2019-02-06
الكاتب : الدكتور عباس خاميار، دبلوماسي سابق وباحث في الشأن الإيراني
الدكتور عباس خاميار
دبلوماسي سابق وباحث في الشأن الإيراني
يبدو أن إيران كانت ترى في الاتفاق خطة عمل لإعادة الثقة وبناء أطرٍ مشتركة، تمهيداً لتعاون مستقبليّ أكبر ضمن آليات وضوابط وبشكل مرحلي، لتنفيذ المراحل تباعاً، وقد حاولت إيران مجتمعة، بكل أطيافها وقياداتها، أن تلتزم بالاتفاق. ومن المهم التأكيد على أنه كان"خطة عمل مشتركة"، وهو ما أكدته الاتفاقية باسمها.
عملت إيران على تعزيز هذه الثقة، وقد كانت كل دول مجموعة 5+1، ومعها كل دول العالم بالإضافة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، هي الأطراف المخوّلة بإبداء رأيها في سلوك الموقعين على الاتفاقية، وقد حدث أن ذكر الأمين العام للوكالة الدولية للطاقة النووية في ثلاثة عشر تقريراً قدمها خلال العام الذي تلا توقيع الاتفاقية، بأن الإيرانيين ملتزمون بكل بنود الاتفاقية، وبكل حذافيرها، وأعتقد أن هذه شهادة دولية على الالتزام الإيراني، وعلى المصداقية التي تملكها الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
مع توقيع الاتفاق، ألغيت قرارات مجلس الأمن الدولي حول الملف النووي، وحلّ محلها قرار دولي جديد يلزم جميع الأطراف بالتعاون مع إيران ورفع الحصار عنها، وإعطائها حقوقها ومصالحها التي كانت تتوخاها بعد توقيع الاتفاقية .وبدأت الأمور تتحسّن اقتصادياً وسياسياً، مع انفراجة واضحة في العلاقة بين طهران وكثير من العواصم الغربية .
أتصوّر أن التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومواقف عدد من المؤسسات الدولية أعاد الاعتبار لإيران بصورة كبيرة، وكشف زيف الأكاذيب التي كانت تتهمها بمشروع نووي عسكري أو قنبلة ذرية.
لم تكن الاتفاقية ثنائية الأطراف، بل جاءت بقرار أمميّ من مجلس الأمن الدولي، ويمكن اعتبارها ضمن معادلة ربح - ربح، وأنها اتفاقية مُثلى لحلّ المشاكل المستعصية في العالم. بل إن منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي فيدريكا موغريني، اعتبرت الاتفاقية نتاجاً لاثني عشرة عاماً من العمل الدؤوب، الذي سيؤثر إيجاباً على السِلم العالمي.
لكن المشكلة –برأيي- هي مع واشنطن، إذ إنها تريد أن تكون طرفاً في الاتفاق، في الوقت الذي تمارس فيه دور القاضي، بل وتمارس دور "الشاكي"، إنها تريد أن تكون مرجعية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومرجعية كلّ العالم.
ولذلك، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية منذ اللحظة الأولى بالعرقلة، وكانت تتذرع بذرائع واهية، وتتلاعب بالألفاظ، وسعت أيضاً لعرقلة التنفيذ المرحلي، فبدلاً من رفع العقوبات، فرضت عقوبات جديدة، وشكّكت في نوايا إيران، وتجاهلت بوادر حسن النية، وقد رأى الجميع كيف انتهى الأمر بأن انسحبت من الاتفاقية.
بل رأى الجميع، كيف هدّدت الإدارة الأمريكية الجديدة قبل وصولها للبيت الأبيض، بأنها ستعمل على إلغاء الاتفاق النووي، وهذا ما يؤكد أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق كان بنوايا مُسبّقة، كما يؤكد على استمرار السياسة العدائية للولايات المتحدة حيال إيران.
انعكست هذه النوايا المسبقة، مع استمرار النفس العدائي الأمريكي، على الداخل الإيراني بكل اتجاهاته، وأعطى تأكيداً للتيار المتشدد ولمنتقدي الاتفاق، بأن الولايات المتحدة ما زالت مستمرة في سياستها العدائية، وبأنها هي هي، أي: الشيطان الأكبر بالنسبة لإيران وسائر دول المنطقة.
إن هذه النوايا المُسبّقة لم تأت من فراغ، بل جاءت من الرؤية الأمريكية لإيران ودورها ومكانتها الإقليمية في المنطقة، إذ تُعزّز وثائق الأمن الاستراتيجي الأمريكي، التي نُشرت خلال العامين الأخيرين هذه الرؤية الأمريكية، وتكشف الإجابة عن سؤال: كيف تُفكر أمريكا إزاء إيران؟
إن كل ما تحتويه وثائق أمن الدفاع الوطني الأمريكي، تُصنّفُ إيران على أنها عدوّ، ولا بُدّ أن ذلك سيؤثر في سلوك صانع القرار الأمريكي. ولذلك قادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حملة زعمت فيها بأن الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما، كان بوسعه أن يحقق من خلال الاتفاق النووي مع إيران مكتسبات أكبر، كأن يُوقف المنظومة الصاروخية والدفاعية لها، وأن يفاوضها على سياستها تجاه المنطقة ومكانتها في الإقليم، وأن يفتح ملفات جديدة متعلقة بحقوق الإنسان أو الاعتراف الضمنيّ بالكيان الصهيوني.
تبدو إيران في هذه الوثائق المذكورة هي المُهدّد الأكبر للحضور الأمريكي في المنطقة، لأنها تشجع الدول الأخرى على سباق التسلح النووي، ولذلك بدأت إدارة ترامب بوضع العراقيل لإلغاء الاتفاق، بل إنه فرض على إيران عقوبات إضافية، أكثر مما كانت عليها قبل التوقيع على الاتفاقية.
عملت هذه الرؤية الأمريكية لإيران التي تدلّ على أن هناك نوايا مُسبّقة، على توحيد الداخل الإيراني بكلّ أطيافه أكثر من أي وقت مضى، وأكدت للإيرانيين صواب قراءتهم التاريخية على عداء الولايات المتحدة لهم، وأنه مُخطىء مَن يتصوّر بأن هذا العداء قد بدأ منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي أواسط أيار 2018.
باختصار، يرى الإيرانيون بأن عداء الولايات المتحدة الأمريكية لهم تاريخي، هذا ما نستطيع رصده في الشارع الإيراني .
إن هذه النظرة للشارع الإيراني، لها ما يُصدّقها تاريخياً، فقد خطّط الأمريكيون لانقلاب عسكري على الدكتور محمد مصدّق، عام 1953، مع أن الرجل لم يكن يملك مشروعاً نووياً، ولا مشروعاً ثورياً، ولم تكن لبلاده آنذاك منظومة صاروخية. وقد أراد مصدّق أن يتحاور مع الأمريكيين، وكان يريد أن يُومّم في الوقت ذاته النفط الإيراني، الذي كان يعتبره حقاً إيرانياً.
لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقبل بهذا، إذ تدخلت الـ (CIA)، ودعمت الجنرال فضل الله زاهدي ضد الدكتور محمد مصدّق، هذا ما تؤكده (375) وثيقة نُشرت مؤخراً، إذ تشير إلى أن الأمريكيين دفعوا خمسة ملايين دولار بداية خمسينيات القرن الماضي لدعم زاهدي.
هذا ما أدركه الإمام الخميني منذ البداية، فخطابه في المدرسة الفيضية عام 1962 في شهر عاشوراء التي كانت الانطلاقة الأساسية للحركة الخيمينية -إن صحّ التعبير- والثورة الإسلامية بعد ذلك، أشار إلى أنه كان يُكافح حكماً ديكتاتورياً "نظام شاه إيران آنذاك" مرتبطاً بالهيمنة الاستعمارية الأمريكية، بل إن الإمام الخميني كان يربط هذا الموضوع بالتدخل الإسرائيلي تحديداً.
في هذا الخطاب الذي لا أتصور أنه استغرق أكثر من ساعة، ذكر الخميني "إسرائيل" ثلاثة عشرة مرة، وكان يطلب من الشاه أن يقطع علاقاته معها. لأن العداء الأمريكي لإيران كان مبكراً، ولم يكن أمراً مستجداً، إذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية قانون الحصانة القضائية المعروف بـ "كابيتولاسيون"، والذي يُعفى بموجبه الأجانب من المساءلة القانونية على الأراضي الإيرانية حتى لو ارتكبوا الجرائم، في الوقت الذي لا يتمتع فيه شاه إيران -الذي يعتبر نفسه شاه الشاهات- بأي امتيازات أمام القضاء الأمريكي.
يدرك الإيرانيون هدف العقوبات الأمريكية على بلادهم، فهي لا تقتصر على إلحاق الضرر الاقتصادي فحسب، وإنما تهدف كذلك إلى ممارسة الحرب النفسية على الإيرانيين، من خلال التجييش عبر الإمبراطوريات الإعلامية الناطقة بلغات شتى لتوجيه الرأي العام، لتأليب الشارع الإيراني وإحداث بلبلة واضطرابات تطيح بالنظام، لتبدأ مع الإطاحة خطة تفكيك البلاد.
بوضوح أكثر، لا يخفي المنظّرون الأمريكيون كـ"برناردو" و"كيسنجر" و"بريجنسكي" وغيرهم، نواياهم في تنفيذ خططهم لتفتيت إيران، والمضي بمشروع سايكس - بيكو جديد، ربما لأن الأمريكيين لم يحصلوا على شيء من مشروع سايكس - بيكو 1916، ويريدون الآن الاستفادة.
يشعر الأمريكيون أن الإيرانيين يشكلون رأس الحربة في مواجهة مشروع التفتيت للمنطقة، حتى إن استهداف سوريا يمكن أن يدرج في هذا الإطار، هذا ما تؤكده الوثائق التي تصدر عن مؤتمراتهم، خصوصاً مؤتمر هرتزليا.
إذن، يتضح أن الهدف المرسوم هو تفكيك إيران والإطاحة بنظام الحكم فيها، وهذا ما تؤشر عليه الممارسات الأمريكية من خلال العقوبات، أما المطالبة الأمريكية لإيران بتغيير سلوكها، فلا تعدو عن كونها أقاويل كاذبة، فمن ينظر إلى تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو التي طالب فيها إيران باثني عشرة مطلباً يدرك بأنها شروط تعجيزية، يريد الأمريكيون منها أن يُركعّوا إيران. هذه هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية العدائية حيال إيران منذ أربعة عقود.
عندما زار الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إيران عام 1977، حيث اندلعت الشرارة الأولى للثورة الإسلامية الإيرانية، يذكر الإيرانيون جيداً كيف دافع كارتر عن شاه إيران آنذاك، وكيف ظهر في طهران وقد قُدّمت له القرابين، ومن قبله الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الذي انتفض عدد من طلبة جامعة طهران ضد زيارته لبلادهم، فاعتقل النظام الإيراني عدداً منهم، وأعدم آخرين.
- هل يُعاود الإيرانيون التفاوض حول الملف النووي؟
أما فيما يتعلق باحتمالات قبول طهران لاستئناف المفاوضات حول اتفاقية جديدة حول البرنامج النووي والصاروخي ودورها الإقليمي، وبناءً على الإدراك الإيراني للنوايا الأمريكية المُسبّقة حيالهم، فهل يُتصوّر أن يجلس إنسان عاقل مع مَن يريد نسفه وإلغاءه؟
بات واضحاً لإيران، أن أهمّ مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، هو الوقوف أمام المدّ الإيراني، واستبدال الدور الإقليمي لها بالدور الإسرائيلي، وإيجاد تحالفات إقليمية لصدّ المشروع الإيراني وحربه بالنيابة عن الأمريكيين والإسرائيليين، تحالفات تُرسّم واقعاً جديداً يجعل من إيران عدواً للعالم العربي بدلاً من "إسرائيل" التي ستصبح وفق الرؤية الأمريكية حليفاً للعرب.
ترى طهران بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث أكثر من أسلافه باللغة العبرية مع إيران والعالم العربي، ويتبنى الرؤية الإسرائيلية التي تقوم على العداء لإيران، فالولايات المتحدة لا تريد ضماناً من إيران يتمثل في عدم امتلاكها للسلاح النووي فقط، بل إن الضمانة المطلوبة منها تتمثل أيضاً في الحفاظ على القاعدة العسكرية الأمريكية المقامة على أرض فلسطين المحتلة المُسمّاة بـ "إسرائيل"، هذا هو المطلوب الأمريكي من إيران، وهذا ما يُعدّ ما وراء الخط الأحمر بالنسبة لإيران، وهو ما لن يحصل.
أما فيما يتعلق بالمنظومة الدفاعية الإيرانية، فهي قوة ردع فقط، ولا نستخدم الأسلحة المحظورة لأن إيران تستند في ذلك إلى فتوى شرعية، وهي فتوى معلنة وليست مخفية، وبالرغم من أننا حوربنا لثمانِ سنوات وضُربنا بالكيماوي، إلا أننا ملتزمون بألا نستخدم الأسلحة المحظورة لأننا ننطلق من رؤية فكرية وشرعية إزاء هذا الموضوع.
ثم لماذا تُنتقد إيران لامتلاكها منظومة دفاعية، وتُهدّد دوماً من "إسرائيل" التي تُصرح بأن كل الخيارات مطروحة للتعامل معها، فيما دول مجاورة لإيران تعقد صفقات السلاح بمليارات الدولارات؟ فالمملكة العربية السعودية تُعدّ الدولة الرابعة المستوردة للأسلحة في المنطقة، وقد استوردت أسلحة في العام 2016 بـ(64) مليار دولار.
وقد عقدت كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية صفقات بيع للأسلحة في العام الماضي بـ (116) مليار دولار لثلاث دول في المنطقة، وتجدر الإشارة إلى أن ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية تبلغ (716) مليار دولار، فيما تبلغ ميزانية إيران العسكرية (70) مليار دولار.
- ورقة عمل قدمها الدكتور عباس خاميار وهو دبلوماسي سابق وباحث في الشأن الإيراني، في ورشة عمل "أثر التأزم في العلاقات الأمريكية الإيرانية على أمن واستقرار الشرق الأوسط" والتي نظمها مركز القدس للدراسات خلال الفترة 19- 20 تشرين ثاني/ نوفمبر 2018، في لبنان- بيروت.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة