

2019-04-30
الكاتب : الأستاذ زكي بني ارشيد، الأمين العام الأسبق لحزب جبهة العمل الإسلامي

قبل ثلاثة عقود من الزمن وعلى وقع أزمة اقتصادية عميقة، انطلقت في جنوب الأردن حركة شعبية غاضبة، محركها الأساس، مركبٌ (اقتصادي- إجتماعي).وأما المحرك الثاني الذي لا يقل أهمية فهو الاعتراض على متلازمة (الفساد والاستبداد)، المرافقة لحقبة الأحكام العرفية، وغياب العدالة الاجتماعية وانتهاك حقوق المواطنين، وحرمان المعارضين من العمل وحجز الجوازات والمنع من السفر.
في موجة الاحتجاجات، انتفض المواطنون تعبيراً عن غضبهم، ورفضهم، فيما سُمّي لاحقاً بهبّة نيسان، التي شكّلت تحدياً داخلياً للدولة الأردنية، في لحظةً تاريخية متميزة، حصل على إثرها تفاعل اجتماعي، وتحول سياسي، أبرز ملامحه الانتقال من مرحلة الأحكام العرفية التي كانت فيها السلطة اُحاديةً مطلقةً، إلىبداية الانطلاق نحو التحول الديمقراطي.كانت العلاقة تقوم على قاعدة النفي والإنكار، وعدم الاعتراف، بين الطرفين، ( النظام والمعارضة)، في الأحزاب ممنوعة بالتشريع والقانون، والمعارضة المقموعة والمطاردة، لجأت إلى السرية والعمل تحت الأرض، والإعلان عن مواقفها بعدم الثقة بالنظام السياسي بل وعدم الاعتراف بشرعيته احياناً.
من هنا بدأت رحلة البحث عن المخرج، إذ لم تتأخر الاستجابة الرسمية في المبادرة، ورسم قواعد جديدة في العلاقة بين النظام السياسي والمعارضة.أعاد النظام تموضعه الداخلي، وسعى إلى بناء المصالحة الوطنية، حيث كانت الذهنية لدى الجميع قد نضجت لاستقبال المعادلة الجديدة، فكانت الإنتخابات البرلمانية عام 89 لمجلس النواب الحادي عشر، حيث تميزت تلك الإنتخابات وشموليتها ونزاهتها ومشاركة الجميع، كمقدمة لمغادرة الحقبة العرفية ومباشرة التعددية وتقنيين العمل الحزبي وإطلاق الحريات ورفع القبضة الأمنية، عن مفاصل الحياة المدنية.وإدارة الحوار الداخلي الذي أنتج وثيقة الميثاق الوطني، وحدد ملامح المرحلة، وفق قاعدة ( لا تجريم ولا تخوين )، قبولاً بمعارضة حزبية سياسية أو إجتماعية برامجية،تمارس دورها الدستوري من دون إدانة ولا تجريم ولا ملاحقة قانونية، وباعتبارها مكونٌ من مكونات الدولة، مقابل الإعتراف بسيادة الدستور وعدم التخوين والقبول بالعمل المحكوم بالقوانين والتشريعات الناظمة للعملية السياسية.لكن الملحظ المهم هو توقف مسار التحول الديمقراطي، والعودة إلى محطة الأحكام العرفية المتشحة بأشكال ومظاهر الديكور الديمقراطي.
الأزمة الراهنة التي تواجه الأردن اعمق مما سبقها من الأزمات السابقة، وعلى جميع المستويات، وأصبحت مُعرّفة ولا تحتاج إلى تشخيص، وأغرب ما رافق هذه الأزمة أن ليس ثمة خلاف حول مضامين الخطاب الإصلاحي، بين الجانب الرسمي وقوى الإصلاح الشعبي، إذ أن ما تطالب به المعارضة الإصلاحية يلتقي نصاً ومضموناً، مع مضامين الأوراق النقاشية الملكية، التي طرحت خلال السنوات الماضية، وبيان الحكومة الحالية الذي قدمته إلى مجلس النواب ( وثيقة الثقة ) والذي نص صراحة على مشروع النهضة الأردني، وبناء عقد إجتماعي جديد، و طاولة حوار وطني للجميع.أين المعضلة إذا ؟ (اين الاستعصاء في مسار الإصلاح؟؟).اسباب تدعو الى التفاؤل بالنجاح ومغادرة حالة الاستعصاء .
اولاً :
النظر الى المستقبل الذي يوصف بأنه زمن ثورة الذكاء الصناعي وعولمة المعرفة وديمقراطية الحصول على المعلومات المتدفقة بقوة معرفة لا تنتظر من يبحث عنها بل تصل اليه حيث هو بالصوت والصورة وبشكل مباشر ، مستقبل التطبيقات والروبوتات لا مكان فيه بقايا المخلفات الاستبدادية ذلك أن مصلحة النظام العالمي القادم وقيد التشكيل وحفاظا على الامن العالمي والسلم الدولي لن يقبل بعبور الصيغ السياسية (دول كيانات وأحزاب وجماعات) المنتمية إلى المحنطات وحتى لا نفقد الأمل بالخروج من أزمة انسداد مسار الإصلاح، وبالنظر من زاوية أخرى فإن الأسباب التي تبقي نافذة الأمل مفتوحةً نحو تحول ديمقراطي، وإصلاح سياسي، هو غياب العنف في الاصطفاف السياسي الأردني، صحيح أنالجانب الرسمي انهمك حتى هذه اللحظة بكيفية احتواء الإحتجاج أو الحيلولة دون تشكله ابتداءً، كما أنه إستمر في تقديم المسكنات المرافقة لسياسة الترغيب والترهيب، التي فقدت قدرتها على المعالجة والتأثير.
لأن مواطن الخلل، وأسباب الاعتراض موضوعية وذاتية، وببقائها فإن المحركات الوطنية تنتج أجيالا من الحراك نسخة متطورة من الاحتجاج.وصحيح أيضاً أن ثمة ممارسات شائنة استهدفت ارزاق النشطاء وسمعتهم، والتضييق عليهم واعتقال بعضهم، لكن الصحيح أيضاً ان التنافس والتدافع والاشتباك السياسي بقي محكوماً بقواعد الخصوصية الأردنية، وفي الحدود الدنيا من الصراع، إذ يُسجل للنظام انه قاوم ضغوطاً إقليمية لا يستهان بها، ورفص طلبات متكررة من أجل البطش بالمعارضة، وفقاً لنظرية الثورات المضادة والضربات الاستباقية لخيارات الشعوب، وتميز الأداء الأردني بعدم الانسجام مع المنظور الأمني الصهيوني القائم على تصفية القوى السياسية الحية في دول الجوار، وبالمقابل فإنه يُسجل للمعارضة أيضاً عقلانيتها واتزانها، في شعاراتها( إصلاح النظام ) والتزامها منهج الاعتراض الحضاري، ومبدأ السلمية ورفضها التورط في أعمال التخريب للممتلكات العامة أو الخاصة، والابتعاد عن المسوغات التي تسعى لها بعض الجهات لدفع النظام الأردني إلى حضن اليمين الصهيوني عبر توريطه بالعنف والبطش بالمعارضة.
ويبقى السؤال: ما دام المشهد ليس ثريا وتلتقي الخطابات على الأهداف والمآلات، أين هي المشكلة... ؟؟ وما هي الخطوات الضرورية للخروج من حالة الاستعصاء ؟؟في هذا السياق يجدر التأشير الى عدم التأخر او التردد، وضرورة الاستعجال بإتجاه البرنامج الوطني، كنقطة انطلاق وليست محطة وصول،لم يعد كافيا، الانشغال،كيفية احتواء الإحتجاج، ذلك أنأساس المشكلة احتكار النخبة الحاكمة لإدارة الدولة ( السلطة والموارد )، والفشل الذي أفضى إلى تفاقم الأزمة وتعمق المشكلة.
حالة الانسداد السياسي ستبقينا في عنق الزجاجة وفي نفق الأزمة، والخروج من حالة الاستعصاء يستلزم تغيير النهج، ويستوجب شراكة حقيقة في تحمل المسئولية وإدارة الدولة،وخلافا لذلك ستبقى حركة الاستنزاف والتنازع تكشفنا أمام المشاريع الدولية والإقليمية الخطرة التي تهدد واقع الدولة ومستقبلها.من هنا نبدأ بخطوات وطنية إصلاحية جريئة، تفضي إلى نظرية الشراكة السياسية في القرار والمصير، وتبعاً لذلك تحمل المسئولية الملازمة للمشاركة في صنع القرار والمسار.وإذا كان الميثاق الوطني الذي دشّن مرحلة جديدة قبل ثلاثين عاما، قد نجح في العبور الآمن نحو العتبة الأولى من التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنه ومن غير المعقول أن نعود إلى محاولة بناء نفس المدماك الذي يصلح للانطلاق منه والتأسيس عليه وليس الاكتفاء به أو التغني بفضائله.
وفي السياق أيضا ينبغي الإنتباه إلى عوائق هذا المنطلق على المستوى المحلي والإقليمي، إذ من غير المتاح او الممكن الانطلاق نحو فضاء الإصلاح السياسي المنتمي إلى المستقبل، وعبر حوار وطني جامع لا يستثني أحدا، دون إنهاء دور قوى التعطيل والشد العكسي، وهم أصحاب المصالح والمنافع الذين يحرصون على بقاء الحال مختطفا من قبلهم والمستقبل مرهونا بايديهم، لأن هؤلاء لا يريدون الإصلاح بل يريدون الحفاظ على مصالحهم، وأما الأطراف الإقليمية فيكفي الإشارة إلى فشلهم في إدارتهم لدولهم وتعمق أزماتهم، ونحن لا نريد أن نكون شركاء في مسار الدول الفاشلة.
ومن باب الأهمية إعادة التأكيد على أن الحوار هو بوابة الإصلاح، وأن يتوافق المجموع الوطني على الالتزام بهما معا، الإصلاحوالحوار ثنائي متكامل، لا يكون الوعد بإصلاحات من قبل النظام جدي إذا لم يقبل الحوار، كما أن الانخراط والمشاركة بالحوار الإصلاحي من قبل المعارضة مؤشر على جديتها ومصداقيتها، إذ لا مصداقية لخطاب النوايا اذا رفضنا آليات الحوار،وفي غمرة الحماسة للمشاركة بالحوار الوطني ينبغي التأكيد ومن قبل الجميع على أن الحوار بذاته آلية حضارية لا غنى عنها للوصول إلى المآلات وتحقيق الأهداف، أما الحوار الذي ينشأ لمشاغلة الرأي العام وتقطيع الوقت والتحايل على إكراهات الواقع، فإن آثاره السلبية تزيد الأزمة تشابكا وتعقيدا، بهذا المعنى فإن تلازم الإصلاح والحوار ضرورة وطنية لا تقبل التأجيل او الإحالة إلى المستقبل، وتلبية هذه الضرورة مسؤولية المكونات السياسية جمعاء، لا يعفى منها أحد.مع تكاثر الدعوات لطاولة الحوار تأتي أهمية اللحظة في موقف حاسم من أصحاب القرار للبدء به، وطي صفحة الإعاقة والتعطيل من الساعين لإفشال مسيرة الحوار داخل مؤسسات الدولة كما أن المطلوب من أطراف المعارضة التي تشارك بالحوار أن تحميه وتضمن نجاحه،هذه مقاربتي التي تدعو إلى العمل بعد أن اتخمنا بالحديث عن الإصلاح ومقتضياته، فهل سنشهد بارقة الأمل ؟ ام ان الفالج لا يعالج؟
* ورقة عمل قدمت في المؤتمر الوطني "30 عاماً على استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن"، والذي نظمه مركز القدس للدراسات خلال الفترة 29- 30نيسان/ ابريل 2019، في الاردن- عمان.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة