2022-01-15
الكاتب : الدكتور خالد التجاني، كاتب وباحث، رئيس تحرير صحيفة إيلاف /السودان.
الحراك السوداني الثالث:
الدور الشبابي: تحديات وفرص التحوّلات في ظل أزمة المشروع الوطني.
أسئلة المصير العالقة: جدال بناء الأمة والدولة - التقليد مقابل الحداثة.
استقراء تجارب الانتقال: تأثير معطيات وديناميات الصراع السياسي.
تطلعات الأجيال الموءودة:
جيل العطاء: جيلي انا...
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنىً أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليُقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسِير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيشُ ضراوةً ومصادمة
المستميتُ على المبادئ مؤمنا
المشرئبُ إلى النجوم لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا.....
هدم الُمحالاتِ العتيقة وانتضى سيفَ الوثوقِ مُطاعنا
ومشى لباحات الخلودِ عيونهُ مفتوحةٌ
وصدوره مكشوفةٌ بجراحها متزينة
متخيراً وعر الدروب.. وسائراً فوق الرصاص منافحا
جيل العطاءِ لك البطولاتُ الكبيرةُ والجراحُ الصادحة
ولك الحضورُ هنا بقلب العصر فوق طلوله المتناوحة
ولك التفرّد فوق صهوات الخيول روامحا
جيل العطاء لعزمنا.....
حتماً ُيذلُّ المستحيل .. وننتصر
وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى
ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكر
هذه الكلمات الموحية التي تنضح ثورية وآمالاً عراضاً تعانق الثريا، ليست بنت وحي الثورة السودانية الثالثة التي انطلقت في ديسمبر 2019، وإن حملت سماتها تطلعات جيل اليوم الثائر، بل صدح بها الشاعر الكبير والدبلوماسي المرموق محمد المكي إبراهيم، قبل نحو ستة عقود، وهو حينها طالب جامعي، تخليداً لثورة 21 أكتوبر 1964، التي أطاحت بأول نظام عسكري حكم البلاد.
مضت ست وستون عاماً عاماً، شهد السودان خلالها ثلاث انتفاضات شعبية كان الشباب دائماً في قلبها نجحت في إسقاط ثلاث أنظمة عسكرية، ومع ذلك فإن أحلام الشباب السوداني على مر الأجيال ومع كل تضحياته من أجل كتابة تاريخ جديد للبلاد يجسّد قيم الحرية والسلام والعدالة، لا تزال مؤجلة، فما الذي يجعل المستحيل ممكناً ل "يبدع الحياة الجديدة وفق ما يهوى"؟ كما عبّر عنها الشاعر قبل سبعة عقود، ذلك هو السؤال المحوري لماذا ينجح السودانيون في إسقاط الأنظمة الشمولية، ثم يبددون كل فرصة لتأسيس نظام حكم مدني ديمقراطي رشيد مستدام، ذلك هو مأزق السودان التاريخي إعادة إنتاج أزمته الوطنية بسبب العجز المتواصل عن الوصول إلى حل جذري لمعضلة جدلية تركيب بناء الأمة، وتأسيس الدولة بكل تبعات وعواقب هشاشة الدولة والمجتمع.
تصعب قراءة التجربة السودانية في شأن دور الشباب وإسهامه في عملية التغييرعبر المشاركة السياسية الفاعلة من دون الوقوف على السياقات التاريخية والتحديات الراهنة على حد سواء، والتي تشكل بكل تعقيداتها المركبة عقبات لا يمكن القفز عليها لرؤية الفرصة المتاحة والممكنة لخدمة أجندة التغيير الثوري الجذري الذي يتطلع إليه الجيل الجديد. فما هي الخلفيات المؤسسة للمأزق الراهن، وما هي استحقاقات تجاوز ما بات في حكم المسلمات التي لا تزال يرتهن لها مصير البلاد ومستقبلها؟ .
والتحدي الجوهري الذي يواجه الشباب السوداني اليوم فيما يتعلق بالمشاركة السياسية يتجاوز مجرد البحث عن دور أو موقع في معادلات اللعبة السياسية في سياقها الراهن، إلى القيام بمهمة أكثر جذرية تتعلق بالقدرة على الإجابة على أسئلة بناء الأمة والدولة العالقة لعقود، وإمكانية وكيفية إعادة تعريف السياسة التي تأسس عليها النظام السياسي السوداني القديم بكل مسلماته وتمثّلاته وممارساته التي أورثت البلاد مخاطر جدية ماثلة على نحو غير مسبوق باتت تشكلّ تهديداً وجودياً للدولة نفسها، وتفتيتاً وشيكاً لممسكاتها الاجتماعية، على ضعفهما وهشاشتهما.
طبيعة الانتقال الخامس:
من المهم من بين يدي استشكاف فرص الدور الشبابي في المشاركة السياسية الفاعلة الهادفة لتحقيق تطلعاته في تغيير نوعي، وربما "جذري" في معادلة السلطة السائدة منذ الاستقلال، استقراء مردود تجارب الانتقال الخمس التي شهدها السودان خلال السبعين عاماً الماضية، كانت الأولى في العام 1953 للحكم الذاتي قبل الاستقلال، ثم الثانية عقب انتفاضة أكتوبر 1964، والثالثة عقب انتفاضة أبريل 1985، والرابعة عقب اتفاقية السلام الشامل لحل قضية جنوب السودان في 2005، والانتقال الخامس هو الراهن الذي اعقب الإطاحة بنظام البشير.
ويرى بروفيسر عطا البطحاني استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم أنه من الضروري " التأكيد على التمييز بين نجاح أو فشل مرحلة الانتقال، وبين نجاح أو فشل التجربة الديمقراطية التي تعقبها، وإن كان ذلك لا ينفي العلاقة الوثيقة بين مسار الانتقال ومصير التجربة الديمقراطية في السودان"، ويضيف بأن "عدم استيفاء شروط الانتقال السياسي – الديمقراطي السليم هو مقدمة لفشل تجربة الحكم الديمقراطي.
ويعزو ذلك إلى "أن ازمة الحكم في السودان تتصل ببنية السلطة، أي سمة بنيوية تعكس وتعبر، في أحد أهم جوانبها إلى عجز الطبقة السياسية الحاكمة، القيام بمهام القيادة، أي أنها عاجزة عن القيادة حتى ولو تمتعت بالسلطة أو القوة ومارست الحكم". إلى ذلك يلاحظ أن أحد سمات الانتقال الخامس الراهن هو الثقل النوعي المتزايد للعوامل الخارجية على حساب العوامل الداخلية في تحديد مسار الانتقال.
ودون الدخول في تفاصيل حول مفهوم الانتقال كعلم تطور، لا سيما في التسعينات، مع تزايد الدول التي شهدت موجات من التحول الديمقراطي، نكتفي بنوعين من وسائل الانتقال حسب نموذج صموئيل هنينتغون، وهو التحول الذي يحدث عبر الإحلال حين تنجح المعارضة في إسقاط النظام بالكامل وتحل محله وهو ما يقود بالضرورة إلى وضع ثوري كامل، والنموذج الآخر وهو التحول عبر التسوية التي تتم بالتوافق بين بين جناح راغب في دعم التغيير من داخل النظام، وبين المعارضة التي تتسم في الغالب بنوع من "التسوية التاريخية."
الشاهد أن نموذج الانتقال الخامس الراهن في السودان تم عن طريق "التسوية" بين اللجنة الأمنية لنظام البشير حيث قرر قادة الجيش "الانحياز" للشارع المنتفض والإطاحة به في 11 أبريل 2019، ثم الدخول في مفاوضات مع ممثلي قوى الحرية والتغيير بوساطة أفريقية مدعومة دوليا أدت إلى اتفاق سياسي بين المكونين العسكري والمدني لإدارة الفترة الانتقالية وفق "إعلان دستوري."
أدى غياب إدراك طبيعة الانتقال الخامس القائم على نموذج "تسوية" صريح، والترويج له على أنه نموذج "ثوري كامل" إلى تناقضات وتفاعلات قادت إلى قطيعة لاحقة بين الشارع الشبابي المنتفض وقوى الحرية والتغيير التي تماهت في تحالف فعلي مع المكون العسكري. ليعلو صوت الحراك الشبابي مجدداَ مطالباً بقطيعة مع العسكريين، وتحول ثوري نحو حكم مدني خالص. وهناك "معضلة الاعتصام، والدور السياسي للجيش.
محطات في التجربة السودانية:
نجح الحراك الشعبي السوداني في 11 أبريل/ نيسان 2019، في إسقاط ثالث نظام عسكري تعرفه البلاد في العقود الستة الماضية، ليطرح من جديد سؤال مصيرياً عن الفرص والتحديات أمام هذا الحراك الشعبي الثالث ليكون منتجاً ويسهم في تحقيق تغيير حقيقي عميق الجذور يحرّر البلاد من البنية المؤسسة للنظام السياسي القديم بكل اخفاقاته الموروثة، ويؤسس لمشروع وطني يسهم في بناء مجتمع ديمقراطي مستدام يضع السودان على أعتاب مستقبل جديد؟.
التحدي الماثل أمام الحراك الثوري السوداني الثالث، والشباب يشكل قوته الدافعة الرئيسة، أنه يواجه مرة آخرى على نحو أكثر إلحاحاً ومصيرية أسئلة التأسيس وأجندة التغيير ذاتها التي واجهت سابقيه (في 1964 الذي أسقط نظام إبراهيم عبود، والثاني في 1985 الذي أسقط نظام جعفر نميري) وبقيت بلا إجابة حاسمة، فلماذا تمكّن السودانيون في تحقيق هذا الرقم القياسي من الانتفاضات الناجحة بامتياز في إسقاط الأنظمة العسكرية، ومع ذلك يستعصي عليهم بناء حكم مدني فعالاً وناجعاً يحدث تغييراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً شاملاً في بنية الدولة الموروثة من الاستعمار، ويحقق تحوّلاً ديمقراطياً مستداماً؟.
فما هي العوامل المانعة لتأسيس لنظام حكم فاعل يخرج البلاد من حالة الأزمة المتطاولة بالدوران في الحلقة المفرغة ذاتها المعروفة في أدبيات السياسة السودانية ب"الدورة الخبيثة" التي ظلت تتعاقب فيها الأنظمة الشمولية والثورات والفترات الانتقالية والحكم المدني بوتيرة تنتج نسقاً متكرراً يعيد فيه التاريخ نفسه دون عظة ولا عبرة تؤسس لقطيعة مع النظام السياسي القديم المأزوم برمته، وتؤسس للبديل المنشود؟.
ما أن نجح الحراك الشعبي في إسقاط نظام عمر البشير وتوالت تبعاته المخيبة للتوقعات تترى حتى تبين للجيل الجديد من الشباب عماد هذه الثورة، أن ذلك ليس كافياً وحده لحدوث تغيير تلقائي يحقق تطلعاتها في التغيير وتجسيد مطالبها (حرية .. سلام .. وعدالة)، فالصراع الذي احتدم عقب سقوط النظام بين العسكريين وقوى الحرية والتغيير حول تشكيل وترتيبات إدارة الفترة الانتقالية، والتنازع المدني والعسكري لا يعكس في الواقع سوى وجه واحد من وجوه عديدة وعوامل متشابكة تحكم الصراع على تشكيل مستقبل السودان.
ولذلك من المهم عند البحث عن دور الشباب في المشاركة السياسية تحليل الأسباب التي تجعل حدوث تحوّل شامل في بنيّة النظام السياسي والاجتماعي السوداني القديم المعطوب لتأسيس نظام جديد يحقّق الاستقرار والسلام والتنمية والديمقراطية أمراً محاطاً بالكثير من التعقيدات بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية، على الرغم من أن مطلب بالتغيير الجذري ظل حاضراً بقوة في الأجندة الوطنية من خلال ثلاث انتفاضات، التي ظلت تجهضها ظاهرة العجز المتكرر أيضاً للنخب السياسية في ترجمة هذه الفرص إلى واقع جديد.
وهو ما يقتضي الإجابة على سؤال مركزي لماذا تنتهي محاولات السودانيين بعد كل حراك ثوري يسقط نظاماً عسكرياً لتأسيس تحول ديمقراطي بالدوران في حلقة مفرغة تعيد إنتاج الواقع المأزوم؟ وهل ثمّة معطيات جديدة أمام الحراك الثوري الثالث للخروج من هذا المأزق التاريخي؟.
في الواقع لا يعاني الشباب السوداني من ظاهرة العزوف عن المشاركة السياسية، فقد ظل حاضراً دائماً وفاعلاً في المشهد بأقدار متفاوتة من الفاعلية على تعاقب الحقب منذ بروز الحركة الوطنية أواخر ثلاثينات القرن الماضي، إلا ان القضية الجوهرية هنا تتعلق بنوعية وجدوى المشاركة السياسية، هل هي لمجرد تشكيل تسجيل حضور في الفضاء العام بسياقاته الراهنة دون أن يسهم في كسر الحلقة المفرغة التي تعيد إنتاج الأزمة الوطنية كما ظل عليه الحال على مدار أكثر من ستة عقود، أم بقدرة هذه المشاركة على إحداث تغيير فعلي في بنية النظام السياسي القديم المعطوب، ويفتح آفاقاً أمام تحول ديمقراطي مستدام.
لعل أكبر تحدي يواجه الحراك الشبابي في السودان النجاح في مخاطبة أجندة المستقبل وكيفية تخطي عقبة غياب مشروع وطني جامع بعد سبعة عقود من الاستقلال، وتجاوز مأزق عدم اكتمال بناء الأمة المنقسمة على نفسها، وهشاشة بنية المجتمع والدولة معاً.
وهو ما يتطلب دراسة هذه الإشكالية بمنهج بنيوي - تاريخي وتحليلي، يرصد الوقائع التاريخية ويفكّك البنّى المؤسسة للكيان السوداني، اجتماعياً وثقافياً، وسياسياً، ويقوم بعملية تحليل مضمون لقراءة الأنساق التي تشكّل من خلالها، ولتفسير أسباب الفشل في استيعاب تركيبته المتنوعة، واستدامة حالة الانقسام المجتمعي وتنازع الهويّات، وتأثير معطياتها في تشكيل أوضاعه الراهنة، وتحديد مستقبله.
وتواجه هذه المهمة معضلة البحث عن إجابة لأسئلة مستقبلية فيما لا تزال وقائع الحراك الشعبي تتفاعل وسط عوامل متحركة وتعقيدات متشابكة، تتقلب فيها المواقف وتتقاطع الأجندة المتنافسة على تشكيل مستقبل السودان.
وثمةّ حاجة لتحرير مفهوم "الثورة" التي يرى كرين برنتن أنها "من الكلمات التي تتصف بالغموض، ومرادف تأكيدي لكلمة تغيير، مع الإيحاء بأنه مفاجئ، وأن مصطلح الثورة يثير القلق لعالم الدلالة ليس بسبب مداه الواسع في الاستخدام فحسب، بل لأنه كذلك من الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي في الواقع"، ويخلص إلى تعريفها بأنها "حركية ديناميكية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى تأسيس بنيان اجتماعي آخر"، وبهذا المفهوم فإن استخدام وصف الثورة في الحالة السودانية، يأتي من باب المجاز من واقع أن حدوث تغيير جذري في البنية السياسة والاجتماعية لم يتحقق فحسب، بل يتم إعادة إنتاج نسق النظام السياسي القديم المأزوم نفسه، ولذلك فإن استخدام وصف الانتفاضة أو "حراك ثوري برسم التشكل" أقرب للتعبير عن حالة مخاض لا تزال معطياتها تتفاعل.
1-المأزق التاريخي وجدلية التركيب:
يصف محمد حاج حمد جذور الأزمة الوطنية بأبعادها المختلفة ب"المأزق التاريخي وجدلية التركيب" الذي ظل يواجه الكيان السوداني، فقد عادت لتواجه السودانيين مجدداً أزمة الافتقار إلى "مشروع وطني جامع"، إذ لا تزال العديد من قضايا التأسيس عالقة بلا اتفاق حولها، وتعمّقها حالة الانقسام المستدام في الواقع السوداني، التي تسبّبت في عرقلة التوافق الوطني "بسبب النظرة المحدودة لمقوّمات الوطنية السودانية، وعجز النخبة عن خلق إطار جامع يحتوي كل أهل السودان"، فمسائل تعريف الهوية، استيعاب التنوع المتعدد الأبعاد، العلاقة بين الدين والدولة، صراع المركز والهامش، الطائفية والقبلية، الصراع الأيديولوجي بين اليسار واليمين، التنازع على السلطة بين المدني والعسكري، تنافس الأجندة الأجنبية والإرادة الوطنية، كل هذه الثنائيات المتصارعة في الحياة السياسية السودانية ظلت هي العامل الثابت لعقود في الجدل حول تشكيل مستقبل السودان، كما تكشف مدى الانقسام المستدام بين المكونات المختلفة في تصوراتها حول ما ينبغي أن تؤسس عليه الدولة الوطنية.
ويقف سؤال الهوية مثار جدل الأبرز في بلد شديد التنوع في تركيبته الإثنية والثقافية والاجتماعية والدينية، وفي الحالة السودانية ليس ترفاً ذهنياً أو شأناً نخبوياً، محضاً فقد أدى الفشل في تعريف الهوية الوطنية المستوعبة لهذا التنوع إلى أن يفقد السودان وحدته الترابية وتقسيمه بتبعات الفوارق الناشئة عنها التي أشعلت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في العام 1955، وأفضت إلى انفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عجز الطبقة السياسية على مدار سنوات الحكم الوطني في تقديم إجابة على هذا السؤال المركزي، واستسهال خيار تقرير المصير الذي قادقدماً إلى تقسيم السودان م "الإجابة الخاطئة على السؤال الصحيح" .
وعزّز الصراع بين المركز والهامش، كبعد آخر لمسألة الهوية المتنازعة، تأجيج الحروب الأهلية واتساع نطاقها بتحوّل الاحتجاجات في الأطراف إلى تمرّد مسلّح ضد المركز النيلي العروبي الإسلامي المتهم بالسيطرة على السلطة والثروة منذ الاستقلال على حساب الهامش الغالب بإثنياته الأفريقية، ولم يحل تقسيم السودان السؤال، فقد كان الرهان أن التضحية بوحدة البلاد ستجلب السلام المستدام، ولكن سرعان ما تبينت الطبيعة المعقدة والمركبة لهذا الصراع حتى داخل الكيانين المنقسمين، فأعيد إنتاج الحرب في صراع داخلهما حول المفاهيم ذاتها.
ويري عبد الغفار محمد أحمد أن قضية تعريف الهوية، بتجلياتها المتعددة "لا تزال تمثل أحد العوامل شديد الأهمية في تشكيل مصير السودان ومستقبله السياسي، فهو قطر شهد في تاريخه تحركاً ديناميكياً متواصلاً، وشهد تحولات عبر القرون، وكان هدفاً لهجرات متعددة شكلت تركبيته السكانية، يُنظر إليه كجسر يربط بين الثقافتين العربية والأفريقية، بينما يراه علي مزروعي قطر هامشي متعدد الهامشية في علاقاته مع المنطقتين، وحتى في داخله".
ويذهب إلى أن "إن تاريخ السودان يتميز باستمرارية بارزة، فهو يتكون من سلسلة أحداث وتطورات مترابطة ترجع إلى قرون عديدة، ولا يزال تأثيرها واضحاً في تشكيل العلاقات وحالات النزاع الراهنة في مختلف مناطق البلاد، وبدون الإلمام بديناميات التفاعل بين الناس خلال تلك الأحداث والتطورات، من الصعب تفهّم التعقيدات المتعددة التي تمبيز الوضع الراهن".
ويؤكد روبرت كولينز على تأثير الاستمرارية في تاريخ السودان الممتد من مملكة كوش (760 ق.م – 350م)، مروراً بالدول المسيحية (نوباتيا- المقرة - علوة 350 - 1505)، وعهد السلطنات الإسلامية في الفونج (1505 – 1821م)، ودارفور (1641 – 1874م) ثم (1899م – 1916م) ، ويرى أن "أي محاولة لفهم سودان اليوم يجب أن تقوم على البحث في وقائع المائتي عام الأخيرة، ذلك أن مجئ الأتراك والبريطانيون إلى السودان قبل وبعد الثورة المهدية (1881 – 1898) لم يؤد فحسب إلى إضافة المزيد من التنوع المدهش أصلاً لشعوب السودان، فقد ترك كل طرف من من أولئك الغزاة وراءه ، وعلى طريقته الخاصة، طبقات إضافية من المؤسسات الغريبة فوق عناصر أصلية عميقة الجذور في نسيج الماضي السوداني".
وإعادة قراءة تاريخ السودان وتحليل الخلفيات التاريخية بالغ الأهمية في فهم جذور الصراعات السودانية الراهنة بطبيعتها المعقدة، ولاستقطاب السياسي الحاد الذي تنتجه مع استمرار العجز في استيعاب التنوع والتعدد بتركيبته المتشابكة، ويرى فرانسيس دينق في ذلك "حرب رؤى ونزاع هويات نتاج المشاكل الاثنية والدينية التي ظلت مكبوتة لفترة طويلة، حيث تبرز لتعبر عن نفسها بالعنف الذي يهدد هذه الدول بالتجزئة والتفتت، وربما بالانهيار التام بسبب الصراع على السلطة ومصادر الثروة ".
أ - نشأة السودان الحديث:
تنسب نشأة السودان الحديث ككيان سياسي بحدوده المعروفة اليوم إلى محمد علي باشا والي مصر بحملته في العام 1821م التي أنهت حكم سلطنة الفونج التي تأسست في العام 1505م كأول سلطنة إسلامية، والتي سيطرت على معظم وسط وشمال السودان، وتمدد الغازي التركي جنوباً حتى منطقة البحيرات ثم ضم لاحقاً سلطنة دارفور في 1874م، ليضمها إلى الإمبراطورية العثمانية.
ولم يمنح الحكم التركي السودان تحت راية محمد علي باشا حدوده السياسية فحسب، بل كان سبباً في وضع أسس الدولة الحديثة بإدخال التطور الإداري وإنشاء الدواوين الحكومية، وإدخال التعليم النظامي المدني والعسكري، وتطوير القطاع الاقتصادي.
ب- نشأة الحركة الوطنية الحديثة:
ارتبطت نشأة الحركة الوطنية المعاصرة في السودان بتطور التعليم الحديث عندما أسس البريطانيون "كلية غردون التذكارية" في العام 1902 كمعهد عال، أصبحت لاحقاً جامعة الخرطوم، لتخريج مواطنين يتم تأهيلهم للعمل في وظائف مساعدة للإدارة الاستعمارية، لينافس بذلك نظام التعليم المصري المدرسي الذي تأسس في العهد التركي السابق. كان لنظام التعليم وتأثيره أهمية بالغة في تشكيل وعي النخب المتعلمة، وفي تصوراتها عند البحث عن تأسيس "قومية سودانية". وارتباطاتها، وفي صناعة خياراتها السياسية لا سيما في الصراع المصري البريطاني حول مستقبل السودان السياسي.
بدأت تتشكّل إتجاهات الحركة السياسية السودانية المعاصرة الرئيسية حوالي العام 1920، بتأثير عدة عوامل كان في مقدمتها مبادرة الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون في 1918 التي تضمنت المبادئ الأربعة عشر التي نادى بها كبرنامج للسلم العالمي داعية لحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، ودعوته لإنشاء رابطة للأمم، بغرض توفير ضمانات متبادلة للاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول كبيرها وصغيرها.
ومن بين هذه العوامل أيضاً اندلاع ثورة 1919 في مصر ومطالبة الوفد باستقلال مصر والسودان باعتباره جزءاً منها، وقول سعد زغلول "إن مطالب الوفد تشمل السودان لأن مصر والسودان كل لا يقبل التجزئة، وأن السودان ألزم لمصر من الاسكندرية".
كان للخلاف بين دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر حول مركز السودان ومستقبله السياسي الأثر المباشر في أن تبدأ الحركة السياسية السودانية منقسمة بين موقفين، فقد رفض فريق من السودانيين، إدعاء ثورة 1919 بأن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، وأنه وطن قومية قائمة بذاتها، ونشأ عنها تيار الأحزاب الاستقلالية التي تبنت شعار "السودان للسودانيين".
وما لبث أن نهض فريق آخر من نخبة المتعلمين مناوئاً لتيار "الاستقلاليين"، ليؤسس في العام نفسه 1920م "جمعية الاتحاد السوداني"، التي دعت للاستقلال التام لوادي النيل وترفض فصل السودان عن مصر، وعرّفت نفسها بأنها "حركة وطنية في السودان أساسها القومية الصادقة، وغايتها تأييد الشعب المصري، وألا ينفصل السودان عن مصر بأي حال من الأحوال". وكان ذلك إيذانا بميلاد التيار الذي عبّرت عنه لاحقاً الأحزاب "الاتحادية".
أما التحول الذي سيترك لاحقاً تاثيرا عميقاً في السياسة السودانية فهو اتخاذ الإدارة البريطانية موقفا صارماً ضد المتعلمين الذين شكّلوا قاعدة لمقاومة للاستعمار، ولجأت إلى سياسة بديلة بتوطيد دور القوى القبلية التقليدية، وذلك بالتوسع في تطبيق الحكم المباشر القائم على نظام الإدارة الأهلية، والحد من دور المتعلمين في الخدمة الحكومية. لتدخل بذلك العامل القبلي والتقليدي كلاعب أساسي في المعادلة السياسية ظلت تلجأ إليها السلطات المركزية، حتى في ظل الدولة الوطنية، كورقة في مواجهة دور النخب المتعلمة.
عاد الخريجون للاهتمام بالعمل السياسي، بعد كمون نتيجة التضييق الاستعماري، بأثر من إبرام معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، التي استفزتهم إعلان أحكامها المتعلقة بالسودان دون مشاركة السودانيين، حيث أصيب الرأي العام السوداني المستنير بصدمة لأن المعاهدة تجاهلت الطموحات الوطنية.
أثار ذلك جدلاً ونقاشاً واسعاً بين الخريجين حول ما ينبغي عملهم وواجبهم بعد هذه المعاهدة التي تجاهلت السودانيين في تقرير مصيرهم، لينعقد الاجتماع العام التأسيسي ل"مؤتمر الخريحين" في فبراير/ شباط 1938 داعياً ل"تكوين القومية السودانية"، ولكنه لم يستطع شق طريق مستقل للنخبة الوليدة لتجتمع حول مشروع وطني وسط الانقسام بين دعاة الاستقلال ودعاة الاتحاد مع مصر، فأثروا وقد دبّت الخلافات بينهم للالتفاف حول زعيمي طائفتي الختمية بزعامة علي الميرغني، الأنصار بزعامة عبد الرحمن المهدي الذي رعى تأسيس حزب الأمة بتحالف ثلاثي بين أتباعه وزعماء العشائر ونفر من الخريجين، كأول حزب سياسي سوداني في 13 مارس/ آذار 1945.وتبعه تأسيس حزب "الأشقاء" ذو الميول الاتحادية، والحركة السودانية للتحرر (حستو)، الذي أصبح لاحقاً الحزب الشيوعي في 1949، وتأسست جماعة "الإخوان المسلمين" في الفترة نفسها كرد فعل على المد الشيوعي.
جدال بناء الأمة والدولة - صراع التقليد والحداثة:
أسئلة بلا إجابة لسبعة عقود
جرى لعقود الجدال بشأن التغيير الاجتماعي والاقتصادي في السودان المستقل داخل إطار من التنافس بين التقليد والحداثة، صُنًفت في دائرة "التقليد" القوى التي تنتظم تحت هوية "القبيلة" و"الدين"، الذين يتصدرهم قادة الإدارة الأهلية في نظام السلطة المحلية، والزعماء الدينيون للطرق الصوفية، وكلاهما يقدمان قاعدة ريفية للسياسيين الحضر، وقد شكلت الطائفتين الدينيتين "الأنصار" التي تمثّل قاعدة حزب الأمة، و"الختمية" التي تمثل قاعدة الحزب "الاتحادي"، قطبا الرحى في العملية السياسية للحركة الوطنية منذ أربعينيات القرن الماضي، وهو ما اتضح جلياً بانقسام مؤتمر الخريحين، الذي أسس أواخر الثلاثينيات ممثلاً للنخبة الحديثة المتعلمة، وبدلاً من أن تمثل طريقاً ثالثاً بين الطائفتين المسيطرتين اجتماعياً وسياسياً على القوى التقليدية، آثرت قيادات النخبة الحديثة المتعلمة الالتحاق بإحدى الطائفتين المتنافستين لاختصار الطريق للعب دور سياسي مؤثر يتكئ على القاعدة الشعبية للقوى التقليدية.
أما على صعيد "الحداثة" فقد رفع لواؤها الطبقات والجماعات الاجتماعية الحضرية، والنخب المثقفة، والجيش، والتجار، والمفارقة أن الدعوة للحداثة جاءت على حد سواء من المثقفين حاملي التوجه العلماني، والديني كذلك، لا سيما في الحزب الشيوعي السوداني، والحركة الإسلامية السودانية، ومجموعات وحركات منظمة آخرى.
لم يكن هذا الصراع بين القوى التقليدية والحداثية، في تمثلاتها المختلفة، في شأن التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي مجرد جدال نظري، أو تدافع عابر، بل امتد ليلعب دوراً حاسماً في تشكيل بنية الصراع على السلطة في السودان وشكّل طبيعة النظام السياسي خلال العقود السبعة الماضية منذ استقلال البلاد، فنسق "ديمقراطية وستمنيستر" الذي جرى تبنيه إثر رحيل الاستعمار البريطاني خدم الحزبين "الكبيرين" المستندين على القوى الاجتماعية ذات الولاء الصلب لطائفتي الأنصار والختمية والنظام الأهلي، وهو ما جعل النتائج الانتخابية تصب لصالحهما تلقائياً، وعلى الصعيد الآخر رأى دعاة "الحداثة" أن "الديمقراطية" في هذا السياق ليست حركة حديثة أو ثورية تحقق التغيير المنشود، وانها ليست سوى أداة تحتفظ من خلالها "القوى التقليدية" بالسلطة، ولذلك فإنه ليس وارداً أن تظفر بالاغلبية الانتخابية في ظل هذه التركيبة الاجتماعية لتصل إلى الحكم.
صحيح أن أول انقلاب عسكري نجح في الاستيلاء على السلطة في العام 1958 كان أقرب لعملية "تسليم وتسلّم" كما توصف أدبيات السياسة السودانية الطريقة التي جرى بها، حيث استدعى رئيس الوزراء أنذاك عبد الله خليل، وكان أيضاً السكرتير العام لحزب الأمة، قائد الجيش الفريق إبراهيم عبود إلى استلام السلطة في خطوة فُسرت على نطاق واسعة أن الهدف منها كان قطع الطريق على ذهاب منصبه لمنافسيه إثر تغيير في تحالفات الائتلاف الحاكم، إلا أن اللجوء إلى الانقلاب العسكري كوسيلة إسقاط السطة القائمة بالقوة، الذي سنّه زعيم الحزب المدني التقليدي الأكبر، سرعان ما أصبح وسيلة مغرية للقوى الحداثية، المحدودة القواعد الاجتماعية، التي لا تؤهلها للحصول على أفلبية برلمانية تقودهم إلى السلطة. وهم ما جعل هذه القوى الحداثية، سواء اليسارية العلمانية، أو الإسلامية، تسعى بشدة للتحالف مع العسكريين، واختراق الجيش، وإقحامه في لعبة السلطة والتحول إلى لاعب مركزي في السياسة السودانية.
وبالعودة إلى جدل التغيير في السودان لدولة ما بعد الاستعمار، وفي ظل تمكن جذور القوى التقليدية، التي لم يتح لها الدخول في القطاعات الحديثة إلا في نطاق محدود، اعتبر دعاة التحديث أن التغيير في ظل هذه المعادلة لا يمكن أن يحدث إلا بفرضه بقوة السلطة الشمولية من أعلى، وهو ما دعا محمود ممداني ليخلص إلى أن هذا الافتراض "يوضّح لماذا كان دعاة الحداثة في السودان مناهضين حتماً للديمقراطية، ولماذا افترضوا أن الغالبية العظمي من الشعب التي تعيش في القطاع التقليدي سيعارضون بالضرورة الحداثة والتغيير.
دور الجيش: الممارس أم الحارس؟، من الاحتراف إلى السياسة:
في الوقت الذي كانت تتشكّل فيه الحركة السياسية المدنية، بدأ تأسيس الجيش السوداني بإنشاء "قوة دفاع السودان" في 17 يناير/ كانون الثاني 1925 وجاء تأسيسها بقرار من الحكومة البريطانية بعد إبعاده القوات المصرية من السودان في إطار الصراع بينهما على مستقبل السودان.
حرصت بريطانيا على إبقاء قوة دفاع السودان "مهنية احترافية" وعزلتها عزلة تامة عن "المجتمع المدني" تجنباً للمؤثرات سياسية، ونجحت السياسة البريطانية في إبعاد العسكريين من لعب أي دور سياسي طوال الفترة الاستعمارية خارج خدمة أجندتها، ولم يُعرف للعسكرية السودانية دور في تحقيق الاستقلال.
عرف السودان أول انقلاب في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، بتدبير من رئيس الوزراء، وسكرتير عام حزب الأمة، عبد الله خليل حين أوعز إلى قيادة الجيش التدخل واستلام السلطة لتلافي مخاطر قدر أنها تحيط بالبلاد، فيما كان السبب المباشر لتسليمه السلطة للجيش قطع الطريق على تحالف رعته مصر لإسقاط حكومته الإئتلافية .
ويرى محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء الأسبق "1966- 1969" أن الأوضاع في السودان عقب الاستقلال عكست أزمة الأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة وتغليب مصالحها الذاتية في غياب توافق على مشروع وطني للدولة السودانية المستقلة حديثاً "كان الشئ الكثير متوقعاً من الأحزاب، فقصّرت جميعها في تحقيق هذه التوقعات، إذ لم يكن لديها برامج مفصلة ومحدّدة لمعالجة النمو الاقتصادي والاجتماعي، وكل قضية طرحت بعد الاستقلال كانت تعالج وفقاً لأهواء حزبية".
بيد أن القراء الفاحصة لما هو أبعد من العوامل الداخلية والصراع الحزبي الذي أدى إلى تدخل الجيش في السياسة وإجهاض حقبة الديمقراطية الأولى بإيعاز من طرف مدني، تشير إلى أن ثمة عوامل خارجية لعبت دوراً مؤثراً في هذا الخصوص في إطار صراع النفوذ البريطاني المصري على السودان الذي ظل محتدماً طوال النصف الأول من القرن العشرين، ولعب دوراً مهماً في تشكيل إتجاهات السياسة السودانية ونشأة الأحزاب وتوجهاتها، فقد كشفت وثيقة بريطانية عن انقلاب 1958، أن التخطيط للانقلاب كان حاضراً في الأجندة، منذ أزمة السويس 1956م، "كان هذا إجراءاً احترازياً حكيماً، وبعد سنة 1957 عندما بدأ المصريون يهددون الحدود الشمالية للسودان، تم تجديد وتعديل خطط السيطرة على الحكم المعدة مسبقاً من قبل الجيش، كما تم تعديل هذه الخطط مرة أخرى عندما اضطربت الأوضاع بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش العراقي في بغداد عام 1958".
شكّل نجاح انقلاب 1958 تربة خصبة هيأت انتقالاً جذرياً في طبيعة الجيش السوداني من الدور الاحترافي كحارس للنظام الدستوري "المدني" إلى لعب دور الحاكم الممارس "بنجاح انقلاب 1958 وضح لكل الأحزاب أهمية الجيش في حسم الصراعات السياسية، والدور المتوقع منه مستقبلاً، فتسارعت وتيرة الجهود في اختراقه وبناء الخلايات التنظيمية والقواعد وتيارات التعاطف في داخله. في تلك المرحلة، ولم يمض على نجاح الانقلاب أقل من عام حتى كان العمل السياسي التنظيمي الموجه من الأحزاب السياسية قد غرس أولى لبناته في جسم الجيش السوداني".
اخترقت التنظيمات الأيدولوجية الناشئة، الحزب الشيوعي السوداني، وجماعة الإخوان المسلمين الجيش كوسيلة فعّالة للوصول إلى السلطة بأقصر الطرق، فقد نفذ تحالف ضم "القوميين العرب، والشيوعيين، والضباط الديمقراطين تحت راية تنظيم الضباط الأحرار انقلاب 25 مايو/ أيّار 1969، جاء ذلك التحالف إلى السلطة وهو يحمل برنامج الجبهة الديمقراطية، الذي ضم في طياته الكثير من المشروع السياسي للحزب الشيوعي، وكان تشكيل مجلس قيادة ثورة مايو مرآة صادقة لذلك التحالف". ثم نشب صراع داخل المجلس حسم بإبعاد الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي في نوفمبر/ تشرين ثاني 1970، لتعقبها محاولة انقلابية في يوليو/ تموز 1971 بقيادة الضباط المبعدين أنفسهم لم تصمد إلا لثلاثة أيام فقط، وأعقبت عودة نظام نميري.
انقلاب "الإسلاميين":
أما الانقلاب الثالث في 30 يونيو/ حزيران 1989 فقد جاء خارج سياق سابقيه حيث كانا شأن عسكرياً خالصاً تخطيطاً وتنفيذاً وإن دُبّرا بإيعاز من قوى سياسية، وخلافاً لما يُعتقد على نطاق واسع أن ضباطاً ذوي توجهات إسلامية قاموا به، إلا أن أن هذا الانقلاب تم بقرار وتدبير الحركة الإسلامية السودانية بزعامة حسن الترابي، وبتخطيط وتنفيذ كامل بواسطة "التنظيم الخاص".
ليسجل ذلك سابقة في السياسة السودانية بتدبير كامل من خارج القوات المسلحة، وهو تطور كانت له تبعاته، وخلافاً للانقلابين السابقين بقيت فيها المؤسسة العسكرية هي مركز النظام الحاكم، فإن السلطة الحقيقية في حالة انقلاب "الإنقاذ" كانت في يد قيادة التنظيم الإسلامي، قبل أن تفقدها مع التحولات التي شهدتها الحركة نفسها لاحقاً بتأثير تفاعلات الصراعات الداخلية للسيطرة على النظام.
على الرغم من أن أن السودان لم يعرف مشروعاً وطنياً محل إجماع بعد الاستقلال، وبقيت بنية الدولة هشة بفعل الصراعات الحزبية وتدخلات الجيش في السياسية، وسط تخلف اقتصادي وتنموي، لكن تجربة "نظام الانقاذ" فاقمت من المشكلات الموجودة أصلاً، كما تسببت في إضفاء المزيد من التعقيدات على الأزمة السودانية بفعل حمولتها "الأيدولوجية"، فالحرب الأهلية في جنوب السودان التي كانت ذات طابع سياسي حركتها الفوارق التنموية والتهميش السياسي والاقتصادي، اتخذت بعداً دينياً وصراعاً وجودياً على الهوية بعد إدخالها لمفهوم "الجهاد" في الحرب ضد المتمردين، مما أدى إلى تدويلها وكانت النتيجة اضطرار"الإنقاذ" للدخول في اتفاقية سلام في 2005، تحت ضغوط غربية كثيفة أدت إلى فقدان السودان لوحدته الترابية وتقسيم البلاد بانفصال الجنوب في العام 2011، ولم تؤد هذه التضحية بوحدة البلاد إلى تحقيق السلام، بل أسهم في إعادة إنتاج الحرب الأهلية تحت الدواعي نفسها في جنوب البلاد الجديد وشرقها، وزادت من تأجيج الحرب في دارفور، فيما استعرت الصراعات والنزاعات القبلية واستخدام الميلشيات التي قادت تبعاتها لأن يصبح رئيس البلاد مطلوباً في المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.
ومن العواقب الوخيمة لانقلاب "الإنقاذ" خلافاً لسابقيه اللذين حافظا على كيان وهيكل الدولة السودانية، حيث اقتصر التغيير فيهما على هرم السلطة فيما بقيت مؤسساتها الأخرى محافظة على طابعها "المهني الاحترافي" المستقل تحكمها معايير الكفاءة، لجأت الحركة الإسلامية في إطار استراتيجيتها للتمكين والمحافظة على السلطة التي راهنت عليها كخيار صفري ربطت فيه مصيرها ومستقبلها باستمرار السيطرة عليها، إلى التمكن من مؤسسات الدولة وتفكيك بنيتها وإعادة هيكلتها وقامت بعملية إحلال واسعة النطاق طالت المؤسسات النظامية والخدمة المدنية وحشدتها بالموالين، ولم يكن ذلك فقط لإبعاد الخصوم بل أيضاً لمجرد توفير وظائف لمحسوبيها بغض النظر عن تأهيلهم، وقد أدت عملية التطهيرالواسعة هذه إلى تشريد الآلاف فيما عرف بموجة "الإحالة للصالح العام" التي بدأت مباشرة بعد تسلم السلطة وظلت عملية الاحتكار هذه ممارسة حتى سقوط النظام، وكانت أحد أسباب عزلة النظام عن المجتمع.
ولم تكن السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة لصناعة "دولة عميقة"، كافية وحدها لأغراض "تأمين بقاء النظام" فعمدت قيادة الحركة إلى تأسيس "دولة موازية" أو "دولة ظل" كسلطة بديلة خارج الأطر المتعارف عليها، تتحّكم في صناعة القرار الفعلي في سياسات الدولة في المجالات كافة، وتستحوذ على مواردها وتتصرف فيها دون أن تكون خاضعة للمحاسبة أو المساءلة، مع وجود مؤسسات رسمية شكلية بلا صلاحيات حقيقية.
فقد صنعت دبلوماسية شعبية في مقابل دبلوماسية رسمية، ودفاع شعبي مقابل جيش رسمي، وشرطة شعبية مقابل شرطة رسمية، وأمن شعبي مقابل أمن رسمي، واقتصاد رسمي تحت لافتة سياسة "السوق الحر" بينما تسيطر على الاقتصاد شركات "رمادية" تتحكّم في مفاصله، وهكذا أنتج مشروع "التمكين" الذي استولى على جهاز الدولة إلى نشوء "طبقة إنقاذية حاكمة" احتكرت السلطة والثروة معاً، وتستخدمها في المساومات السياسية في عقد صفقات مع بعض القوى المعارضة المستعدة للانخراط في تسويات ثنائية مع النظام.
وفي إطار تعزيز هذا "التمكين" جرت عملية مماثلة على الصعيد الاجتماعي بمشروع "إعادة صياغة الإنسان السوداني" تحوّلت إلى أداة سياسية عملت إلى إعادة هيكلة المجتمع الأهلي وخلخلة بنيته وعلاقاته وتوازناته الداخلية في محاولة لرسم خريطة جديدة وتجييرها لكسب الولاء السياسي. فأعادت إحياء الكيانات القبلية التقليدية واستخدمتها في صناعة قاعدة مجتمعية للنظام الحاكم، وهو ما اعتبره أحد المسؤولين "ردة في تفكير قادة الحركة الإسلامية".
تجريف الحياة السياسية:
ومن ضمن سياسات النظام لبسط سيطرته عمد منذ البداية إلى تجريف الحياة السياسية بحرمان القوى الحزبية المعارضة كافة من ممارسة أي نشاط، مع اعتقالات واسعة في صفوفها لم تقتصر على القيادات مع ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في المعتقلات على نحو غير معهود في صراعات السلطة في السودان، وقاد التضييق على المعارضة للجوء إلى الخارج، خاصة مصر وإرتريا التي احتضنت تحالف "التجمع الوطني الديمقراطي" الذي ضم معظم القوى المعارضة في شمال وجنوب السودان للمرة الأولى بانضمام الحركة/ الجيش الشعبي لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، وانخرطت في نشاط مسلّح بهدف إسقاط النظام.
الحراك الثوري الثالث: تعقيدات وتحديات:
فاجأت موجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في عدة مدن آواخر العام 2019 الطبقة السياسية برمتها، فقد كانت الحكومة مع إقرارها بتردي الأوضاع الاقتصادية مطمئنة إلى عجز خصومها عن تحريك الشارع على نحو يهدّد سلطتها من واقع خبرتها خلال ثلاثين عاماً وثقتها في قدرة أجهزتها الأمنية على إجهاض أية تحركات مماثلة، بينما كانت المعارضة على الجانب الآخر تتساءل لماذا يطول صمت الشارع، ولماذا لا ينتفض في وجه النظام مع توفر كل المعطيات المحفزّة لذلك؟.
وخلافاً للانتفاضتين السابقتين، اللتين بادرت بالدعوة لهما وقيادتها المجتمع المدني، اتحادات الطلاب والنقابات المهنية، ولحقت بها النخبة السياسية، فإن الحراك الشعبي هذه المرة بدأ عفوياً نتيجة تراكم الاحتقان الاجتماعي على خلفية تطاول أمد الأزمة الاقتصادية في ظل عجز حكومي تام عن معالجتها، إذ لم تتم الدعوة للثورة من قبل نخبة سياسية أو اجتماعية أو مشروع معين يحدد أطرها وآفاقها تنظيماً وقيادةً، فقد فوجئت بالأحداث وسارعت للحاق بالموجة والدفع بإتجاه توظيفها لتحقيق الشعار الذي التف حول المحتجون "تسقط بس."
وعكست مباغتة الحراك الثوري للجميع حالة "العزلة" بين الشارع والطبقة السياسية في جانبي الحكم والمعارضة، ذلك أنه على الرغم من حدة مما شهدته سنوات الإنقاذ الثلاثين في السلطة من حدة خصومة بين الطرفين، إلا أنه كانت هناك علاقة ملتبسة بينهما تجعلهما يبدوان كوجهي عملة احدة، من خلال التعايش والاعتماد المتبادل تم التعبير عنهما من خلال اتفاقيات سياسية ثنائية بين السلطة وبعض أطراف المعارضة، كانت أقرب لصفقات اقتسام السلطة والثروة بين النخب السياسية.
عمّق تبادل الأدوار هذا حول لعبة السلطة وسط النخبة السياسية، بالطبع مع بعض الاستثناءات المحدودة، الوعي بأن تطلعات الشعب معزولة عن انشغالات محترفي السياسة، وأن الصراع بينها في جوهره ليس حول رؤى ومشروع تحوّل وطني نحو تأسيس نظام ديمقراطي وفق الشعارات المرفوعة والاستعداد لدفع استحقاقات ذلك كاملة، بل تنازعاً بين الطبقة السياسية التي لا تزال تعمل بذهنية النظام السياسي القديم، على اختلاف أطيافه، حول امتيازات السلطة والتي كانت سبباً في انقساماتها المستدامة تاريخياً وعجزها عن تحقيق مشروع وطني جامع يثبت جدوى الدولة المستقلة.
الجيل الجديد وإعادة تعريف السياسة:
تعمّقت حالة العزلة هذه أكثر بفعل " الفجوة الجيلية" الكبيرة بين غالب سكان السودان اليوم، نحو ثمانين بالمئة من الفئة العمرية تحت الأربعين عاماً، وبين الطبقة السياسية المهيمنة، ذلك أنه في الوقت الذي لا تزال تتسّيد المشهد السياسي في البلاد قيادات في الأحزاب الرئيسية برزت مع "ثورة" 1964، وتنافسها إلى حد ما قيادات برزت مع "انتفاضة" 1985، فقد كان عماد "الحراك الثوري" من الجيل الجديد الذي تغلب عليه الاستقلالية خارج الأطر الحزبية من غير المنتمين لقوى سياسية منظمة، وإن تحققت له قاعدة واسعة داعمة من خلال تفاعل مجتمعي عريض من الفئات العمرية المختلفة.
لم تندلع ثورة ديسمبر 2018 من فراغ، فقد كان العامل الأهم في هذا الحراك هو نتاج نضوج عملية تراكم وعي من خلال حراك شبابي منتظم تزايد وتيرته في العقد الثاني من هذا القرن، فقد شهد السودان خلاله تحّولات مهمة في تفاعل الجيل الجديد مع الشان العام عبر انخراطه في العديد من المبادرات الهادفة لتعزيز الفعل السياسي وكذلك لخدمة المجتمع، كما عملت على رفع الوعي السياسي وفق مفاهيم جديدة تطورت عبر حوارات معمقة، حيث انخرطت مجموعات شبابية عديدة في نقاشات حول قضايا البلاد العامة شارك فيه منتمين لتيارات سياسية مختلفة إضافة إلى غالبية من غير المنتمين حزبياً، ومثّل ذلك الحراك وسط الجل الجديد "دلالة وعي شبابي يتجاوز التنظيمات السياسية والأيدولوجية بإتجاه إعادة تعريف السياسة في الواقع السوداني المعطوب" كما ذهب إليه كاتب هذه الورقة، وأكد أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم بروفيسر عطا البطحاني ما ذهب إليه الباحث معتبراً أن "اِعادة التعريف تحمل دائما معها ضرورة الانتقال من فضاء معرفى (برادايم) الى فضاء معرفى آخر، فمضمون اعادة تعريف السياسة لا بد ان يحررها من الفهم الاستغلالى والتسلطى القائم على فهم مقاييس القوة كمعادل للقوة العسكرية والنزعة الحربية والعنف والابادة لمفهوم يرى السياسة مجالا عاما رحبا للمشاركة والتضامن والايثار وتقديم النموذج الاخلاقى ".
أسهمت هذه المبادرات الاجتماعية، والحوارات الشبابية العابرة للأجندة الحزبية والأيدولوجية في تشكيل شبكة علاقات متضامنة واسعة ترفع مطلب التغيير، وبدأت تنشط في فضاء خارج الأطر التقليدية للنظام السياسي السوداني القديم، ولا غرو أن هذه المجموعات التي تميزت بقدرات تنظيمية عالية سارعت لالتقاط إشارة الحراك الشعبي، وأسهمت في تنظيمه وقياداته لا سيما إبان فترة الاعتصام في محيط القيادة العامة للجيش.
بيد أن الملاحظة الأساسية الجديرة بالذكر أنه على الرغم من الزخم الكبير للحراك الشبابي الذي شهدته المظاهرات والاحتجاجات الشعبية ضد نظام عمر البشير التي امتدت لبضعة أشهر من منتصف ديسمبر 2018، وحتى سقوط النظام في 11 أبريل 2019، إلا أن السمة الغالبة عليه ظلت في عداد الحشد العفوي المدفوعة بعاطفة ثورية عارمة، لا يستند على عمل حزبي منظم أو تنظيمات قاعدية، وفي تلك اللحظة التاريخية الفارقة برز دور "تجمع المهنيين السودانيين" الذي على الرغم من أنه لم يكن مبتدر الدعوة للحراك الثوري، فقد كان تأسس في العام 2016 كعمل نقابي مطلبي من قبل قوى معارضة مختلفة المشارب، وانحصر نشاطه في رفع مطالب للسلطات بتحسين شروط خدمة العاملين في قطاعات حكومية متلفة لمواجهة آثار تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة للتراجع المستمر في القوة الشرائية للملة الوطنية.
التقط "تجمع المهنيين السودانيين"، الذي كان يضم عددا من ممثلي قوى سياسية معارضة، قفاز المظاهرات التي اتسع نطاقها على نحو عفوي، ليقوم بدور المايسترو في ضبط مواقيت وخروج ومسارات التظاهرات، وتجاوب الثوار مع هذه الدور كخدمة تسهم في التحشيد دون أن تنظوي عليها أجندة سياسية ظاهرة، سوى الشعار ذي الهدف الواحد المشترك الداعي لإسقاط النظام "تسقط بس"، دون انشغال بيسناريوهات واستحقاقات اليوم التالي للسقوط.
ثم سارعت القوى السياسية المعارضة لتقتفي أثر "تجمع المهنيين"، واللحاق باللحظة، فتنادت للتوقيع على "إعلان لقوى الحرية والتغيير" الذي يتشكل من عدة تحالفات تضم أحزاب معارضة مختلفة التوجهات من أبرزها تكتل "نداء السودان" الذي يضم أحزاباً مثل الأمة بقيادة السيد الصادق المهدي، والمؤتمر السوداني بقيادة عمر الدقير، وآخرين، وععرف عن هذه الكتلة مساعيها للتفاوض مع نظام عمر البشير من أجل الوصول إلى تسوية سياسية، وهو ما حدا بالتحالف الآخر "قوى الإجماع الوطني" بقيادة الحزب الشيوعي على وصفها بقوى "الهبوط الناعم" حيث تتبنى خطاً ثوريا لمعارضة النظام يدعو إلى تغيير جذري وقطيعة كاملة مع مؤسساته.
احتفظ القوى الشبابية في غالبها بمواقف مستقلة، مع تفاعلها مع أجندة التغيير التي رفعها تجمع المهنيين وقوى الحرية والتغيير مع الأخذ في الاعتبار وحدة الهدف. وظلت هناك نوع من التناغم بين هذه الأطراف حتى الاعتصام الذي جرى في محيط القيادة العامة للجيش قبيل تدخله للإطاحة بالبشير، واستمر بعدها لأسابيع حيث تم فضه بالقوة بعدما أصبح يشكل عامل ضغط على المفاوضات السياسية بين العسكريين وقادة قوى الحرية والتغيير.
ما بعد الاتفاق العسكري – المدني:
بدأ منذ وقت مبكر بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019 بوادر التمايز في المواقف بين الكتلة الشبابية التي شكّلت غالب زخم الحراك الثوري وبين القوى السياسية الحزبية، إذ سرعان ما أصاب الإحباط قاعدة الحراك الشعبي الذي كان فجوة التباعد بينه وقيادة قوى الحرية والتغيير تتزايد إثر دخولها في مفاوضات مع المكون العسكري، الذي كان يشكّل اللجنة الأمنية للنظام التي قررت التخلي عن رئيسه في 11 أبريل 2019، تحت عنوان الانحياز إلى الثورة، وكانت روح الحراك تبحث عن تغيير ثوري كامل، وليست مجرد هدنة أو تسوية مع بقايا النظام الذي ثاروا ضده، وقد تحققت أسوأ مخاوف الكتلة الشبابية حين أبرم الطرفان اتفاقاً سياسياً ثم إعلاناً دستورياً لإدارة الفترة الانتقالية شراكة، على الرغم من مقتلة فض الاعتصام الذي كان أيقونة الثورة، لا سيما وأن التطورات اللاحقة لم تفلح في ترجمة الروح والمطالب التي رفعها الجيل الجديد وهو ينشد التغيير، فإذا به يرى الطبقة السياسية القديمة تواصل ممارسة نهج المحاصصات واقتسام السلطة والثروة في السوق السياسي، كشأن نظام البشير، فضلاً عن الضعف البيّن إن لم يكن الغياب شبه التام عن تمثيل الشباب من الجنسين سواء ن في آليات المفاوضات صناعة المستقبل السياسي، أو في هياكل السلطة التي تشكلت، حيث احتكر ممثلو النخبة السياسية القديمة التفاوض بإسم الحراك الثوري، كما استأثروا بالمناصب، وتغاضوا عن قضايا الشارع ومطالب الثوار سواء ما يختص بتحقيق العدالة لشهداء وضحايا الثورة، أو في شأن تجسيد شعاراتها (حرية .. سلام وعدالة)، فضلاً عن تزايد ضعف التواصل بين الطرفين والافتقار للشفافية في إطلاع الرأي العام على ما يجري في الكواليس أسهم في توسيع فجوة عدم الثقة، وتراجع فاعلية التفويض الذي كانت تحظى به قيادة قوى الحرية والتغيير.
شهدت فترة العامين الماضيين منذ تشكيل هياكل السلطة الانتقالية حالات من المد والجزر في الحراك الثوري، وتعددت المرات التي خرج فيها الشباب للتعبير عن احتجاجاتهم، فيما بقيت آذان الحكومة الانتقالية المفترض أنها تمثل الثورة، صماء عن مطالب الشارع، في وقت بدأت محاولات استقطاب متعددة الوجهات للكوادر الشبابية، وفي مقابل ذلك بدأت دعوات لتنظيم الحراك الشبابي والانتقال به من مرحلة الحشد التي اقتضها مرحلة فرض أجندة تغيير النظام، إلى مرحلة التنظيم الذي يعزّز من القدرة على الفاعلية السياسية عبر المشاركة في صناعة القرار. لا سيما في ظل انصراف غالب الشباب عن الانخراط في الأحزاب السياسية التي تعاني من قصور ذاتي عميق في بنيتها، وعجزها عن تجديد أطروحاتها القادرة على استيعاب تطلعات وطوحات الأجيال الجديدة.
صيغ وإشكال المشاركة الشبابية: تجربة لجان المقاومة
خلفية عامة:
شهدت ثورة ديسمبر دخول مجموعة كبيرة من الشباب في المعترك كفاعلين مؤثرين في صناعة المشهد السياسي وتوازناته، بدأت هذه الظاهرة بالتشكل عند مشاركة هؤلاء الشباب في المظاهرات العفوية التي بدأت في ديسمبر-يناير 2018/2019. ومع استمرار الحراك لشهور عدة بدأ العديد من هؤلاء الشباب في الانتظام ضمن تنظيمات أفقية تسمى "لجان المقاومة". مثلت هذه اللجان، إضافة إلى الأجسام المهنية التي لعبت دوراً مهماً -وممتداً عن إرث سابق في الانتفاضات الشعبية السودانية- ومجموعة من المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، القنوات الأساسية التي يتفاعل عبرها الشباب مع المجال السياسي.
وفي الحقيقة يمكن القول بأن هذه الظاهرة بدأت فعلاً قبل الثورة، وتحديداً في العقد الأخير للإنقاذ، حين زادت فاعلية المجتمع المدني وأعداد الشباب الفاعلين فيه، كما تشكل هذه الظاهرة أيضاً، امتدادً لظاهرة إقليمية أكبر شكلت السمة الأساسية للربيع العربي، وهي تحول الاحتجاجات الشعبية العفوية إلى وسيلة التغيير السياسي الأكثر شيوعاً في الإقليم.
ولكن الحالة السودانية اتسمت بصفة خاصة وهي أخذ الاحتجاجات العفوية شكلاً أكثر تنظيماً ومؤسسية بانضمام العديد من الفاعلين فيها إلى لجان مقاومة الأحياء، وطغيان دور اللجان على بقية تنظيمات المجتمع المدني، وبالأخص في المشهد الذي تلا انقلاب 25 أكتوبر. فقد كان تنسيق العمل الميداني الهدف والوظيفة الأساسية لهذه اللجان في بداية الأمر. ولكن بعد سقوط البشير وتكوين السلطة الانتقالية في ديسمبر 2019 وجدت اللجان نفسها منفصلة عن قوى الحرية والتغيير التي كانت تمثل القيادة السياسية للثورة مما اضطرها تدريجياً للعب أدوار "سياسية" تجاوزت مجرد المطالبة بإسقاط النظام، فنظمت اللجان احتجاجات متعلقة بقضايا عدة ابتداءً من طبيعة الشراكة التي تقوم عليها الفترة الانتقالية وحتى الاحتجاجات المرتبطة بقضايا السلام وسياسات الإصلاح الاقتصادي والعلاقات الخارجية.
كذلك، تعد أساليب الحراك المتبعة لإحداث تغيير سياسي إحدى أهم النقاط الداعية للنقاش والتفكر حياله، وخصوصاً عند التطرق إلى القضايا الأخرى التي امتد الحراك للتعامل معها؛ فعلى الرغم من نجاح أسلوب الحراك الرئيسي وهو الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات في تغيير رموز الأنظمة فإنه يظل عاجزاً عن إتباع ذلك بأي تقدم ملموس في بقية القضايا التي عمل عليها، ناهيك عن إحداث تغيير جذري في بنية الدولة وطبيعة الممارسة السياسية ككل. ولكن وجدت حالات ناجحة تمكن فيها الحراك من إتباع أساليب جديدة وتنفيذ جزء من مطالبه إجرائياً كحملات حماية الشهود في المحاكم والنيابة العامة، واعتصام محلية كرري الذي هدف لإنجاز تغيير في مستوى الحكم المحلي. ويبقى السؤال هنا مطروحاً حول قدرة هذه الأساليب، حال استمرارها وتطورها، على إنجاز التحول المطلوب بتحويل اللجان إلى جماعات ضغط تؤثر على العملية السياسية من خارجها، أو عدم نجاح هذه الأساليب أيضاً واضطرار الفاعلين في اللجان إلى دخول العمل السياسي الحزبي مباشرة.
وعلى كل حال فقد أنتج كل ما سبق، حالة خاصة امتنع فيها الشباب الفاعل في الثورة عن دخول المجال السياسي مباشرةً عبر تنظيمات وأحزاب سياسية، مع استمرارهم في التفاعل المستمر والمتعمق باستمرار معه. ومع اتفاق العديد من الفاعلين حول ضرورة زيادة تنظيم اللجان، فإن اختلافهم يظهر الطبيعة الحالية للجان وطبيعة دورها المستقبلي، وطبيعة القضايا التي يجب أن تعمل عليها.
وحيال ذلك برزت العديد من المواقف، منها:
1. الموقف القائل بضرورة عدم دخول لجان المقاومة إلى المجال السياسي وبقائها كأجسام رقابية.
يرى أصحاب هذا الموقف أن مشكلة الممارسة السياسية السودانية تتمثل في عدم وجود قواعد اجتماعية منظمة على أساس مصالح واضحة، بحيث توجد أحزاب سياسية معبرة عنها وممثلة لها، وبالتالي، فإن الخطوة الأولى لإصلاح الممارسة السياسية تكمن في إيجاد هذه القواعد المنظمة التي تشكل اللجان والتنظيمات المهنية نواة مثالية لها، أي إصلاح المجال السياسي عبر تنظيم المجتمع المدني.
2.الموقف القائل بضرورة دخول لجان المقاومة إلى المجال السياسي وتكوينها لحزب سياسي يحول مطالبها إلى برامج سياسية.
على عكس الموقف السابق، يرى هذا الموقف ضرورة انتظام الفاعلين في اللجان في تنظيمات وأحزاب سياسية يحققون عبرها أهدافهم مباشرة، حيث أن إصلاح الممارسة السياسية حسب أصحاب هذا الموقف لا يتأتى إلى بإنتاج تنظيمات سياسية جديدة تنجز أهدافها مباشرة.
3.الموقف القائل بأن لجان المقاومة بصورتها الحالية هي أجسام سياسية بالضرورة وإن ادعت غير ذلك.
يرى أصحاب هذا الموقف أن الحراك السياسي السوداني، وبحسب طبيعة الفئات المشاركة فيه وأهدافها ونشاطها انتقل من كونه انتفاضة شعبية عفوية تشارك فيها مختلف الفئات الاجتماعية إلى حراك ذي أهداف محددة تقوده فئات اجتماعية معينة، وإن لم يتبلور هذا الحراك بعد في تنظيمات سياسية واضحة.
وتنطلق المواقف السابقة أو تتأثر بشكل كبير، بالنقاط التي يلي ذكرها:
طبيعة تكوين اللجان القائمة على العضوية.
تعتبر لجان المقاومة والنقابات "تنظيمات قائمة على العضوية" على عكس "التنظيمات القائمة على المصلحة" كالأحزاب السياسية. فالتنظيم القائم على العضوية معرف بالصفات الأعضاء التي شكل شرطاً للانضمام إليه كالعمل أو السكن في مكان محدد، على عكس التنظيم القائم على المصلحة الذي يعرف استناداً إلى الأهداف التي قام التنظيم لتحقيقها كتطبيق برنامج سياسي. وعلى الرغم من تحديد اللجان أهدافاً لها كإسقاط النظام فإن قيامها على العضوية يجعلها أجسام مجتمع مدني خارجة عن المجال السياسي في جوهرها، على عكس الأحزاب السياسية.
الخلفيات الاجتماعية للجان.
مع استمرار الحراك أصبح واضحاً أن فئات اجتماعية محددة هي الأكثر مشاركة فيه. فأغلب المشاركين في الحراك هم من شباب وشابات الطبقة الوسطى المقيمين في المدن، فلم ينجح الحراك بشكل واضح في استقطاب فئات مجتمعية أخرى كقاطني الأرياف أو العاملين بالقطاع غير الرسمي في المدن، رغم وجود بعد حالات المشاركة والتنظيم من قبل هذه الفئات، ولذلك يدفع تشابه الخلفيات الاجتماعية لأعضاء اللجان والمشاركين في الحراك إلى الظن بأن هذا التشابه يقتضي تشاركهم لمصالح مادية محددة مما يرجح تحول اللجان تدريجياً إلى تبني أجندة سياسية تدعم هذه المصالح بالذات، وذلك أقرب إلى العمل السياسي.
تنوع وتداخل القضايا المؤثرة على الانتقال
ارتبط الانتقال الديمقراطي في السودان بالعديد من القضايا الأخرى كالسلام والإصلاح الاقتصادي والعلاقات الخارجية، وبسبب ذلك أصبح من الصعب تحديد الحد الفاصل بين هدف الانتفاضة الشعبية الأساسي وهو إسقاط النظام وبناء نظام ديمقراطي بديل، والقضايا الأخرى التي تمثل قضايا غير مجمع عليها بالضرورة ومتروكة عادة للتدافع السياسي. ولذلك يصعب تحديد النقطة التي ينتقل فيها فعل اللجان من فعل يهدف إلى الدفع نحو الانتقال الديمقراطي إلى فعل سياسي مستند على تصورات محددة عن الواقع.
في ما يلي مجموعة مقترحة من الأسئلة الأساسية لبدء النقاش بخصوص طبيعة الحراك الثوري في السودان وأدواره مستقبلاً:
أسئلة أساسية:
- ما هو الهدف الأساسي للحراك الثوري الجاري في السودان، وهل هو تحقيق الانتقال من الحكم السلطوي إلى حكم ديمقراطي فقط؟ أم أنه يطمح إلى إحداث تغييرات أكثر جذرية في الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد؟
- ما هو المجال الأمثل لتحقيق أهداف الحراك، هل هو المجال السياسي أم المجتمع المدني؟
- هل يحتاج الحراك إلى مشاركة شعبية تشمل فئات اجتماعية أوسع ليحقق أهدافه؟ أم أن الفئات الاجتماعية المشاركة حالياً قادرة على تحقيق أهداف الحراك لوحدها؟
- هل تعني مشاركة فئات اجتماعية محددة في الحراك انتقاله بالضرورة من كونه انتفاضة شعبية ذات أهداف وطنية يجمع أغلبية المواطنين عليها إلى كونه حراكاً سياسياً برؤى وتصورات لفئات محددة؟
- أين يكمن مفتاح إصلاح الممارسة السياسية بالسودان؟ هل هو في إصلاح المجتمع السياسي مباشرة؟ أم في زيادة تنظيم وتنوع المجتمع المدني؟
- هل يكفي انتقال أساليب الحراك إلى أساليب إجرائية محددة للضغط على السلطة والطبقة السياسية في إنجازه لأهدافه، أم أنه سيجد نفسه في نهاية الأمر مضطراً إلى دخول العملية السياسية بشكل مباشر؟
عن تجربة لجان المقاومة بمنطقة الخرطوم شرق:
تنظيمات بلا أجندة سياسية أم تنظيمات سياسية اجتماعية؟
في السطور التالية يروي محمد الطيب القيادي في لجان المقاومة المجهودات التي شهدتها محاولات تطوير وتنظيم لجان المقاومة وتعزيز أدوات تأثيرها في الفضاء العام، متناولاً التحديات اتي واجهتها خلال العامين المنصرمين، وهي نمودج لمحاولات مماثلة جرت في مناطق آخرى من العاصمة الخرظوم.
تطورت تجربة لجان المقاومة بأحياء الخرطوم شرق في التنسيق المناطقي والعمل المشترك عبر مراحل متتابعة استدعى الحراك في كل منها نوعاً جديداً من الفاعلية، بدءاً بالتنسيق الميداني مروراً بتنسيق المواقف السياسية وصولاً إلى تشكيل الهياكل المشتركة.
عرى الواقع السياسي والاجتماعي بعد توقيع الوثيقة الدستورية الحاجة إلى تشكيل المواقف المشتركة والحركة الجماعية للتصدي للتحديات التي تواجه اللجان؛ حيث تم اقتراح لائحة تنظيمية (هيكل تنظيمي) تنظم عمل ثلاثة هياكل مشتركة: مجلس، وسكرتارية، ومكاتب تنفيذية.
لم يتم تفعيل اللائحة المقترحة دفعة واحدة وتم الاكتفاء بتشكيل مجلس التنسيقية نظراً إلى عدم اكتمال تشكل هياكل اللجان القاعدية المكونة للتنسيقية بسبب التحديات المتنوعة التي كانت تواجهها اللجان في تلك المرحلة.
كما لم تتم إجازة اللائحة المقترحة التي تحدد مهام ومسؤوليات كل هيكل من هياكل التنسيقية وعلاقاتها البينية وآليات المساءلة والمحاسبة داخلها، نظراً إلى تحفظات استدعت مراجعتها والعمل على تطويرها.
استمر التطور التنظيمي على مستوى الأحياء حيث توسعت عضوية اللجان عبر انضمام الثوار والثائرات من سكان الأحياء الذين لم يكونوا أعضاء فيها، وتم اعتماد هيكلة تنظيمية متناظرة في معظم اللجان، كذلك تم اعتماد لائحة سميت بلائحة ضبط العضوية والسلوك العام تضمنت شروطاً للعضوية في لجنة المقاومة؛ وهو ما انعكس تلقائياً على هياكل التنسيقية بتفعيل السكرتارية والمكاتب التنفيذية تباعاً.
برزت تنسيقية الخرطوم شرق ككتلة ثورية منظمة بعد تفعيل هياكلها في الربع الثاني من العام ٢٠٢٠، إذ حفّز النشاط المتصاعد والفاعلية التنظيمية الملموسة الفاعلين/ات في مجلس التنسيقية للتفكير في تصميم برامج سياسية واجتماعية تعمل التنسيقية على تنفيذها بدلاً عن الاستمرار في التفاعل مع المتغيرات السياسية والاستجابة لموجات الحراك الجماهيري الموسمية المرتبطة بذكرى حراك ديسمبر.
حيث تم التوافق على تشكيل لجنة لصياغة ميثاق يحدد الأجندة والتصورات السياسية المشتركة التي تعبر عن حراك اللجان، لتتشكل بذلك الأرضية المشتركة التي يمكن أن تنطلق منها اللجان تجاه بناء برامجها وزيادة فاعليتها.
تم الفراغ من إعداد مسودة الميثاق في يونيو من العام ٢٠٢٠ ومناقشته في معظم اللجان المكونة للتنسيقية والموافقة عليه باستثناء بعض اللجان التي تغيب ممثلوها عن حضور اجتماعات المجلس.
تأجّل الإعلان عن الميثاق الذي سمي بميثاق "قوى الثورة وتأسيس الدولة المدنية" الذي كان مقرراً إعلانه قبل مواكب الثلاثين من يونيو 2020 لإتاحة الفرصة لمزيد من النقاش حوله.
ضعف الفاعلية السياسية للتنسيقية التي ارتبطت بموجات الحراك الجماهيري الموسمية وغياب القدرة على متابعة وإكمال المهام غير الحركية التي تتطلب إدارة النقاش والحوار والتواصل الفعّال؛ جعلت من الميثاق وثيقة سياسية أرشيفية.
شهدت الفترة ما بين الثلاثين من يونيو والسابع عشر من نوفمبر 2020 اختلالات وهزات تنظيمية ارتبطت بعدم القدرة على ترجمة شعارات تصحيح المسار التي رفعتها اللجان إبان الثلاثين من يونيو إلى فعل سياسي يخاطب الواقع السياسي والاجتماعي المتردي، كما شهدت تلك المرحلة ضموراً حاداً في عضوية اللجان التي أصبح نشاطها غير جذاب ولا مقنع للكثير من الفاعلين/ات الذين انتظموا في صفوفها.
في بداية سبتمبر من العام ٢٠٢٠ قرر مجلس التنسيقية الاستجابة لهذه التحديات عبر تشكيل لجنة لمراجعة وتطوير اللائحة التنظيمية للتنسيقية، لتتشكل اللجنة عبر تصعيد ممثلين من اللجان المكونة للتنسيقية.
بدأت اللجنة أعمالها بجلسة افتتاحية تم خلالها نقاش عام حول الاختلالات التي صاحبت التجربة وأوجه قصورها، نتج عنه توافق على مواضيع عمل اللجنة وآليات عملها. خلال جلساتها المتلاحقة أدارت اللجنة نقاشات موسعة حول المواضيع التي حُددت في الجلسة الافتتاحية وما تفرعت عنها من مواضيع وكان من أهمها موضوع التمثيل.
وأفضت محاولات الإجابة عن سؤال التمثيل إلى تشكل رأي مفاده أن هنالك أزمة عامة مرتبطة بالتمثيل السياسي حيث أن الغالبية الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير غير ممثلة سياسياً في هياكل الحكم الانتقالي ولا بد من العمل على تنظيمها واستنهاضها لانتزاع حقها في التمثيل السياسي، لا يكون ذلك بادعاء تمثيل اللجان لسكان الأحياء التي تنشط فيها بقدر تمثيلها للعضوية المنتظمة في صفوفها من سكان الأحياء.
خلال الجلسة الثالثة والتي خصصت لتعريف الهياكل التنظيمية أدير نقاش موسع حول تعريف مجلس التنسيقية الوارد في اللائحة القديمة وكان قد جاء فيه أن المجلس يمثل السلطة العليا في التنسيقية، حصيلة النقاش حول التعريف أفضت إلى تشكل رأي مفاده أن السلطة العليا هي الجمعيات العمومية للجان المشكلة للتنسيقية وأن الأداة الأمثل للتعبير عن هذه السلطة هي المؤتمرات القاعدية للجان المفضية إلى قيام مؤتمر عام للتنسيقية.
على مدى ستة أسابيع واصلت اللجنة جدول أعمالها وتمكنت في ختامه من تقديم مسودة نظام أساسي للتنسيقية مرفقة بمجموعة من التوصيات المرتبطة بالحوار والتداول القاعدي حول مسودتي الميثاق السياسي والنظام الأساسي. الخمول الذي أصاب التنسيقية وتراجع فاعليتها المستمر، دفعا بالنظام الأساسي الذي تم تطويره في ضوء التجربة إلى الأرشيف رفقة الميثاق السياسي.
شهدت الفترة ما قبل التاسع عشر من ديسمبر ٢٠٢٠ انقساماً سياسياً داخل التنسيقية بين اللجان التي وصلت إلى تشكيل موقف جذري من السلطة القائمة وإلى خلاصة أنه لا يمكن ترقيعها أو إصلاحها ولا بد من إسقاطها، واللجان التي تمسكت بالخيارات الإصلاحية التي تمثلت في دخول المجلس التشريعي والعمل من داخله على تصحيح الأوضاع المختلة؛ الأمر الذي انعكس على التنسيقية التي فقدت فاعليتها في تنسيق المواقف السياسية والعمل الميداني بين لجان المنطقة.
خلال الاجتماع الذي تلا مواكب التاسع عشر من ديسمبر 2020 تبنى مجلس التنسيقية فكرة تنظيم مؤتمر عام للتنسيقية بحثاً عن أوسع مشاركة ممكنة للجان وعضويتها في صياغة رؤى التنسيقية وإعادة تخليقها تنظيمياً بصورة تعيدها للتفاعل الخلّاق مع المشهد العام المضطرب، وكذلك للتواضع على أرضية مشتركة تحسم من خلالها الخلافات وتباينات المواقف التي طرأت بين اللجان.
تم تكليف لجنة صياغة اللائحة بعمل تصور لتنظيم المؤتمر العام، فرغت اللجنة من إعداد التصور في اليوم الأخير من العام ٢٠٢٠ ليتم تمريره على اللجان لمراجعته وإبداء آرائها حوله وتطويره.
تشكلت اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام مطلع العام ٢٠٢١ بعد عناء كبير، وباشرت أعمالها بمراجعة تصور تنظيم المؤتمر العام للتنسيقية الذي يمر عبر سلسلة من المؤتمرات القاعدية للجان.
توافقت عضوية اللجنة على تصميم ورشة تنويرية للجان يتم عبرها النقاش القاعدي حول مشروع المؤتمر العام وأهميته، وتقديم المحاور الأساسية للنظام الأساسي والميثاق السياسي، وتوضيح تصورات التحضير للمؤتمرات القاعدية وآليات إدارتها.
تمكنت عضوية اللجنة بعد عمل امتدّ لما يقارب الشهرين من صياغة التصورات المختلفة المراد نقاشها وتنقيحها عبر الورش المقررة، إلا أنها لم تتمكن من تقديم الورش نظراً إلى تراجع نشاط اللجان وأجواء الإحباط العام التي كانت سائدة حينها.
التحدي الأكبر الذي واجه المشروع هو بناء الوعي الجمعي وسط عضوية اللجان بضرورة إرفاق الفاعلية الميدانية لحراك اللجان بفاعلية سياسية مبنية على التصورات والأجندة السياسية الواضحة والمتوافق عليها بينهم، تبنى هذه الأجندة والتصورات عبر مراجعة نقدية لحراك اللجان وتجربتها السياسية والتنظيمية لتعيد ضبط بوصلتها صوب المجتمع للحوار معه وفقاً لقضاياه وأولوياته واستعادة الثقة في التواصل معه، وتطوير التصورات والرؤى وبرامج العمل التي تعبر عن رؤى عضوية اللجان في أولويات التغيير.
تتبع الطريق الوعر والمسارات المتعرجة التي مرت عبرها اللجان في منطقة الخرطوم شرق وصولاً إلى تشكيل معالم التصور الإستراتيجي النابع عن قراءة تحليلية للاخفاقات والإشكالات التي صاحبت تجربتها؛ يوضح كيف أن ضعف الفاعلية المرتبط بضعف الالتفاف حول موقف وتصور سياسي واضح ومشترك أدى في خاتمة المطاف إلى تعطيل مشروع تنظيم الكتلة الثورية الذي لم يتوقف منذ بداية تشكل اللجان، ويوضح كذلك أن الانتباه المبكر إلى سؤال التنظيم ومحاولات الإجابة عنه فتحت الباب عريضاً لسؤال الأجندة السياسية المشتركة التي تضمن الدرجة المطلوبة من الفاعلية التي تتأسس عليها العملية التنظيمية نفسها؛ لذا فإن غاية مشروع بناء التنظيمات الجماهيرية (لجان المقاومة وتنسيقياتها) هي بناء التنظيمات وتخليق أجندتها السياسية كتفاً بكتف، تأخر أيهما عن الأخرى يضعف من فرص استدامة المتقدمة ويعرّض التنظيم الجماهيري إلى خطر الفشل في تحقيق تطلعاته. تحدي المشروع الأساسي هو تنظيم جموع الثوار والثائرات لزيادة فاعلية العمل المقاوم وتخليق التصور السياسي المشترك الذي يهدي فعلهم.
إن فاعلية اللجان المتصاعدة خلال الحراك الجماهيري الحالي تمثل فرصة مثالية لتسليحها بالتصور السياسي المشترك الذي سيغذي ويعضد بكل تأكيد تصورات ومشاريع تنظيمها المستقبلية.
جدال واسع حول دور ومستقبل لجان المقاومة:
أراء نقدية في البناء القاعدي و تعقيدات الاصطفاف الثوري
يرى الدكتور بكري الجاك أن فكرة البناء القاعدي لها أصول معرفية في النظرية السياسية و العلوم الاجتماعية كوسيلة لتنظيم و ادارة المجتمع، و في تأسيس الانظمة السياسية و بشكل عام يمكن ارجاعها الي أصلين معرفيين من حيث التنظير و الممارسة: أولا، فكرة البناء القاعدي مستمدة من مستويات الحكم في الدولة، ففي الأنظمة الفيدرالية هنالك سلطة مركزية لها صلاحيات محددة مثل الدفاع، العملة، العلاقات الخارجية والتجارة الدولية كما في النموذج الأمريكي، اما بقية الصلاحيات من الشرطة و التعليم و ادراة الصحة و كل ما تبقى من خدمات تدار شراكة مابين حكومة الولاية و المحلية وادارات المدن و القرى الى مستوى مجلس التعليم School Board of education الذي ينتخب في كل دائرة ادارة مدرسية، بالطبع هنالك برامج تدار شراكة بين الحكومة الفيدرالية و مستويات مختلفة من الحكم المحلي مثل الوجبات التي تقدم للمدارس التي بها نسبة مقدرة من ذوي الدخل المنخفض. و حتي الدول المركزية مثل مصر تتمتع بمستوى من الحكم المحلي. و الفرق بين نظام مركزي و لا مركزي هو في أصل مصدر السلطات، ففي النظام الفيدرالي السلطة محلية في الاساس وهنالك تقاسم لبعض السلطات بين المركز و الولاية. أما في النظام المركزي فسلطات الاقاليم تمنح من المركز و لا تستمد من المحليات، وفي مثل هذه الانظمة كل السلطات محددة و معرفة وفقا لصيغة قانونية دستورية.
الأصل الثاني من البناء القاعدي ما يعرف بال (Grassroots) فتلك منظومات تقوم بعمل على مستوى القواعد ذات المصالح المتشابهة وهي عادة ما تقوم على أساس ما يعرف بال (Community-based Organizations) اي المنظمات المجتعمية القاعدية التي لها أشكال متعددة مثل الروابط المناطقية لخدمة أهداف محددة، ولها طرق عدة في التنظيم و أساسها أيضاً التعبير عن مصالح القواعد عن طريق تقليص التقارب بين القيادة و القواعد على نقيض المنظومات الهرمية التي تكون فيها القيادة علي مسافة بعيدة من القواعد.
وفقا لهذا الإطار النظري و حكمة التجارب العملية، فيبدو لي أن ما يدور من حديث وما يشاع من تصوارات حول البناء القاعدي قد لا تقود للنهايات التي يصبو اليها الناس، ففي الاساس فكرة البناء القاعدي ليست غاية في حد ذاتها و انما وسيلة لضمان شرعية التمثيل و التعبير الأمثل عن تطلعات المُمَثلين. وحتى فكرة البناء القاعدي في النقابات أعتقد انه علينا نحن السودانيون ادارة حوار جاد و شفاف بعيدا عن الأهواء السياسية حول كيفية تنظيم العمل النقابي وفق التطورات العصرية و المستجدات الحياتية في القرن الحادي و العشرين، الذي لا يشابه خمسينيات القرن الماضي في شيء، حيث لم يعد يمكن قيام جسم مركزي لكل مهنة قادر علي التعبير عن كل الاعضاء بما فيهم من أصحاب عمل و عمال، و في تقديري تجربة التطور التاريخي للعمل النقابي في السودان فيها خلط ما بين الاجسام التي تنظم المهن و هي اجسام احترافية مثل مجالس التخصصات التي تضطلع بتعليم المهن و تطويرها و تنظيمها و بين النقابات التي تعبر عن مصالح الأعضاء المادية.
في تقديري الحديث عن بناء قاعدي للجان المقاومة كحل سحري لمشكلة التمثيل التي أراها قادمة لا محالة ماهو الا شرك لوأد هذه التجربة بكل ما فيها من ابداع في الخيال و شجاعة في المبادرة و ابتكار في أدوات المقاومة و في طرق العمل و التفكير و ذلك لأن لجان المقاومة لجان سياسية بامتياز وان كان بعضها غير مُحَزّب اي (Nonpartisan) و هي ليست محايدة بمعني انها (apolitical) و تتأفف من السياسية و الاحزاب السياسية كما يتم تصويرها في المخيال الشعبي اذا ما عرفنا السياسة علي أنها "تعريف وإعادة تعريف المصلحة العامة و الخاصة."
ليكون هنالك معني للبناء القاعدي بهذا التصور علي لجان المقاومة أن تتحول الي حركة سياسية أو حزب سياسي بنظام اساسي و هدفه الكلي تأسيس سلطة مدنية كاملة في السودان و ادراة الانتقال الديمقراطي خلال مرحلة انتقالية لتأسيس الجمهورية الثانية تتم فيها المهام الآتية: توحيد الجيوش و بناء جيش وطني وفق عقيدة جديدة اساسها احترام الدستور و حماية الحدود و تقديس المواطنة، صناعة دستور دائم و الاستفتاء عليه، الاضطلاع بعملية بناء جهاز الدولة وفق عقيدة وظيفية جديدة، احلال السلام الدائم و العادل و تحقيق العدالة الانتقالية و من ثم الادارة الرشيدة لاقتصاد البلاد بالتوافق علي خطة تنموية. وفق هذا التصور سوف لن تكون هنالك لجنة مقاومة الصافية أو عد الفرسان بل حزب لجان المقاومة، أو سمه حركة التأسيس و البناء ان شئت، فرعية الصافية و هذا يعني ربما يكون هنالك فرعية احزاب أخري في الصافية و لا يمكن أن يزايد أحد علي أن لجنة الصافية لا تعبر عن كل الصافية حتي ولو ملأ ارانيك عضويتها نصف سكان الحي، فمن غير المنطقي أن تتطابق اراء الناس فقط لانهم يقطنون نفس الحي و هذا لب اعادة تعريف المصلحة العامة التي ليس اساسها السكن فقط بل ايضا المواقع الاجتماعية و الطبقية و التوجهات الايدلوجية و الوجدانية.
الخيار الآخر أن تظل لجان المقاومة و بكافة اشكالها و تنسيقياتها تلعب دور شبيه بدور تجمع المهنيين في السابق كقيادة شبحية تتمتع بدرجة عالية من المرونة و المناورة في تطوير أشكال المقاومة التنسيق وفي تأطير الخط السياسي الثوري ، والقدرة على المبادرة و هذا يعني أنه يجب الاجابة علي كيفية تنسيق الجهود لتطوير آليات بديلة لتمثيل الرؤية الثورية و الحديث نيابة عنها دون الدخول في سؤال شرعية التمثيل الاجرائية الذي لا اري اجابة له الآن في كل الاطروحات السائدة.
خاتمة:
فيما لا تزال تبعات وتداعيات الحراك الشعبي السوداني الثالث تتفاعل بعد ثلاث سنوات من سقوط نظام "الإنقاذ"، تشير المعطيات الراهنة وفق التحليلات التي ذهبت إليها هذه الورقة من واقع مواقف وممارسات الطبقة السياسية، المدنية والعسكرية على حد سواء، المتصارعة على تشكيل وترتيبات الفترة الانتقالية والنظام السياسي الذي ينجم عنها، أن توقّع أن تسفر مجمل هذه التفاعلات عن تأسيس نظام سياسي جديد يقطع مع تجربة تجربة حكم الإنقاذ، ويحقق تحوّلاً نوعياً في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة لينتج نظاماً مدنياً ديمقراطياً مستداماً، لا يزال أمراً بعيد المنال.
فقد تميّز الحراك الثوري السوداني بطابعه الشبابي الذي حرّكه التطلع إلى تغيير جذري في بنية الدولة السودانية يؤسس لقطيعة، ليس مع نظام الانقاذ فحسب، بل مع النظام السياسي السوداني القديم برمته الذي ظلت معادلاته تسيطر على الحياة السودانية لقرن كامل، الذي عجز عن إحدث أي تغير حقيقي مع تعاقب الأنظمة، إلا أن التعبير السياسي عن هذا التميّز للجيل الجديد لا يزال غائباً، ، فقد أعادت النخبة السياسية القديمة نمط الصراع الموروث نفسه حول المكاسب الحزبية، وليس حول مفاهيم ومهام انتقال أكثر عمقاً تستجيب لاستحقاقات تحوّل نوعي في مسار مستقبل الدولة السودانية بما يتفق وتطلعات جيل جديد منشغل بأجندة المستقبل أكثر مما هو مشدود للماضي بكل اخفاقاته.
وتؤكد حالة السيولة والاضطراب السياسي والاجتماعي الراهنة، وغموض مستقبله، عجز نخبة النظام السياسي السودان القديم وفشلها في التقدم لقيادة المرحلة وملء الفراغ، وعدم القدرة على التوافق على مشروع بناء الدولة وسط عجز سياسي بنيوي وقدرة على استشراف رؤية وطنية جديدة، ولذلك عادت للانقسام والتشرذم وسط بزوغ المشاريع الحزبية والفئوية المتنافسة لتحقيق المكاسب الضيقة في السوق السياسي القائم على مفهوم عقد الصفقات بين النخب لاقتسام السلطة والثروة التي كانت أحد أبرز أدوات نظام الإنقاذ، ودخلت القوى العسكرية أيضاً في هذه اللعبة تحاول الاستفادة من من اهتراء المجتمع المدني والسياسي لضمان الحفاظ على امتيازتها.
ويعقّد من المشهد السوداني كثافة التدخلات الخارجية الساعية لتطويع ترتيبات الفترة الانتقالية لخدمة أجندتها المتنافسة والمتناقضة مع المصالح الوطنية، وسط إظهار العديد من أطراف المعادلة الراهنة، من العسكريين والمدنيين، تماهيها مع بعض المحاور الأجنبية، مما يكشف غياب الإرادة الوطنية لديها وتأثير ذلك في تحديد مستقبل السوداني السياسي.
ومع استمرار سيطرة عقلية النظام السياسي القديم، وبقاء الجيل الجديد خارج دائرة الفعل بحسابات المعادلة الراهنة، فإن إعادة إنتاج فترة انتقالية هشّة هو السيناريو الراجح، كما أن فرص حدوث تحوّل ديمقراطي حقيقي تنضاءل في ظل غياب رؤية مستقبلية استجابة لتطلعات الشباب، والافتقار لإرادة وقيادة حاسمة لتغيير جذري لبنية لنظام السياسي السوداني القديم، يرشحّ استمرار الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.
__________________________________________________________________
*ورقة عمل قدمت في المؤتمر "الشبـاب والمشـاركة السيـاسيـة الصيغ، الأشكال، والتحديات"، والذي نظمه مركز القدس للدراسات يومي 15 و 16 كانون ثاني/ يناير 2022 في الاردن-عمّان.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة