2017-11-04
معالي الدكتور محيي الدين توق
المفوض العام الأسبق للمركز الوطني لحقوق الإنسان/ الأردن
قبل أشهر قليلة أصدر فرانسيس فوكوياما كتاباً على قدر كبير من الأهميّة استعرض فيه العوامل التّي أدّت إلى ظهور دول وأنظمة سياسيّة قويّة وتلك التي أدّت إلى إضمحلال الدّول خلال الألفي سنة الأخيرة، وخلص من خلال دراسته التاريخيّة إلى وجود ثلاثة عوامل رئيسيّة يؤدّي توافرها إلى قيام نظم سياسيّة قويّة وفعّالة وقابلة للحياة، ويؤدّي غيابها إلى تحلل وإضمحلال الدّول والنظم السياسيّة، وهذه العوامل من حيث ترتيب أهميّتها، برأي فوكوياما هي:
(1) قوّة الدّولة وفاعليتها سياسيّاً وإقتصاديّاً وعسكريّاً وقدرتها على حماية مواطنيها وتزويدهم بالخدمات الضروريّة.
(2) الديمقراطيّة الناجزة القائمة على المساءلة الحقيقيّة.
(3) حكم القانون المطبّق على الجميع بعدالة. وإستكمالاً لبناء الدّولة ومنعة نظامها السّياسي، فإنّ الأردن اليوم في أمّس الحاجة إلى تطوير مؤسّسات الحكم لتصبح أكثر فاعليّة وقوة وعدالة، وإلى تطوير مشاركة الأفراد والجماعات في رسم السّياسات واتخاذ القرارات المتعلّقة بحياتهم ومستقبلهم من خلال نظام ديمقراطي حقيقي قائم على الحريّة والعدالة والمساواة والمساءلة واحترام حقوق الإنسان وكرامته، وإلى تفعيل حكم القانون العادل والمقبول ديمقراطيّاً على الجميع بلا تمييز.
ومن استعراض التجارب الدّوليّة النّاجحة في الإصلاح والتطوير في السّنوات العشرين الأخيرة، نستطيع أن نلمّح وجود ثلاثة عوامل تميّز بين أفضل 15 دولة في التنميّة المستدامة عن أسوء 15 دولة، وهذه العوامل هي، الحوكمة الرّشيدة في إدارة الدّولة ومؤسّساتها المختلفة، والتعليم الملائم ذو النوعيّة العاليّة، والمجتمع المدني النّشط الذي يشارك بقوة في كافّة مناحي الحياة السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة.
وانطلاقاً من هذا المدخل الواسع للإصلاح، سأبتعد في مداخلتي هذه عن التحديّات الإقتصاديّة والأمنيّة التي تمّ تناولها من قبل العديد من المتحدّثين، ومنهم المتحدّثان الكريمان اللّذان سبقاني في الحديث، وسأركّز على القضايّا المفصليّة الثلاث التي تلعب برأيّي أدواراً جوهريّة في تعزيز المناعة الداخليّة للدولة في مواجهة تحدّيات المستقبل. وغني عن القول أنّ هناك تحديّات أساسيّة في كل قضيّة من هذه القضايا الثلاث.
إنّ الدّولة القويّة والفاعلة والواثقة من نفسها ليست هي الدّولة القادرة على حماية مواطنيها وتزويدهم بالخدمات الضروريّة فحسب، بل هي أيضاً الدّولة التي تترعرع فيها الديمقراطيّة، ويطبّق فيها حكم القانون بصرامة ولكن بعدالة، وتحترم فيها حقوق الإنسان وحريّاتهم. فالديمقراطيّة في دول ضعيفة تقود إلى تسلُّط الأقوياء على الضّعفاء، ويصبح حكم القانون فيها وسيلة للتسلُّط والقمع للمخالفين في الّرأي، وتنتهك فيها حقوق الإنسان بدعوى الحفاظ على الأمن والإستقرار.
إنّ العوامل التي تساعد على تماسك الدّول وزيادة منعتها متعدّدة، ولن أتطرّق في حديثي إلى مصادر القوّة الكلاسيكيّة للدول كالموارد الطبيعيّة والبشريّة والعوامل الجغرافيّة والّديموغرافيّة، فالجميع يعرفها جيّداً. هناك ثمانيّة عوامل ساعدت في تماسك الدُّول تاريخيّاً، وهذه العوامل هي؛ الحكم الّرشيد، والفكر الوطني والقومي، والخدمات الملائمة للمواطنين وبتكاليف محتملة، والأمن المجتمعي، والعدالة المنصفة، وتقاسم الموارد، والتّوزيع العادل للوظائف والثّروات، ووجود عدد مشترك.
إنّ الأمثلة على الكيفيّة التي لعب فيها كل واحد من هذه العوامل منفردة أو مجتمعة كثيرة، ولن أتمكن من الخوض فيها نظراً لضيق الوقت، ولكن يهمّني أن أتوقّف عند أحد العوامل التي يتغلغل أثرها في كافّة قطاعات الدّولة، والتي أعتبرها القضيّة المفصليّة الأولى في بناء وتعزيز منعة الدّولة، ألا وهو عامل الحكم الرّشيد. فما الذي نعنيه بذلك؟
ينظر إلى الحكم أو الحوكمة Governanceمن المنظور المفاهيمي الواسع على أنّها الكيفيّة التي يتم بواسطتها إنتاج القواعد والإجراءات التي تحكم عمل المؤسّسات في القطاعات الحكوميّة والخاصّة والاهليّة والمدنيّة، وإدامتها، وتنظيمها، وتحقيق العدالة والمساواة. وتعتبر الدّيمقراطيّة ، وحكم القانون، وحقوق الإنسان، والعدالة الإجتماعيّة، وبناء التّوافقات الأسس التي يقوم عليها الحكم الرّشيد. ومن المنظور العمليّاتي الضيق ينظر إلى الحوكمة على أنّها الكيفيّة التي تدار بها المؤسّسات، والترتيبات التي يتم الأخذ بها لضمان أنّ النتائج والمخرجات التي يتم التخطيط لها يتم تحديدها وتحقيقها لخدمة الجهات المعنيّة بها وللصّالح العام وليس لمصلحة فئة من المجتمع فقط. وتعني الحوكمة في القطاع العام من هذا المنظور وجود حكومة مسؤولة عن نشاطاتها وبرامجها ونتائج أعمالها أمام المواطنين، وتقوم بالواجبات الموكولة إليها بكل شفافيّة وأمانة، ووفق مبادىء العدالة وأحكام القانون. وتتصّف الحوكمة بالرشاد إذا قامت على أسس ومبادىء متعارف عليها، هي؛ المشاركة، وحكم القانون، والشفافيّة، والنزاهة، وضبط الفساد، والإستجابة الفاعلة، والمساءلة، والفاعليّة والكفاءة، والعدالة والإدماج.
إنّ الحوكمة الرّشيدة تقع في لب الإصلاح السّياسي، بل ويمكن القول أنّ الغاية الأسمى للإصلاح السّياسي هي الوصول إلى الحكم الرّشيد، وبذا نرى أنّ الدّول ذات الإقتصادات القويّة في العالم، والدّول الأكثر قوّة وتماسكاً هي الدّول التي تتميّز حوكمتها بالرشاد، وأنّ الدّول الفاشلة هي التي تكون حوكمتها في الحضيض.
أمّا القضيّة المفصليّة الثانيّة برأيي فهي التعليم
لا توجد دولة تقدّمت في العصر الحديث إلّا وكان التعليم أحد الّروافع الأساسيّة لتقدّمها، والّدليل على ذلك وجود معامل إرتباط إيجابي بين النّظام التعليمي وحيويّة الإقتصاد في الدّولة. فالتعليم الجيّد يهيّىء التّلاميذ لدخول سوق العمل بسلاسة، ويزوّدهم بالمهارات اللازمة للتقدُّم والمنافسة، وبالتالي يساعدهم على الحراك الإقتصادي والإجتماعي. وتشير الدّراسات في هذا المجال أنّ زيادة سنة دراسيّة لدى الأفراد تسهم بزيادة مداخيلهم في المتوسّط بنسبة 10%، كما أظهرت الدّراسات على مدى الخمسين سنة الأخيرة بأنّ زيادة سنة دراسيّة في المتوسط للسكّان تسهم بزيادة النّمو الإقتصادي من 5-12%، ناهيك عن أثر التّعليم في التّماسك الإجتماعي، والتنميّة الثقافيّة، وبناء المواطنة، والإعتزاز الوطني، وأثره في تكوين الفرد ليكون عضواً فاعلاً في المجتمع، وفي المحافظة على بيئته سليمة ونظيفة. يقول الزّعيم التّاريخي نلسون مانديلا " إذا أردت هزيمة أمّة ما عليك إلّا تخريب التعليم فيها" فقوّة الدّولة ومنعتها من قوّة نظامها التّعليمي. والنّظام التّعليمي في الأردن يمر بمرحلة صعبة ويواجه تحديّات جمّة، فإمّا أن ينطلق وينقل الدّولة إلى المستقبل، وإمّا أن يراوح مكانه ويدخلنا في حلقة التّخلف.
لا يمكن إجمال كافّة التحدّيات التي يواجهها النّظام التّعليمي في الأردن في هذه المداخلة، ولذا سأركّز على ثلاثة تحدّيات رئيسيّة على علاقة مباشرة بتعزيز المناعة الّداخليّة، لمواجهة المستقبل بشكل أفضل، وهذه التحديّات هي تحدّي النوعيّة، تحدّي اللامساواة، وتحدّي التربيّة الأخلاقيّة والمواطنيّة.
ففيما يتعلّق بنوعيّة التعليم قدّرت إحدى المنظّمات الدوليّة قبل نحو عقد من الزّمان أنّ الأردن مهيّىء لتحقيق قفزة في التعليم نظراً إلى ما قامت به الدّولة من إعداد المستلزمات اللازمة، تشريعيّاً ومؤسّساتيّاً، وبرامجيّاً، إلّا أن هذا الأمل لم يتحقّق، بل على العكس، حدث تراجع مخيف في نوعيّة التعّليم ، ليس بدلالة نتائج الطّلبة الأردنييّن في الإختبارات الدّوليّة المقارنة فحسب، بل وفي نتائج الإختبارات الوطنيّة التشخيصيّة، التي أشارت إلى أنّ حوالي 85% من تلاميذ الصّفوف الثلاثة الأولى لا يستطيعون القراءة بفهم أو حل المسائل الحسابيّة بإستيعاب على سبيل المثال.
وتشير دراسة دوليّة حديثة إلى أنّ معدّلات انتشار التعليم الإبتدائي والثانوي في الأردن قريبة من دول منظومة التعاون الإقتصادي والتنميّة (OECD)، وهو نادي الأغنياء، وأنّ نسبة الإنفاق على التعليم عام 2012 كان بحدود 10.3 % من الموازنة العامّة، أي أعلى بقليل من منظومة هذه الدّول التي كانت تنفق بحدود 9.8%، بل ويوازي إنفاق الأردن إنفاق بعض الدّول التي حقّقت إنجازاً قويّاً في اختبارات العلوم الدوليّة كالنمسا وألمانيا وبولندا، كما كان إنفاق الأردن على التعليم من مجمل الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 بحدود 3.4 % وهو نفس نسبة إنفاق دول كاليابان وسنغافورة والصين وهونغ كونغ، ومع ذلك فإنّ نتائج الطّلبة الأردنيّين في العلوم والّرياضيّات وااللغة هو الأدنى في العالم، ويوازي نتائج أضعف 20% من طلبة هذه الدّول، كما أنّنا أصبحنا في ذيل الدّول العربيّة بعد أن كنّا نتصدّر الدّول العربيّة. وتدل هذه الأرقام بكل وضوح أنّ العائد على الإستثمار الأردني في التّعليم لا يرقى إلى المستويّات المطلوبة.
وتعزى هذه النتائج بالدرجة الأولى إلى تدنّي كفاءة المعلّمين ومهاراتهم التعليميّة، وتراجع المناهج الّدراسيّة، كيف لا وقد بدأت وزارة التربيّة والتعليم منذ عام 2002 بتعيين معلّمين غير مؤهلّين تربويّاً في مخالفة صريحة للقانون.
التعليم النّوعي ليس ترفاً، ولا يقصد منه تحسين نتائج الطّلبة الأردنيين في الإختبارات الدّوليّة المقارنة، بل هو ضروري لتمكين الأفراد من بناء الذّات، ودخول سوق العمل، والنّماء، والعيش مع الآخرين، ومجابهة قوى التّطرف والغلو. وعلى المستوى الوطني يساعد التعليم النّوعي الدّولة على مواجهة التحدّيات المستقبليّة غير المنظورة، وتحسين الإنتاجيّة، وزيادة التنافسيّة، والإسهام في التنميّة المستدامة، وازدهار الوطن.
والتعليم النوعي في القرن الواحد والعشرين لا يعني فقط تعلُّم المهارات الأساسيّة في القراءة والحساب والعلوم، بل يعني تعلُّم مهارات التفكير الإبداعي والنقدي والتحليلي، وحل المشكلات، والعمل الجماعي، والتّواصل الفعّال مع الآخرين، والتعاطف معهم، والقابليّة للتكيٌّف، والمثابرة، وتفهُّم الآخر، والتّسامح ، والمواطنة.
ثمّة ظاهرة مقلقة وتحدّي خفي آخر في التعليم الأردني بالإضافة إلى تحدّي النوعيّة، وهذا التحدّي لا يتم الحديث عنه بأي درجة من المعقوليّة، وهو عدم قدرة النّظام التعليمي الأردني على التّعامل الفعّال مع فجوة اللامساواة في التّعليم، وانتشال الفقراء والمهمشّين من عالم الفقر والبطالة.
ليس ذلك فحسب بل أنّنا قمنا بقصد أو غير قصد بزيادة هذه الفجوة عندما قدّمنا تعليماً نخبويّاً لأبناء المقتدرين، وتعليماً عاديّاً لغيرهم من المواطنين. واللامساواة، كما هو معلوم، ترتبط بالكثير من الأمراض الإجتماعيّة، ومشاعر الإحباط والخذلان، وسلوك العدوان. ومن مظاهر اللامساواة في التعليم الأردني نذكر ما يلي :
1. ينهي 25% فقط من الطّلبة الأردنيين المرحلة الثّانويّة بنجاح، والنّسبة الأكبر ممّن لا ينهون هذه المرحلة بنجاح هم من أبناء الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً.
2. 10% فقط من الأشد فقراً ينهون المرحلة الثانويّة بنجاح.
3. 15% فقط من الأشد فقراً ينهون المرحلة الجامعيّة بنجاح.
4. تزايد الفجوة التّحصيليّة بين الأقل تحصيلاً والأكثر تحصيلاً، ومن المعروف أنّه كلّما ضاقت الفجوة ما بين هاتين الفئتين كلّما كان ذلك دليلاً على التّقدم التربوي .
5. تزايد فجوة الفرص والإمكانات والتسهيلات التربويّة بين المحافظات وبين المدن والأرياف والبوادي.
إنّ التّقدم التربوي الحقيقي يتمثّل بتقديم تعليم نوعي للكافّة، وليس لفئة محدودة من المواطنين. فالتعليم النّوعي للجميع هو الرّافعة الحقيقيّة للتنميّة المستدامة، وزيادة الإنتاجيّة، والقدرة التنافسيّة للدولة، وبناء منعتها وقدرتها على مواجهة المستقبل بثقة ونجاح. أمّا التعليم المتميّز لفئة محدودة من المواطنين فهو يساعد على زيادة فجوة اللامساواة وزيادة الإحباط والشّعور بالخذلان، والإنفصام الإجتماعي.
تزخر المناهج الأردنيّة بالآيّات والأحاديث وسير الأنبياء والصّحابة التي تحض على الأخلاق وحسن المعاملات بين النّاس، ومع ذلك لم تنجح التربيّة الأردنيّة في تطوير القدر الكافي من المنظومة الأخلاقيّة والمواطنيّة لدى الناشئة التي تعزّز لديهم السّلوك الإيجابي تجاه الذّات، والآخرين، والمجتمع، والبيئة، والممتلكات العامّة، وتحصّنهم بنفس الوقت من تأثيرات قوى التطرّف والغلو والإرهاب.
ويعود السّبب في ذلك إلى الطّبيعة التلقينيّة للتعليم، بعيداً عن التّأكد من غرس المهارات اللازمة في المنظومة السّلوكيّة للفرد. المهم في النّظام التعليمي هو حفظ المعلومة وترديدها في الإمتحان بشكل سليم. أمّا كيف يتصرّف التّلميذ بعد ذلك، فهو ليس من أساسيّات التّعليم في نسبة كبيرة من مدارس الأردن.
ولهذا السّبب نرى تراجعاً خطيراً في المنظومة القيميّة، وفي السّلوك الإجتماعي، وفي التّعامل مع الملكيّة العامّة، والبيئة. فما الفائدة من حصول طلبتنا على أفضل النتائج في العلوم والرّياضيّات إذا كان الواحد منهم لا يحترم الغير، ولا يسمع وجهة نظر الآخر، بل ويعتدي عليه، ولا يلتزم بالنظام، ولا يحترم القانون، ويخرب الملكيّة العامّة، ويلقي بالنفايّات في الشوارع. إنّ القضاء على مظاهر العنف الإجتماعي وسائر الإنحرافات الإجتماعيّة التي بدأت تورق الدّولة والمجتمع، ووقف تدهور الأخلاقيّات العامّة، والمحافظة على بيئة سليمة ونظيفة، تقتضي تعليماً مختلفاً يركّز أوّلاً وقبل كل شيء على القيّم الأخلاقيّة والمواطنيّة، والمهارات العمليّة والسلوكيّة للأفراد، والإتجاهات الإيجابيّة تجاه الحياة، وحب الآخرين واحترامهم والعيش المشترك.
منذ أكثر من خمسين عاماً تقوم اليابان- وهي مجتمع لا ديني – بتدريس مادّة تسمّى باللغة الإنجليزيّة Home Making وهي أقرب لما نسمّيه بالتربيّة الدّينيّة أو الأخلاقيّة، وتعطى هذه المادّة لمدّة ساعتين أسبوعيّاً ولكل الصّفوف، وتغطّي بشكل تطبيقي كافّة الفضائل والقيم الأخلاقيّة والسّلوكيات الإجتماعيّة، بدءاً من التّحيّة الّصباحيّة، والمحافظة على نظافة البدن والمدرسة والّشارع، وقطع الطّريق، وكيفيّة مخاطبة الآخر باحترام ولطف، وانتهاءً بالصدق، والأمانة، والإنضباط و احترام الدّولة ورموزها الوطنيّة والتّاريخيّة. إنّ تسميّة هذه المادّة بحد ذاتها له دلالة رمزيّة مهمّة ألا وهو "بناء البيت" والبيت في هذه الحالة هو المنزل والمدرسة والشارع والحي والمدينة والوطن. فلا عجب إذن أنّ اليابان أحد أكثر المجتمعات تماسكاً وتجانساً ومنعة داخليّة. ومؤخرّاً انتبهت دولة الإمارات العربيّة المتحدّة الشّقيقة إلى أهمية هذا الأمر وأدخلت التربيّة الأخلاقيّة إلى مناهجها .
فما أحوجنا نحن في الأردن أن نحذو حذوهم لبناء منعة وقوّة بلدنا.
أمّا القضيّة المفصليّة الثالثة فهي المجتمع المدني
يلعب المجتمع المدني بكافّة أشكاله ومؤسّساته وأنواعه دوراً محوريّاً في بناء الدّول، ومنعتها؛ ويقوم المجتمع المدني في كثير من الأحيان بمهمّات تعجز الدّول عنها، ويسهم عملها في تماسك المجتمع، وتعزيز نسيجه الإجتماعي. ولذلك تعمل معظم الدّول الدّيمقراطيّة على مشاركة المجتمع المدني في رسم السّياسات، ووضع الإستراتيجيّات والخطط، كما تعطيها دوراً رئيسيّاً في التنفيذ. كما يلعب المجتمع المدني دوراً أساسيّاً في مراقبة ومتابعة سلطات ومؤسّسات الدّولة والقطاع الخاص، لضمان الإلتزام بالصالح العام، وبالمعايير النّاظمة للحياة العامّة.
ومع ذلك فإنّ الدّولة الأردنيّة تنظر بعين الشّك والرّيبة للمجتمع المدني الأردني، وقد يعود السّبب في ذلك إلى أنّ المجتمع المدني يتلقّى مبالغ كبيرة من التّمويل الخارجي، وأنّه عجز عن تقديم ضمانات قانونيّة وإداريّة عن الكيفيّة التي يتصرّف فيها بهذه الأموال، كما لم يقم بالإلتزام بالشفافيّة المطلوبة وبقواعد الإفصاح عن مداخيله ومصروفاته. وبدلاً من دعم منظّمات المجتمع المدني، وتطوير عملها، وتعزيز دورها الرّديف في خدمة الدّولة والمجتمع، لجأت الدّولة الأردنيّة إلى التضيّيق على المجتمع المدني ومحاصرته، فأصبح الشّك وعدم الثّقة الأساس الّذي تنظر منه المؤسّسات الرّسميّة إلى عمل منظّمات المجتمع المدني. وبالمقابل أصبح المجتمع المدني ينظر إلى الحكومة وكأنّها سيف مسلّط على رقابه، وبذا أصبحت العلاقة بينهما غير صحيّة على الإطلاق.
لا غنى في الدّولة الدّيمقراطيّة الحديثة عن الأحزاب، والنّقابات، والمنظّمات الحقوقيّة، والنسائيّة، والرّعائية، والمنظمّات الرقابيّة المستقلّة، ومنظّمات حقوق الإنسان، ومكافحة الفساد، والحفاظ على البيئة وغيرها. فالدّولة أي دولة غير قادرة على القيام بكل شيء، ثمّ أنها – أي الّدولة – بحاجة إلى عين رقابيّة، للتأكُّد من سلامة وعدالة تصرّفاتها وتدابيرها وإجراءاتها. ومن هذا المنطلق يعتبر المجتمع المدني ركناً أساسيّاً في بناء منعة الدّولة وقوّتها وقدرتها على مجابهة التحديّات. إنّ السّبب الرئيسي الذي حافظ على كيان الدّولة اللبنانية إبّان سنوات الحرب الأهليّة الطّويلة التي تعرّضت لها يعود إلى قوّة المجتمع المدني اللبناني حينذاك. وفي تجربة فريدة من نوعها إطّلعتُ عليها شخصيّاً، تقوم المؤسّسات الرّسميّة في الدّول الإسكندافيّة بوضع السّياسات ورسم الإستراتيجيّات في مجال الرّعايّة الإجتماعيّة على سبيل المثال، وتترك التنفيذ برمتّه للمجتمع المدني بتمويل ورقابة حكوميتين. وفي تجربة شخصيّة أخرى على النّطاق الوطني عندما تمّ تكليفي وفريق أردني بالتحقيق في الإنتهاكات الموجودة في مؤسّسات الرّعاية الإجتماعيّة عام 2012، وجدنا أنّ مؤسّسات الرّعاية الإجتماعيّة التي كانت تدار من قبل الجمعيّات التطوعيّة الأهليّة كانت الأفضل على الإطلاق، وكانت الإنتهاكات فيها شبه معدومة أو في حدودها الدنيا المتوقّعة. فإذا كان الأمر كذلك فإنّنا في أمّس الحاجة لتطوير عمل مؤسّسات المجتمع المدني الأردني، ودعمها، لتكون رديفاً أساسيّاً للحكومات، وشريكاً في تحمُّل المسؤوليّة، وعيناً وطنيّاً على عملها من أجل قوّة الدّولة وزيادة تماسكها ومنعتها.
وفي الختام أحسب أنّنا إن رشدنا الحوكمة في بلدنا، وارتقينا بمستوى تعليم أبنائنا، وبنينا شراكة حقيقيّة مع المجتمع المدني قائمة على الثّقة والمصداقيّة، فإنّنا نستطيع أن نزيد من منعة وقوّة وطننا العزيز بالقدر الذي نحب.
-ورقة عمل قدمت في مؤتمر الأردن في بيئة...إقليمية متغيرة سيناريوهات المرحلة المقبلة-"2" الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية خلال الفترة من 4-6 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 في عمان-الأردن فندق رويال عمان.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة