A+ A-
نقد أهلية "الحزب السياسي" لماذا فشلت الأحزاب كشكل للتنظيم السياسي في المجتمعات العربية المعاصرة؟
2004-06-12

سامر خير احمد
باحث وكاتب

تقديم:
هذه دراسة نظرية لا تطبيقية, همها كشف جذور الفشل الذي ما فتئت تعانيه الاحزاب السياسية العربية منذ نشأتها الاولى, سواء تمثل هذا الفشل في انحراف الأحزاب عن أهدافها الطبيعية, أو عن وظيفتها حين وصولها السلطة حيث تتحول الى " عشيرة سياسية" أو الى واجهة عائلية, أو تمثل الفشل في عزوف الناس عنها و عدم اعتمادها وسيلة للتعبير السياسي كما يحدث في غير بلد عربي.

من الطبيعي أن صيغة "الحزب السياسي" هي جزء من مجموعة صيغ التنظيم التي تشكل الدولة الحديثة, والتي منها أيضا: المجلس النيابي, الحكومة, الجيش الحديث, المجتمع المدني,...الخ, ففي الحزب السياسي يجتمع المواطنون بشكل فردي و بناء على الاختيار الحر القائم على الاشتراك فيما بينهم في مجموعة اهداف عامة, من أجل التعبير عن مطالبهم و محاولة تحقيقها عبر الوصول الى السلطة. وهكذا فان وجود الحزب السياسي يستلزم وجود دولة حديثة اساسها المواطنة و اطارها القانون, وضمنها (المواطنة و القانون) ينشط الحزب و يتفاعل مع مجموعة المواطنين من جهة, ومع المؤسسات الأخرى في الدولة من جهة ثانية.
ويمكن اعادة تاريخ نشأة الأحزاب السياسية في العالم العربي الى ما قبل قرن من الزمان, حيث تأسست أولها في مصر و تونس حوالي عام 1907, غير أن الأحزاب السياسية الأساسية التي عرفها العالم العربي انما كانت تلك الأيدولوجية التي ظهرت بين العقدين الثالث و الرابع من القرن العشرين, وأهمها أحزاب: البعث الاشتراكي, الأحزاب الشيوعية العربية, جماعة الخوان المسلمين (التي كانت عمليا بمثابة الحزب السياسي).

غير أن البحث عن جذور أزمة الحزبية في المجتمعات العربية يستلزم أولا البحث في كيفية تشكل المجتمعات العربية الحديثة, ومدى تجاوب هذا الشكل مع متطلبات التوافق مع صيغ التنظيم الحديثة في الدولة, والتي منها صيغة " الحزب السياسي" بحيث لا يكون وجود هذه مجرد تشكل مظهري مقطوع الجذور عن البيئة التي يتواجد فيها.

وبصورة اكثر تحديداً, فان الاساسي في هذا الجانب هو دراسة تشكل المدينة العربية المعاصرة باعتبارها حاضنة هذه الصيغ الحديثة والمكان الذي تنطلق ادارتها منها من جهة, وباعتبار تلك الصيغ كلها, بما فيها الحزب السياسي, مدينة بالدرجة الأولى, اي انها صيغ تتجاوز الصيغ الاجتماعية التقليدية ما قبل المدينة التي وجدت في المجتمعات العربية سابقاً.
ولعل من المهم, لذلك, اجراء مقارنة سريعة بين هذه الصيغ الحديثة/ المنية و تلك ما قبل المدنية حتى يكون ممكنا فهم ازمة العلاقة بين المجتمعات العربية و الصيغ الحديثة التي يفترض انها ادوات تعبير تلك المجتمعات عن نفسها.

الحديث و القديم, مقارنة سريعة:
تتمحور الصيغ المدنية الحديثة في المجتمعات حول صعود قيمة الفرد بصفته المجردة, اي دون النظر الى الجماعة العرقية و الدينية التي ينتمي لها, ففي الصيغ ما قبل المدنية ظلت قيمة الفرد تتحدد في ضوء قيمة الجماعة التي هو جزء منها بحكم روابط الدم، كالقبيلة او العشيرة او الطائفة. وهكذا، فان مدى تحول المجتمعات العربية الى المدنية من عدمه انما يقاس بمدى تقدم مفاهيم الفردية فيه وتراجع مفاهيم جماعة العرق والدم أو الدين.

من هذا المفهوم الاساسي في المدنية يمكن اشتقاق معايير قياس اخرى، مثل معنى مفهوم المواطنة في الدولة، ففي الصيغ ما قبل المدنية تحددت المواطنة في ضوء الانتماء الديني فيما كان الذين لا يدينون بدين الاغلبية "ذميين" لا مواطنين كاملي الحقوق، اما في المدنية فالمواطنة تتحدد في ضوء انتماء الفرد للوطن وحمله جنسيته بغض النظر عن الاعتبارات الدينية، ناهيك عن العرقية.
كذلك فان مفهوم الاسرة له اهميته في هذا السياق، فالمفهوم ما قبل المدني يعني القبيلة والعشيرة او الأسرة الممتدة التي تعيش في دار كبيرة مشتركة، اما المفهوم المدني فيعني الاسرة النووية المكونة من الاب والام والابناء. ولعل من الواضح ان الاسرة النووية تكرس الشعور بالفردية، وهي التي تبدأه في نفوس الابناء، فيما المفهوم القديم يعمل بالاتجاه المعاكس. وعليه، فان المجتمعات تقترب من المدنية كلما ابتعدت عن صيغ التنظيم الاجتماعية القبلية والممتدة وتحولت الى استقلال الاسر النووية.

ولعل من معايير المدنية الهامة ايضاً، مكانة المرأة وقيمتها في المجتمع، فالمجتمعات ذات البنية المدنية التي يكون الاعتبار فيها لقيمة الفرد واهليته وكفاءته، تكون للمرأة فيها فرصة للعب دور مساو لدور الرجل باعتبار ان مقدار الدور انما يتحدد وفق الكفاءة الشخصية لا وفق الجنس او العرق او الدين. وفي هذه المجتمعات يتاح للمرأة التعبير عن رأيها والمطالبة بحقوقها وأداء الدور الاجتماعي الذي تجده مناسباً، فيما ان الصيغ ما قبل المدنية تحول بين المراة وتلك الفرص باعتبار ان القيمة هي للجماعة وللرجال الذين يقودون الجماعة لا للافراد بصفاتهم المستقلة.

تنعكس الفردية بالضرورة في مسالة الحزبية, فالفرد المستقل يحدد علاقاته و ارتباطاته في المجتمع المحيط وفق ما يقتنع به و يؤمن به و يجده متوافقا مع رؤيته للدنيا و الكون و مصالح الناس, وهكذا يكون الطريق مفتوحا امامه للاتصال بالمجموعة التي تتبنى رؤاه ذاتها ومن ثم الانخراط في الحزب السياسي الذي يعبر عن طموحاته, او تشكيل حزب سياسي يعبر عن تلك الطموحات بالاتفاق مع نظائره, دون اعتبار لمسألة الانتماء العرقي او الديني او القبلي او الطائفي, وبهذا فان المدنية المتمحورة حول الفردية هي شرط ضروري لقيام الحزبية الصحيحة, فيما أن استمرار الصيغ الاجتماعية ما قبل المدنية تعتبر عائقا امام ذلك لأنها لا تقيم وزنا لخيارات الانسان و تقيده في روابط الدم التي ولد ضمنها دون اختيار منه. و اذا كان لنا ان نذهب خطوة اخرى الى الامام, فان صيغ روابط الدم تلك, كالقبلية مثلا, انما تطرح نفسها نقيضا للحزبية و بديلا لها, فاما ان توجد هي و اما ان تكون حزبية, وليس ممكنا للاثنتين ان تجتمعا بصيغهما و مفاهيمها الحقيقيين.

تشكل المدينة العربية المعاصرة:
السؤال المطروح هنا يتعلق بمدى قيام مدن عربية كاملة المدنية, اي التساؤل حول ما اذا كانت مجتمعات هذه المدن تتصرف وفق مفاهيم المدنية الحديثة سابقة الذكر, والمتمحورة حول الفردية وقيمة الفرد بذاته, ام العكس.
منذ أواسط القرن التاسع عشر, شهدت البلاد العربية حراكا اجتماعيا هائلا أساسه الانتقال من الريف الى المدنية, وهمه الانتقال من العمل في الحقول الى العمل في الخدمات وبعض الصناعات في المدن. ولمل كانت البلاد العربية ليست صناعية كما هو الحال في اوروبا, فان هذا التكدس البشري الهائل في المدن الذي بدا واضحا منذ أواخر النصف الأول من القرن العشرين, لم يؤد دورا انتاجياً محموداً, فقد عمل المهاجرون في مجال التجارة و الخدمات و المشاريع الصغيرة و الجيش و الأمن و الوظائف الحكومية, ما لم يساعد على قيام تنظيمات اجتماعية جديدة بشكل حقيقي وعملي, ذلك ان تلك التنظيمات انما تبرز الحاجة لها في وجود انتاج صناعي لما له من تأثير على بنية المجتمع الطبقية.

هذا الانتقال لم يكن عديم الأثر بالطبع, فقد ظهرت كل أشكال التنظيم و العلاقات المدنية تقريبا, بما في ذلك الأحزاب السياسية, لكن القضية الأساسية هي في مقدار تحول هذه التنظيمات الى أدوات حقيقية لتمثيل الناس مقابل ذوبان صيغ التنظيم ما قبل المدنية, ففي هذه الجزئية يكمن قياس مشكلة الحزبية في المجتمعات العربية المعاصرة.

لقد أدى هذا الانتقال الكبير الى قيام نوع جديد من السلطة السياسية في معظم الدول العربية, والى مشاركة فئات جديدة في السلطة في جميع البلدان العربية, وهي أساسا تلك الفئات التي وفدت حديثا الى المدينة و باتت تشكل اكثر سكانها. وهذه الفئات نفسها هي التي سيطرت على أشكال التنظيم في المدن, وأهمها الأحزاب السياسية, وخاصة الأحزاب العقائدية التي صنعت تاريخ العالم العربي طيلة السنوات الستين الأخيرة, وهذا الأمر طبيعي لأنه يندرج في عملية تحول تاريخي كبرى, وليس صحيحا فهمه بأنه انتقال الريف- كما هو- الى المدينة, فهو في في حقيقته جزء من مرحلة تاريخية عاشها العالم العربي ظل خلالها يبحث عن النهضة نتيجة تأثره بأوروبا التي تحولت الى مستعمر في بلاد العرب, وشعوره بالتخلف تجاه هذا المستعمر المتحضر وسعيه الدؤوب للحاق به.

وقاد هذا الانتقال الكبير, في أبرز واهم نتائجه, الى إحداث تغيير ثقافي كبير في المجتمعات العربية, التي باتت تتركز أعدادها في المدن الكبرى, خاصة العواصم, أساسه خلخلة قيم و أفكار المجتمعات الريفية بما يتناسب و الحياة المدنية الجديدة. إن فهم الحالة الثقافية الجديدة للمجتمعات العربية, خاصة في النصف الثاني من الفرن العشرين, هو أساس فهم أزمة الصيغ المدنية في المدن العربية, و على رأسها صيغة" الحزب السياسي" ذلك أنها هي التي توجه سلوك الأفراد و الجماعات في هذه المجتمعات.
ثقافة مجتمعات المدن العربية المعاصرة:
أهم ما يمكن قوله عن ثقافة هذه المجتمعات أنها غادرت ابويتها القديمة التقليدية، ولم تنجح في الوصول الى ثقافة مدنية كاملة تقوم على الفردية، فهي تجمع بين الاثنتين فيما يمكن اعتباره حالة مرضية بينة لان سلوك هذه المجتمعات يأخذ بمفاهيم الثقافة التقليدية في بعض سلوكه وبمفاهيم المدنية الحديثة في بعضه الآخر، وقد يأخذ بمفاهيم إحداهما في مظهر سلوكه وبمفاهيم الثانية في جوهره ومغزاه.

صيغ التنظيم الظاهرية التي تملكها مجتمعات المدن كلها صيغ حديثة، كأجهزة الدولة و السياسة و الاقتصاد, غير أن عملية الانتقال التاريخي الكبرى المشار اليها, والتي لم تستطع إنجاز انتقال كامل الى الثقافة المدنية, لم تكن قادرة على خلق الوعي الاجتماعي اللازم لانخراط الناس الكامل في أطر هذه الصيغ, بما في ذلك الأحزاب السياسية, لأنها لم تنتج مصلحه حقيقية لهذه المجتمعات بالتخلي عن المفاهيم القديمة القائمة على الجماعية بشكل تام, لصالح الأخذ بالمفاهيم المدنية الجديدة بشكل كامل, فوسائل العمل و"الإنتاج" في هذه المدن لم تخلق هذه المصلحة, فظل الفرد قادرا على الجمع بين فرديته في الحصول على العمل-مثلا- وجماعيته في المطالبة بحقوقه السياسية لأن روابط العمل الجديدة لم تنتج أدوات قادرة حقا على إنجاز مطالبه السياسية, والشيء نفسه يقال عن مطالبه الأخرى أيضا بما في ذلك الحصول على العمل نفسه في أحيان كثيرة.

واذا كانت وسائل العمل لم تخدم الانتقال تماما للمدينة الحديثة, فان السلطة السياسية أيضا كانت مستفيدة من عرقلة هذا الانتقال و الإبقاء على المفاهيم التقليدية الجماعية في المجتمعات العربية لأنها ظلت توظفها للحيلولة دون انفلات المجتمعات من قبضتها فكانت وسيلة سيطرة و أداة لضمان ولاء الأفراد الذين ينتظمون في الجماعات التقليدية التي استطاع النظام السياسي ضمها الى صفه, وكانت أيضا وسيلة لتطبيق قاعدة " فرق تسد" فالسلطة الحاكمة تعزز الانقسامات على أساس الأصل العرقي أو الديني أو الطائفي بين أفراد المجتمع حتى تضمن تسابق هذه الجماعات المنقسمة فيما بينها, على تقديم الولاء للسلطة و إثبات أنها الأكثر اخلاصها لها.هذا في مقابل ان السلطة لا تستطيع تماما السيطرة على تجمعات مدنية كالأحزاب السياسية, فهذه أولا تطمح بالحلول محل السلطة, ثم أنها قائمة على حرية الفرد للانضمام لها او تركها على عكس التجمعات التقليدية التي يولد الفرد واحدا منها دون اختياره, وعليه فان السيطرة على المؤسسة المدنية التي يمكن ان تتراخى بترك أعضائها لها. ولعله واضحا ان من السهل على السلطات النفخ في الغرائز و العواطف و تعظيمها, وهي الموجودة في القبلية و الطائفية, فيما ان تنشيط العقول و توجيهها للانخراط في المؤسسات المدنية يأتي لها "بوجع الرأس" وليس مضمون النتائج اذا ما قصدت تنظيمه و ضبطه في صفها, وبالعكس فان قمع الأفكار وتعطيل التفكير بالإرهاب سهل وممكن في حين ان تجفيف العواطف و الغرائز مستحيل تماما.

كما أن التجمعات العربية لم تنجح- بدعوى الحفاظ على " الأصالة" – في حسم اختياراتها بين الجماعية/التقليدية/الأبوية و الفردية / الحداثة / حرية الاختيار, وظلت تراوح بين واقع يدفعها مظهره للأخذ بالحديث, وذاكرة محلها اللاوعي تربطها بالقديم الذي لم يعد ضروريا, حتى اذا اضطرتها بعض الظروف لاستجماع عزمها, اجتمعت على ما هو كامن في لا وعيها, واختارت أن تتوزع على أسس قبلية او طائفية لا حزبية / مدنية, فهذه المدنية الموجودة في مظاهر حياة مجتمعات المدن العربية حديثة التشكل و التضخم لم تنتقل بعد الى اللاوعي, سواء للسببين الذين تم ذكرهما (ظروف الانتاج و الأنظمة السياسية) او لأن هذه المجتمعات المهزومة في حاضرها لا زالت مشدودة للتراث / الماضي لأنه كان منتصرا و بهيا, ولا زالت ترى الحل في تمثل الأجداد و العيش كما عاشوا حتى و ان كان أسلوب التفكير هذا غير منطقي ولا واقعي. وهذا كله يحول دون التحلل من القديم البالي و الأخذ بالجديد العصري حتى وان كان هذا الأخير هو المفيد عمليا.

ولعل البحث في أسباب هذه الحالة الثقافية المشوهة التي تعيشها مجتمعات المدن العربية المعاصرة يحتاج التعرض لجزيئات كثيرة, غير ان أهم ما يمكن استخلاصه منها هو أن عملية الانتقال التاريخي الكبرى التي حلم فيها العرب بالحداثة و النهضة انما قادت الى اعادة انتاج التخلف القديم ذاته, لكن هذه المرة في صورة بنى حديثة ليس منها الا المظهر, فظل التخلف هو التخلف, ما ابقى المجتمعات العربية مرتبكة و حائرة و مأزومة(5).

نتيجة الثقافة المدنية المشوهة في الحزبية السياسية:النتيجة البديهية لهذه الثقافة المدنية المشوهة هي أن تكون الحزبية السياسية مظهرا لا جوهرا, أي ان يأخذ الحزب السياسي شكل الجماعة المنضوية وفق اختيار أفرادها في إطار فكر واحد او برنامج مشترك, فيما الحقيقة ان الحزب يتصرف كعشيرة أو طائفة او جماعة دينية. ولا يعني ذلك بالضرورة ان كل واحد من اعضاء الحزب يقصد اتباع افراد عشيرته او طائفته المنضوين في ذلك الحزب, وانما ان الجهة المسيطرة على قيادة الحزب و الموجهة لآدائه توظفه لخدمة أهداف عشائرية او طائفية ( وهي كما يتضح اهداف قبل مدنية و غرائزية و لا علاقة للنهضة و المدنية بها) أو ان تلك القيادة – وباسم فكر الحزب و برنامجه – تنفخ في القبلية او الطائفية لأنها القادرة على جمع الناس و حولها, وبالتالي تعظيم نفوذها.

هذا ما كان طيلة النصف الثاني من القرن العشرين في الأحزاب العربية الرئيسية, خاصة تلك التي وصلت السلطة, دون ان يعني ذلك ان الحال كان واحدا في الأحزاب كلها, فالأحزاب التي ظلت في المعارضة و ظلت تعاني الملاحقة و القمع و المنع, وظل قادتها و أعضاؤها يعيشون تهديد السجن و النفي و التعذيب, مثل أكثر الأحزاب الشيوعية العربية, ما كان لها ان تتحول الى اداة قبلية أو طائفية لانعدام المكاسب من وراء اكثرها, و لا يعود ذلك بالتأكيد لنبل في أفكارها و مطالبها وزهد في قياداتها و مناضليها, فلو أنها وصلت السلطة لتحولت الى ما تحول اليه غيرها, ولحكم باسمها لحشد القبلية او الطائفية.

والطريف ان الأمر لم يقتصر على الأحزاب التي حازت السلطة, بل امتد لكل حزب كان من ورائه منفعة او فائدة او غنيمة مهما صغرت, حتى وان اقتصرت على مسمى " الأمين العام" الذي يتلقى الدعوات الرسمية و يضر المناسبات الكبرى, فتلك هي الوسيلة الوحيدة لحشد الأعضاء في الحزب: الغرائزية التي تأخذ شكل القبلية او الطائفية.

وهكذا فان البنى الاجتماعية القديمة ظلت على حالها و قاومت التحلل الطبيعي الناتج عن زوال الحاجة لها و أعادت إنتاج نفسها تحت مسميات جديدة, اهمها " الحزب السياسي", فذلك حزب لقبيلة كذا, وهذا حزب لطائفة كذا, تسيطر عليه و تحركه حتى وان لم يكن أعضاؤها كلهم من أبنائها و بناتها.

ذلك يعني ان الحزبية السياسية لم تقم في حقيقة الأمر في العالم العربي, بشكل عام, مع استثناءات قليلة لأحزاب معدودة و لأفراد قادتهم نواياهم الطيبة او أجبرتهم ظروفهم للانضمام لأحزاب العشائر و الطوائف.
والأمر لا يستوجب كثيرا استغراب, فالمؤسسات المدنية و على رأسها الأحزاب السياسية تحتاج بيئة مدنية لتنمو فيها, فقد يكون ممكنا لأفراد مدنيين في سلوكهم ان يشكلوا حزبا سياسيا, غير أن تجربتهم سيكون محتوما عليها بالفشل جماهيريا لو ظل حزبهم مدنيا خالصا,فبيئة المجتمعات العربية ليست مدنية أبدا, بل قديمة و متخلفة, حتى و ان سميت تجمعاتها السكانية الكبرى "مدناً"!
المدنية أولى من الحزبية:
الحزبية السياسية في – أصلها – وسيلة لا هدف, همها تحويل مطالب الأكثرية في المجتمع الى واقع عبر الوصول الى السلطة, فمطالب الأكثرية في هذه الحالة برنامجية او ايدولوجية, لا غرائزية او عنصرية, فالمجتمعات المدنية المتحضرة لا وجود فيها للغرائزية و العنصرية و العرقية, وان وجدت فهي منبوذة و مدانة ( و الحديث عن الغرائزية و العنصرية بين ابناء المجتمع نفسه) . ولأنها مطالب و أحداث ذات طابع برنامجي او ايدولوجي, فهي لا يمكن التعبير عنها الا بوسائل مدنية, بمعنى ان المجتمعات المدنية تستخدم بالضرورة أدوات مدنية.

هكذا فان البنية المدنية للمجتمع شرط لازم لوجود وفاعلية المؤسسات المدنية الحقيقية، وعلى رأسها الأحزاب السياسية، فإذا وجدت البنية المدنية نجحت المؤسسات المدنية، واذا لم توجد تحولت تلك المؤسسات الى هياكل تسكنها الأرواح الشريرة المتمثلة بالقبلية والطائفية والعنصرية، الى آخر ذلك من سلوكيات تعبر عن عدم تقدير كفاءة الإنسان وأهليته كفرد بغض النظر عما ولد ضمنه من عرق او دين او طائفة.

التساؤل عن أسباب ضعف الأحزاب السياسية او فشلها لا معنى له، فالأحزاب ليست غاية أبدأً الا عند مكن يريدون اتخاذها "ديكوراً" لحياتهم السياسية المريضة، والتي يعشش فيها التخلف والرجعية، والأولى التساؤل عن غياب "المدنية" عن مدن العرب، فالمدنية هي الغاية، وهذه الغاية لا تتحقق بطريقة عكسية، اي بإيجاد الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية الأخرى، وانما تتحقق بالقضاء على نقيضها المتمثل بالقبلية والطائفية والتخلف عبر تجفيف منابعه في عواطف وغرائز الناس، وابدال مفاهيم المدنية محله، وعندما يقتنع الفرد العربي بأن قيمته كفرد تتحدد في ضوء كفاءته وإمكانياته الشخصية لا في ضوء "عزوته"، يصير انسانأ مدنياً متحضراً، ويصير المجتمع كله كذلك، وهكذا يتجه المجتمع لاستحداث أو تفعيل المؤسسات المدنية المختلفة، ولدفن التجمعات التقليدية القديمة التي تستخدم لأهداف تحقيق النفوذ، ويتخذ الأحزاب السياسية بما هي أدوات لجمع المتفقين في أفكارهم وبرامجهم، للتعبير عن ارادة الناس السياسية،فتنجح الأحزاب باعتبارها وسيلة، والتي هي محلها الطبيعي في الحياة السياسية السليمة.

الأولى بالمثقفين العرب ان يتحاوروا ويتباحثوا في أسباب غياب المدنية عن المجتمعات العربية التي تعيش تخلفها، وفي كيفية الانتهاء من هذا الغياب، لا أن يتباحثوا في أسباب غياب او ضعف او فشل الأحزاب السياسية التي انفض عنها الناس، فهذا الانفضاض ليس الا مظهراً من مظاهر غياب المدنية، وليس هو الأزمة بذاتها.
وليس يغني المجتمعات العربية وجود أحزاب سياسية او الدفع الإعلامي لإنجاحها (رغم انه دفع محكوم عليه بالفشل اذا قصد فعلاً إنتاج أحزاب حقيقية) ما دامت هذه المجتمعات تائهة في التاريخ بين ما قبل الحداثة والحداثة. المدنية أولاً .. ثم المؤسسات المدنية!


- ورقة عمل قدمت لمؤتمر "الاحزاب السياسية في العالم العربي ...الوراقع الراهن وآفاق المستقبل" الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية بتاريخ 12-13/حزيران 2004,الاردن -عمان.