2020-02-08
الكاتب : أستاذ عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
يجمع المراقبون الأردنيون على أن بلادهم تمر بواحدة من أصعب المراحل التي مرت بها خلال العشرين عاماً الفائتة، حيث تتظافر جملة من العوامل الداخلية والخارجية في خلق حالة من "انعدام اليقين - uncertainty" حول المستقبل، وتتراكم الأسئلة والتساؤلات حول الكيفية التي ستواجه بها الدولة، بمؤسساتها المختلفة، جملة التحديات والتهديدات التي تجابه الأردن والأردنيين.
على الصعيد الداخلي، تكاد تجمع التقارير والدراسات، أن ليس ثمة حلول في المدى القصير والمباشر، للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، والتي أفضت إلى خلق سلسلة من الأزمات الاجتماعية المتناسلة، إذ على الرغم من استجابة الأردن لتوصيات صندوق النقد الدولي، إلا أن الاقتصاد الوطني ما زال يعاني من ضعف شديد في معدلات النمو، يقابله ارتفاع في المديونية (حوالي 95 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي) ، وعجز متراكم ومتزايد في الموازنة العامة للدولة على الرغم من قوانين الضرائب الجديدة التي جرى فرضها العام 2018، وتسببت بإطلاق موجة من الاحتجاجات الشعبية والشبابية، أدت إلى إقالة حكومة الدكتور هاني الملقي (2018)، وتَولّي الدكتور عمر الرزاز رئاسة حكومة جديدة... تلك الاحتجاجات التي ما زالت تتواصل حتى اليوم، وإن اتخذت أشكالاً جديدة، لتنخرط فيها قوى اجتماعية جديدة، مثل نقابة معلمي المدارس التي قادت إضراباً غير مسبوق في تاريخ المملكة من حيث شموله وطول مدته ، فضلاً عن تنامي الحركات الاحتجاجية – المطلبية لقطاعات مختلفة من الأردنيين.
وبوجود أكثر من مليون أردني تحت خط الفقر (من أصل 6.5 مليون)، فشلت برامج التصحيح الاقتصادي في حفز النمو وجذب الاستثمار، الأمر الذي أدى إلى تزايد معدلات البطالة التي تكاد تلامس حاجز الـ 20 بالمائة، وتتفشى بشكل خاص، بنسبة تزيد على 41 بالمائة، في أوساط الشباب والخريجين الجدد، الذين لم يستطع القطاع الخاص توفير فرص عمل لهم، في حين يبدو القطاع العام للدولة الأردنية، متخماً بأعداد كبيرة من الموظفين الفائضين عن الحاجة.
الحكومات الأردنية المتعاقبة، ترد الأزمة الاقتصادية إلى تفاقم الأزمات الإقليمية المحيطة بها، واحتدام حدة الصراعات بين المحاور الإقليمية والدولية المتنازعة ... فحدود الأردن الشمالية مع سوريا ظلت مغلقة لسنوات، وحركة التبادل التجاري مع الجارة الشمالية تخضع بدورها لنظام العقوبات الأمريكية – الأوروبية الصارم المفروض على سوريا ... وحدوده الشرقية مع العراق، تعرضت بدورها للإغلاق بعد اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية لمناطق غرب العراق، والتبادل التجاري والاقتصادي مع العراق، بالكاد جرى استئنافه وإن بوتائر بطيئة حتى الآن... كما أدى الوضع الأمني المضطرب في سيناء المصرية خلال السنوات الماضية، إلى ضرب المورد المستقر للغاز المصري للأردن، ورفع تكاليف إنتاج الطاقة الكهربائية، وزاد ذلك في عبء المديونية.
وتضيف قضية اللجوء السوري الكثيف في الأردن (الحكومة تتحدث عن 1.3 مليون والمفوضية السامية للاجئين تتحدث عن أقل من 700 ألف لاجئ) إلى الاقتصاد الوطني الضعيف أعباء إضافية، في ضوء شح الموارد وضعف البنى التحتية وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
لكن كثيراً من المراقبين والمحللين، يرون أنه لا يمكن تحميل "العوامل الخارجية" وحدها المسؤولية عن تفاقم الأزمات الاقتصادية – الاجتماعية، إذ يعزون كثيراً من الأسباب إلى فشل السياسات الاقتصادية والمالية للحكومات المتعاقبة، وسوء إدارة الأزمات، وترهل الجهاز البيروقراطي للدولة، وتفشي ظاهرة الفساد، في غياب منظومة شفافة وفاعلة للمساءلة والمحاسبة، سيما أن السنوات الأخيرة، شهدت تراجعاً في مستوى الحريات العامة، وإحجاماً عن دفع مسارات التحول الديمقراطي إلى الأمام، بحجج وذرائع شتى، أهمها تفاقم التهديدات الإرهابية.
التحديات والتهديدات الخارجية
لأول مرة منذ حرب الخليج الثانية (قبل أربعة عقود تقريباً)، تشهد علاقات الأردن مع حلفائه الاستراتيجيين: الولايات المتحدة ودول خليجية وازنة (السعودية بخاصة)، حالة من الاهتزاز و"انعدام اليقين"، من دون أن تتضح حتى الآن، الكيفية التي ستتطور بها هذه العلاقات في المرحلة المقبلة، حتى أن كثيراً من المراقبين قد بدأوا يحاججون بأن التحديات الأبرز التي تجابه الأردن في المرحلة الحالية والمقبلة، إنما تأتيه من حلفائه وأصدقائه، وليس من خصومه التقليديين.
حين ينبعث القلق من الحليف الأكبر
صحيح أن الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول المانحة للأردن (اقتصادياً وعسكرياً)، وأن مستويات التنسيق بين البلدين ما زالت على حالها، وأن لديهما أجندة مشتركة في الحرب على الإرهاب على وجه الخصوص ... لكن الصحيح كذلك، أن تصور إدارة الرئيس دونالد ترامب للحل النهائي للقضية الفلسطينية والمعروف باسم "صفقة القرن" يحمل في طياته ثلاثة تهديدات لأمن الأردن واستقراره وهويته الوطنية:
التهديد الأول؛ يتعلق بمصير اللاجئين الفلسطينيين المقيمين على أرضه، وعددهم الإجمالي يقترب من 4.4 مليون لاجئ، وفقاً للإحصاءات الرسمية الفلسطينية، يتوزعون على مختلف الوضعيات القانونية، ثلثهم على الأقل، لا يتمتع بالجنسية الأردنية ... وهناك التوجهات الجديدة للإدارة الأمريكية بخصوص "إعادة تعريف اللاجئ"، وحصر اللجوء بالجيل الأول من اللاجئين الذين غادروا مدنهم وبلداتهم بفعل الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) وتداعياتها، وهؤلاء تتراوح أعدادهم في كل مناطق الانتشار الفلسطيني في العالم، ما بين 35 – 40 ألف لاجئ، أصغرهم سنّاً يبلغ من العمر 71 عاماً في بلد يبلغ متوسط أعمار سكانه 74 عاماً ... مثل هذا التصور، لا يعني إسقاط حقوق هؤلاء في العودة والتعويض وإسقاط حق الدولة المضيفة في التعويض كذلك، بل وقد يفتح الباب أمام محاولات إخضاع الأردن لضغوط تهدف إلى دماجهم في الحياة السياسية والعامة ومنح الجنسية الأردنية لما يزيد على مليون فلسطيني مقيم في الأردن، الأمر الذي سيحدث "انقلاباً ديموغرافياً" سيفضي إلى تفاقم "النزاعات الهويّاتية"، ويقرّب الأردن من أن يكون وطناً لأكثر من ثلث التعداد العام للفلسطينيين في العالم.
ثمة خشية من أن سيناريو كهذا، قد يفضي إلى خلق حالة من عدم الاستقرار، تتهدد أمن البلاد وسلمها الاجتماعي، وتحول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى نزاع فلسطيني – أردني، سيما في ضوء التقصير المتراكم في انتهاج سياسات تعتمد "الإدماج" و"المواطنة المتساوية" ... وتزداد هذه الخشية، في ضوء الإحجام المرجح للمجتمع الدولي في تقديم العون الاقتصادي والمالي للأردن لتمكينه من استيعاب تداعيات كهذه، وقد كشفت "ورشة المنامة" حيث عُرض الشق الاقتصادي من "صفقة القرن"، أن المبالغ التي يجري التفكير بمنحها للأردن (حوالي سبعة مليارات دولار) في السنوات العشر القادمة، تبدو ضئيلة للغاية، وتعكس "قلة اكتراث" الحليف الأمريكي بحجم هذا العبء السكاني الذي يتحمله الأردن، سيما أن نصف هذا المبلغ فقط، سيكون على شكل مساعدات، أما نصفه الآخر فسيكون على شكل قروض ميسرة.
ويقاوم الأردن بضراوة، سياسياً ودبلوماسياً، محاولات إنهاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي تقودها إدارة ترامب بتشجيع وتحريض من قبل حكومة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، ليس لأن استمرار عمل الوكالة يرفع عبئاً مالياً ضخماً عن الأردن وموازنته الهشة فحسب، بل لأن إنهاء عمل الأونروا يعني من ضمن ما يعني، القذف بكرة اللاجئين الملتهبة في ملعب الأردن، وفي ملعبه وحده تقريباً.
التهديد الثاني؛ ويتصل بمصير "الرعاية الهاشمية" للمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، وهي رعاية ممتدة ومتصلة منذ قرابة قرن من الزمان، شكلت وتشكل، مصدراً من مصادر شرعية النظام السياسي الأردنية (الشرعية الدينية)، ولقد سجّلت السنوات العشر الأخيرة، تنامي الانتهاكات الإسرائيلية لهذه المقدسات، وغالباً برعاية رسمية من مسؤولين كبار حكوميين وبرلمانيين وحزبيين وأمنيين، وفي استفزاز صريح وفج للعاهل الأردني والعائلة الهاشمية، بل وللرأي العام الأردني بصورة عامة، حيث تتحول الرعاية الأردنية للمقدسات، إلى مهمة شديدة الصعوبة، حتى لا نقول مستحيلة.
ويزداد قلق الأردنيين، حين تصدر "التسريبات" من مصادر إسرائيلية، تشي باستعداد الحكومة للنظر في توسيع نطاق "الرعاية" وإدخال دول أخرى إلى حلبتها، مثل السعودية، التي تنامت علاقاتها مؤخراً مع إسرائيل، وتحديداً منذ أن صعد نجم ولي العهد السعودي في السنوات الأربع الفائتة... مثل هذا السيناريو، لا يلحق الضرر بالعلاقة الأردنية – الإسرائيلية فقط، بل ويخلق نوعاً من الفتور في العلاقة ما بين الرياض وعمّان كذلك.
التهديد الثالث؛ ينطوي التصور الأمريكي – الإسرائيلي للحل النهائي للقضية الفلسطينية على فرضيات منها: لا دولة مستقلة وقابلة للحياة، أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، مصادرة مناطق واسعة من الضفة بعد الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وآخر فصول هذا التصور، ما تعهد به نتنياهو أثناء حملته الانتخابية الأخيرة بضم غور الأردن وشمال البحر الميت والمستوطنات في حال انتخابه رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وهي مناطق تعادل مساحتها 30 بالمائة من المساحة الإجمالية للضفة الغربية.
يعتقد الأردن أن أي حل للقضية الفلسطينية لا يقوم على أساس "حل الدولتين"، لا ينتقص فقط من الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، بل ويفتح الباب لاحقاً لأدوار أردنية غير مرغوبة في توفير شروط استدامة هذا الحل ... فثمة خمسة ملايين فلسطيني في الأراضي المحتلة، إن لم تتسع لهم دولة مستقلة وقابلة للحياة، فإن الأردن سيكون عرضة لضغوط إسرائيلية ودولية، وربما من بعض الدول العربية، من أجل توفير عناصر الديمومة للكيان الفلسطيني (غير القابل للحياة)، وهنا قد يبقى الباب مفتوحاً لسيناريوهات من نوع: الفيدرالية، الكونفدرالية، الخيار الأردني، التقاسم الوظيفي وغيرها ... وهي سيناريوهات يرى الأردن أنها تملي عليه أدواراً لا يرغب بها، وليست له فيها أي مصلحة، وربما تفضي إلى تعريض أمنه واستقراره وهوية دولته الوطنية للخطر، وقد تفاقم خطر المس بسلامة نسيجه الاجتماعي إن حدث "الانقلاب الديموغرافي الثاني" ... الانقلاب الديموغرافي الأول، سيكون في حال ممارسة ضغط على الأردن لتجنيس أكثر من مليون فلسطيني يقيمون الآن على أرضه.
مثل هذه التحديات التي تثير قلق الفلسطينيين في الأردن لتنكّرها لحقوقهم في العودة والتعويض، حتى وفقاً لــ "معايير كلينتون"، تثير بالقدر ذاته، وربما بدرجة أعلى، قلق الأردنيين من أصول "شرق أردنية"، الذين يشعرون أنهم سيصبحون "أقلية في وطنهم"، مرشحة لمزيد من الضمور في حال وجد الأردن نفسه مرغماً على القبول بأدوار تتعلق بمستقبل الفلسطينيين في الضفة أو ما سيتبقى منها.
يدرك النظام السياسي الأردني تمام الإدراك، حقيقة ما قد يترتب على تمرير "صفقة" من هذا النوع، لكن التحدي الأكبر للأردن، أنه لا يتوفر على الكثير من الأوراق لمواجهتها أو إحباطها، سيما في ظل "الاعتمادية" الكبيرة التي تميز علاقات عمّان بواشنطن، وفي حقول استراتيجية عسكرية وأمنية واقتصادية ومالية.
إسرائيل تغيرت
ثمة قناعة تهيمن على معظم الأردنيين، سواء في مؤسسات صنع القرار أو على صعيد الرأي العام الأردني، مفادها أن إسرائيل التي أبرم الأردن معها معاهدة سلام قبل ربع قرن، لم تعد هي ذاتها اليوم، وأن ثمة مياهاً كثيرة قد جرت تحت الجسر، حيث لا يتوقف المجتمع الإسرائيلي عن الانزياح نحو اليمين الديني والقومي الأكثر تطرفاً، وحيث معسكر السلام، يكاد يقبع على أقل من دزينة واحدة من المقاعد في أقصى يسار الكنسيت الإسرائيلي.صحيح أن السلام الأردني– الإسرائيلي ما زال "صامداً" بعد مرور ربع قرن على توقيع المعاهدة بين الجانبين، لكن الصحيح أنه سلام بارد للغاية، يتأثر باستعصاء عملية السلام على المسار الفلسطيني، وبالإدارة الاستفزازية للحكومة الإسرائيلية لبعض الخلافات والأزمات التي طرأت على العلاقة بين الجانبين (حادثة السفارة الإسرائيلية في عمّان، مقتل المحامي الأردني رائد زعيتر على الجسر من قبل حرس الحدود الإسرائيلي) والأهم من كل هذا وذاك، تتوالى الانتهاكات للرعاية الهاشمية للمقدسات، فضلاً عن المعلومات والتقارير التي تتحدث عن مماطلة إسرائيلية بتسليم منطقتي الغمر والباقورة المستأجرتين منذ 25 عاماً، للأردن، بعد رفض السلطات الأردنية تجديد عقد الإجارة.
وتعاني العلاقة بين قيادتي الجانبين من "نقص في الكيمياء"، بدأ مع محاولة الموساد الإسرائيلي اغتيال خالد مشعل زعيم حماس في عمّان في العام 1997، ولم يتوقف مع مسلسل الأزمات التي أدت إلى فقدان ثقة الملك عبد الله الثاني بشخص رئيس الوزراء نتنياهو وأركان حكومة اليمين المتطرف.ويسود الاعتقاد في عمّان، بأن "النخبة الحاكمة" اليمينية في إسرائيل، لم تعد تكترث بتطوير العلاقة مع الأردن، وأنها تنظر للسلام مع الأردن بوصفه طريقاً ذات اتجاه واحد، وأنها ماضية في سياساتها بتهويد القدس و"أسرلتها"، والتوسع الاستيطاني في الضفة، والتلويح بضم غور الأردن لسيادتها، دونما اكتراث بأثر هذه السياسات على دور الأردن ومكانته ومصالحه.
كما أن عمّان تتابع بقلق تركز الاهتمام الإسرائيلي بالتطبيع مع دول خليجية أكثر من اهتمامها بتحسين وتطوير العلاقة معها، من منطلق مشترك، ينظر لإيران بوصفه "العدو الأكبر"، ويسعى في البحث عن "مشتركات" بين دول عربية خليجية وإسرائيل على هذه القاعدة، وهي مقاربة يرى الأردن أنها تدفع بالقضية الفلسطينية ومصالحه في حلها، إلى أدنى سلم الأولويات الإقليمية والدولية.العلاقات بين الأردن وإسرائيل ربما تكون في أسوأ حالاتها، على الرغم من استمرار العمل والتنسيق في القنوات الأمنية والاستخبارية الخلفية، فلا السلام أدى إلى الازدهار بعد ربع قرن على توقيع المعاهدة، ولا سلام "دولة لدولة" تحول إلى سلام "شعب لشعب"، بل على العكس من ذلك تماماً، فالحملات لمحاربة التطبيع مع إسرائيل في الأردن، تكتسب مؤيدين جدداً، ومن داخل أوساط الحكم والدولة، وتتصاعد "الكراهية للعرب" في إسرائيل مع تنامي نفوذ قوى التطرف الديني والقومي في المجتمع والدولة الإسرائيليّين.وليس صدفة أبداً، أن يجري التلويح، ولأول مرة منذ محاولة اغتيال خالد مشعل، من قبل الملك عبد الله الثاني ومسؤولين كبار في الدولة، بأن سلام الأردن مع إسرائيل ليست طريقاً ذات اتجاه واحد، وأن مجريات الوضع على المسار الفلسطيني ستؤثر على سلام الأردن مع إسرائيل ومعاهدته معها... ولعل هذه المواقف، المؤيدة شعبياً، لم تكن رد فعل على التهديد بضم غور الأردن وشمال البحر الميت لإسرائيل فحسب، بل هي اعتراض أردني على أرفع المستويات على الفرضية الإسرائيلية التي تقول بإمكانية فصل المسار الفلسطيني عن مسارات السلام والتطبيع بين إسرائيل وكل من الأردن ومصر ودول عربية أخرى... وهي تعبير لرفض أردني عميق لـ"عقلية المنتصر" التي تتحكم بالقرار السياسي والأمني الإسرائيلي، الذي يحاول فرض إملاءاته، ومن جانب واحد، على "المهزوم"، وفقاً لمعادلة صفرية "zero-sum game”، وليس لمعادلة "رابح – رابح".
الأردن والخليج... أولويات متباينة
ثلاث دول خليجية على الأقل (السعودية، الإمارات والبحرين)، تنظر لإيران بوصفها التهديد الوجودي لأمنها واستقرارها وسلامة ووحدة أراضيها ومجتمعاتها، وتنظر في المقابل لإسرائيل بوصفها "مشروع حليف" في مواجهة الخطر الإيراني، ولهذا السبب بالذات، سجلت علاقات هذه الأطراف "اختراقاً نوعياً" في السنوات القليلة الفائتة، ودائماً برعاية وتشجيع من قبل إدارة الرئيس ترامب، التي سعت لإقامة "حلف شرق أوسطي" و"ناتو عربي" في مواجهة إيران، ونظرت بدورها للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بوصفه "تفصيلاً" محدوداً في إطار "الصورة الأكبر".
تاريخياً، استمد الأردن عناصر قوته في علاقاته مع جيرانه الخليجيين، من أوراق قوة ثلاث لطالما تمتع بها، واستخدمها على أفضل وجه، لخلق نوع من التوازن في علاقة بلد صغير ومحدود الموارد، مع دول جوار ثرية، تتمتع بنفوذ إقليمي ودولي وازن، ويبدو أن هذه الأوراق باتت تفقد قيمتها اليوم، أو أن قيمتها النسبية أخذت في التراجع والتآكل:
الأولى؛ وظّف الأردن موقعه "الجيوبوليتيكي" كمنطقة عازلة “Buffer Zone”، بين إسرائيل والنفط، هذا الدور لم يعد مطلوباً من معظم، إن لم نقل جميع دول الخليج الثرية، التي باتت تتسابق في نسج علاقات سرية وعلنية، أمنية – عسكرية واستخبارية واقتصادية مع إسرائيل، وتنسق جهودها معها لكسب تأييد واشنطن في مواجهة إيران ... وبدل اللقاءات السرية التي كانت تنتظم بحذر في عمّان والعقبة، باتت الاتصالات المباشرة والزيارات المتبادلة بين هذه الدول تتم على نحو منهجي ومتكرر، وأمام عدسات الصحافة والإعلام.... كما أن تعويل إدارة ترامب، على السعودية والإمارات، في توفير "إطار إقليمي" لمبادرته المعروفة باسم "صفقة القرن"، دفع الأردن ومصر، الدولتان اللتان طالما وفرتا هذا الإطار، إلى الخلف، وأضعف مكانتهما الإقليمية.
الثانية؛ لعب الأردن دوراً مهماً، أمنياً وعسكرياً، في حفظ أمن الخليج الداخلي، والدفاع عن دوله في مواجهة تهديدات الحرب الباردة وتحدياتها (حرب اليمن، التمرد في عُمان، دعم البحرين والسعودية)، كما لعبت القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأردنية، دوراً مشهوداً في بناء المنظومات العسكرية والأمنية الناشئة لهذه الدول في ستينات القرن الفائت وسبعيناته ... يبدو أن هذا الدور، لم يعد مطلوباً، بعد أن أمكن لهذه الدول الحصول على الأسلحة والتدريب والمعدات الأكثر تطوراً من دول الغرب الكبرى، التي باتت بدورها تحتفظ بوجود عسكري وأمني وقواعد على الأرض وفي المياه الإقليمية لهذه الدول.
ومنذ حرب الخليج الثانية (1990-1992)، اختار الأردن سياسة أكثر حذراً حيال أزمات الخليج، بدأت بتفادي الانضمام إلى تحالف "عاصفة الصحراء" ضد نظام صدام حسين في حرب الخليج الثانية، وانتهت في الفترة الأخيرة بالاكتفاء بدعم سياسي و"معنوي" لـ"عاصفة الحزم"، وهو الاسم الذي أطلقه ولي العهد السعودي على الحرب الدائرة في اليمن وعليه، من منطلق "أن هذه الحرب ليست حربنا"، وإنها "فائضة عن الحاجة"، وأنها ستتحول إلى مستنقع سيبتلع كل من يتورط فيها... الأمر الذي عمّق الإحساس بعدم الثقة بين الجانبين، وأضفى قدراً من "البرودة" على العلاقة الثنائية بين عمّان والرياض، انعكست وتنعكس في تناقص الاهتمام بدعم الأردن اقتصادياً ومالياً.
الثالثة؛ لطالما اشتهر بتوظيفه أدوات "القوة الناعمة" في علاقاته مع دول الخليج الناشئة، معتمداً على "العمالة الماهرة" وخريجي جامعاته الأكثر تطوراً في أزمنة سابقة ... ولقد صادف أنّ تراجع العملية التعليمية في الأردن، قد تزامن مع اهتمام خليجي بتطوير الجامعات الوطنية، واستضافة فروع لجامعات ومراكز بحث عالمية مرموقة، وتوجه لـ"توطين" العمالة، وتقليص اعتماد الدول خليجية على العمالة الوافدة ... لقد أدى ذلك، إلى تناقص أعداد الأردنيين في الخليج، وتراجع تحويلاتهم بالعملات الصعبة (بالمعنى النسبي)، وأثّر ذلك كله، في ازدياد معدلات البطالة في الأردن، وكان ذلك واحداً، من بين أسباب أخرى، في زيادة حدة الضائقة الاقتصادية التي يعانيها اليوم، سيما أن ذلك كله، قد ترافق مع تناقص المساعدات الخليجية الاقتصادية والمالية للأردن.
خلاصة هذه الظاهرات الثلاث، أن مكانة الأردن من منظور دول الخليج العربية، أخذت في التراجع والتآكل في السنوات الأخيرة ... صحيح أن أمن الأردن واستقراره ما زال مهماً من منظور هذه الدول، وأن الأردن ما زال يحلق في فضاء "السرب الخليجي"، لكن الصحيح أيضاً أن معادلات القوة وتوازناتها في العلاقات الأردنية – الخليجية، لم تعد كما كانت عليه من قبل، ليبقى السؤال حول ما إذا كان هذا الحال، مرشحاً للاستمرار على المدى الطويل، أم أن المتاعب التي تواجهها دولٌ خليجية، داخلية (تحديات الانتقال من الريع إلى الإنتاج، أزمة النظم السياسية السلالية المغلقة، أزمة الهويات والصراعات البينية)، وخارجية (فشل سياسات هذه الدول في اليمن، وقبلها سوريا وليبيا والعراق ولبنان، وانكشاف هشاشتها الأمنية)، والتقديرات بشأن تراجع مكانة النفط في سوق الطاقة العالمي، سوف تفضي إلى تراجع مكانتها الإقليمية التي تضخمت في العقد الأخير بشكل خاص.
أين من هنا؟
في مواجهة هذه التطورات والتحولات، ذات الطبيعة النوعية والاستراتيجية، لا يبدو أن الأردن يتوفر على استراتيجية بديلة، أو رؤية شاملة، بعيدة المدى، لما يتعين عليه أن يفعله لحفظ مصالحه وتعظيمها في هذه البيئة الإقليمية والدولية المتغيرة، والتي لا يبدو أنها مواتية تماماً للمصالح الأردنية ... من هنا تتشكل حالة "انعدام اليقين -uncertainty- التي تهيمن على المشهد الأردني ... بيد أنه مع ذلك، يمكن ملاحظة أن السياسة الخارجية الأردنية بدأت تتّبع "تكتيكات" جديدة، ليس من المعروف كيف ستنتهي أو أين، منها: "تنويع" علاقاته مع دول الإقليم وتجاوز حالة الارتهان لأحد محاوره ومعسكراته، ويمكن في هذا السياق قراءة التطور الملموس في علاقات الأردن مع كل من قطر وتركيا، برغم الأزمة التي تميز علاقات هاتين الدولتين مع كل من السعودية والإمارات ... وسعيه لاستعادة علاقاته مع العراق وسوريا إلى طبيعتها... وانشغاله بتطوير ما يمكن وصفه بـ "محور ثالث"، يضم كلاً من مصر والعراق إلى جانب الأردن، حيث يجري الرهان على تقليص الاعتمادية الأردنية (في الطاقة والتجارة والتوظيف) على الأسواق الخليجية ... والحديث المتزايد عن "تنويع" علاقات الأردن الدولية، والانفتاح أكثر على روسيا والصين و"البريكس" وغيرها من مراكز عالمية، من دون صدام مع واشنطن، ومن دون أن تكون هذه العلاقات بالضرورة بديلة عن علاقات الأردن مع حليف استراتيجي بوزن الولايات المتحدة ... وارتفاع نبرة التحدي والتلويح بخيارات غير متوقعة في العلاقة مع إسرائيل (القدس خط أحمر، لاءات ثلاثة في مواجهة صفقة القرن، رفض تجديد عقد إيجار منطقتي الغمر والباقورة، مراجعات لاتفاقية الغاز مع إسرائيل من دون اتخاذ قرار نهائي بشأنها بعد، التلويح بأن سلام الأردن مع إسرائيل سيتأثر بما يمكن أن تفضي إليه السياسات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية)على أن المراقبين يخشون من أن هذه "المواقف المتفرقة" قد لا تكوّن حلقة في إطار استراتيجية جديدة، أو "خطة ب" بعد فشل "الخطة أ" المتمثلة في "حل الدولتين" وما يستتبعه من حلول متفق عليها لقضية اللاجئين واحترام الاتفاقات الأردنية – الإسرائيلية المبرمة بخصوص الرعاية الهاشمية، واستعادة زمام المبادرة واسترجاع مكانة الأردن الاستراتيجية المتراجعة، ذلك أن الأردن لا يشهد حوارات مفتوحة وصريحة حول هذه الخيارات، أو حول المستقبل وما ينطوي عليه من سيناريوهات، قد تنعكس بأثر بالغ على الأردن، أمناً واستقراراً ورفاهاً ونسيجاً اجتماعياً وهوية وطنية.
محاور النقاش:
- المحور الأول: الأردن في بيئة إقليمية ودولية متغيرة
هل تغيرت مكانة الأردن الاستراتيجية، لماذا وكيف؟ ... هل يمكن استعادة زمام المبادرة وإعادة ترميم المكانة الاستراتيجية، كيف وما هي الطريق إلى ذلك؟
- المحور الثاني: الأردن والولايات المتحدة
المعادلة الصعبة، كيف يمكن التوفيق بين مكانة الولايات المتحدة كأكبر راعٍ وحليف وداعم للأردن، وما تحمله السياسة الأمريكية حيال القضية الفلسطينية من تحديات للأردن وتهديدات لأمنه الوطني وسلمه الاجتماعي وهويته الوطنية؟ ... هل لدى الأردن خيارات وبدائل فاعلة في علاقاته الدولية في عالم يتجه للتعددية القطبية؟ ... هل يمكن أن تعوض أوروبا عن أي تراجع في مستويات العلاقة الأردنية – الأمريكية؟ ماذا عن روسيا والصين والأقطاب الدولية الناشئة؟
- المحور الثالث: الأردن وإسرائيل بعد 25 عاماً على معاهدة السلام
كيف يتعامل الأردن مع إسرائيل المتغيرة والمتحولة صوب اليمين الديني والقومي؟ ... هل السلام الأردني – الإسرائيلي طريق ذات اتجاه واحد؟ ... حول نظرية "تلازم المسارين الفلسطيني والأردني وانفصالهما"، هل يمكن لإسرائيل أن تنجح في فصل المسار الفلسطيني عن بقية مسارات السلام والتطبيع مع الأردن ومصر والعالم العربي؟ ... هل يتعين إخضاع "نظرية أمن الأردن واستقراره جزء من أمن إسرائيل واستقرارها" للمراجعة وإعادة النظر في ظل التحولات العميقة في المجتمع والدولة الإسرائيليّين، وتصدّر أولوية الاستيطان والتوسع والضم للمناطق المحتلة على أي عناوين أخرى على الأجندة الإسرائيلية؟ - المحور الرابع: الأردن والخليج
كيف يمكن استعادة المكانة الاستراتيجية للأردن من المنظور الخليجي، وهل هي مهمة ممكنة؟ ... كيف ستتطور هذه العلاقات على المديين المتوسط والبعيد، في ضوء تراجع مكانة النفط الاستراتيجية في سوق الطاقة العالمي؟ ... هل يستطيع الأردن مواكبة دول الخليج في حروبها المباشرة و"حروب الوكالة" مع إيران؟ ... ما هي الخطوط التي يتعين الوقوف عندها وتلك التي يتعين تجاوزها في علاقات الأردن بالخليج؟ - المحور الخامس: الأردن والقوى الإقليمية (إيران، تركيا)
كيف ينبغي أن ترتسم علاقات الأردن مع المحاور الإقليمية المتنازعة، تركيا وإيران، واستتباعاً قطر وسوريا والعراق، واللاعبين "اللادولاتيين -non state actors- المدعومين من أنقرة (الإخوان المسلمين) أو طهران (الحوثي، حزب الله، الحشد الشعبي)، ما حدود هذه العلاقة وأين يمكن أن تصل، ما هي الفرص والتحديات الكامنة فيها، وهل "التوازن" في العلاقات الإقليمية وصفة قابلة للاعتماد والتطبيق؟
- ورقة عمل قدمت في مؤتمر( الأردن في بيئة إقليمية ودولية متغيرة.. سيناريوهات المرحلة المقبلة )، والذي نظمه مركز القدس للدراسات خلال الفترة 8 - 9 شباط/ فبراير 2020، في الاردن- عمان
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة