران مروراً بتركيا... منطقة عُدّت تاريخياً وبحق، هدفاً للأطماع والتنافس الدوليين، ولتدخلات المراكز الدولية، التي لم تنقطع ولم تتوقف منذ عدة قرون.

وأضيف إلى ما سبق، أن حال المنطقة اليوم، يتميز بتزايد أعداد دولها الفاشلة، أو تلك التي تقف على حافة الفشل، وتفاقم الهويات الفرعية القاتلة التي تنخر في جسد وحدة شعوبنا ومجتمعاتنا الوطنية والمجتمعية، واستتباعاً تعاظم أدوار اللاعبين "اللا دولاتيين -Non State Actors"، و تناسل المليشيات المسلحة كالنبت الشيطاني، واتساع شقة الانقسام والتباعد، بين الطوائف والأقوام والمذاهب والأديان والجهويات والولاءات العشائرية والقبلية.

كما وأن اللحظة الراهنة في عمر الإقليم، تتميز بانهيار قواعد "ويستفاليا" المؤسسة للنظام العالمي والعلاقات الدولية، دول إقليمية لا تعترف بحدود أو سيادة ولا تتوقف عندها، حركات ومليشيات عابرة لجغرافيا الأوطان، ومعسكرات ومحاور تنشأ وفقاً لخرائط الهويات التفتيتية، وتبحث لنفسها عن هويات أكبر، "فوق وطنية"، ما يعطي "الخارج" سطوة على الداخل، ويفتح أبواب بلدان الإقليم لشتى أنواع الاستباحة، ويحيل شعوبها إلى شيع وقبائل متناحرة.. وغير ذلك كثير مما نعرف وتعرفون عمّا نحن فيه وعليه من مشكلات وتحديات.

أما عن الفرضيات المؤسسة للخطاب السائد في كثيرٍ من أوساطنا، والتي أعتقد أنها بحاجة للبحث والتمحيص، فاقترح أن نولي اهتماماً لتلك المقاربة التي تنشئ علاقة سببية بين الحرية والديمقراطية من جهة، والفوضى والتفكك وعدم الاستقرار من جهة ثانية، وتأسيساً على ذلك، تمعن في هجاء الربيع العربي، وتحمله ما لا يحتمل من مسؤوليات عن الخراب اللاحق ... وأرى ضرورة التوقف عند ما يمكن تسميته بالمقاربة الأمنية لاستعادة الاستقرار وتخطي الفوضى وحفظ وحدة الأوطان والمواطنين، وصولاً لاجتراح المعادلة التي تضع الأمن والاستقرار في تناغم وانسجام مع الحرية والديمقراطية والتنمية، بعد أن ثبت بالملوس، قبل الربيع العربي وبعده، أن الأوطان لا تحيا من دون الأمن والأمان، لكن في المقابل، ليس بالأمن وحده تحيا الأوطان. 

وأرى مسيس الحاجة، لمقاربة أكثر نضجاً وشمولاً، لتفادي التداعيات المدمرة للثنائيات الحاكمة للعقل السياسي والثقافي العربي، وأخطر تجلياتها السياسية الراهنة المتجسدة في ثنائية "الإسلام السياسي" وحكم الجنرالات أو "الدولة العميقة"، وصولاً لتمكين شعوبنا من شق طريقها الخاص للحاق بركب التنمية والحداثة والحرية والديمقراطية، من دون أن تترك وراءها أي كيان أو مكون، نهباً للاستثناء والتهميش والإلغاء.

عن بعض هذه العناوين، وأخرى غيرها سيدور حوارنا في هذه الجلسة، ولدينا ثلاثة متحدثين من أهل العلم والمعرفة، أعانهم الله على تجشم مشقة الإبحار في بحر الإقليم متلاطم الأمواج، وأبدأ بالمتحدث الأول الأستاذ حسين حقاني، يليه الدكتور شفيق الغبرا ثم البروفيسور راسل بيرمان.