A+ A-
أثر التطورات الإقليمية على عملية الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي
2015-08-29
بسم الله الرحمن الرحيم
 السيدات والسادة
 
يسعدني ان اكون بينكم اليوم للتداول في قضايانا المصيرية، وارجو لمؤتمركم هذا النجاح في ان تكون مخرجاته، عناصر توعية ووعي لاوسع نطــاق، وهذا ما عودنا عليه الأستاذ عريب الرنتاوي ومركز دراسات القدس.
 
إن إنهيار النظام العربي بهذا الشكل المريع، كانت له أسبابه وستكون له تداعياته العميقة الأثر أيضاً. والأردن الواقع في قلب الشرق العربي، والمحاط بدول عربية أكبر منه سكاناً وثروة، يتأثر بمحيطه العربي، سلباً أو إيجاباً اكثر من أي بلد عربي آخر. اليوم تقف على حدوده مع سوريا والعراق قوى القتل والتدمير تتربص به وبكيانه وآمنه. كما أنه مهدد بشكل واضح، وعلى المدى المتوسط والبعيد بتداعيات القضية الفلسطينية المستعصية على الحل، فمن ناحية، يعمل الأردن على تجنــب الظروف والأخطاء التي أدت إلى تداعي الدولة في دول الربيع العربي . وهي كثيرة ومنها: التفشي الطائفي، وإنتشار الفساد والاستبداد والتبعية، وعدم الكفاءة في إدارة الدولة، وفشل العديد من برامج التنمية، والسيادة المنقوصة، وغياب دولة القانون، وتغييب الديموقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد، وغياب الدولة العميقة ، وضعف الأحزاب السياسية وتهميش دور المجتمع المدني وغيرها. وهي كما نرى أمور مهمة طويلة ومعقدة تجعل من الصعب التغلب على الترسبات العميقة لها في المجتمعات العربية. ويدور جدل موسع حول جدية الحكومات في إجراء الإصلاحات اللازمة والواضحة للوصول إلى هذا الهدف. وتتزاحم الآراء والاتهامات والشكوك في الساحة السياسية الأردنية حول حقيقة نوايا الحكومات في السير في خطوات مدروسة نحو الإصلاح.
 
هنــــاك مـــن يرغب بإبقـــاء الوضــع الحالي الداخلي علـــى مـــا هــــو عليه (Statues Quo) مع بعض الإصلاحات الشكلية معتبــرين أنه (ليس بالإمكان أبدع مما كان) وينادي البعض الآخر بترك هذه الفترة الحرجة والخطرة تمر بدون أن نهز القارب حتى نتجنب تداعيات وسلبيات الربيع العربي، ونحافظ على أمننا ثم نتولى أمــر الإصـــــلاح والدمقرطــــة (على راحتنا) وبالتدريج.
 
وهناك من يقول، وانا منهم، أن هذا هو الوقت المناسب لإجراء الإصلاحات المتدرجة والواعية، لأن ما حدث في بلدان الربيع العربي هو تراكم تلك القضايا والسياسات التي إنفجرت فيما بعد في وجه الحكام وتسببت بهذه الفوضى والدمار . كان بامكانهم تناول حبة اسبرين للعلاج ولكنهم تأخروا فأصبحت العملية الجراحية ضرورية.
 
ومن جهة أخرى على الأردن أن يتعامل مع القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها وتعقيداتها وإنعكاساتها ، في وقت نجد أن إسرائيل تعمل على تحقيق أهدافها في المحطة الثالثة الأساسية من إستراتيجية إنشاء دولة إسرائيل التوراتية . المحطة الأولى كانت إنشاء الدولة ، المحطة الثانية كانت القدس والمرحلة الثالثة الحالية هي بناء الهيكل المزعوم رمز الدولة اليهودية التوراتية ورمز إستكمال المشروع الصهيوني بناء الدولة التوراتية وهي لليهود فقط . أي أن تحقيق يهودية الدولة هو الان في مرحلة التنفيذ.
 
هذه هي صورة قاتمة ولكنها واقعية ، وعلينا أن نواجهها بكل صراحة ووضوح وتصميم ، قد لا يرى البعض أن هذا الخطر قادم أو أن الأولوية هي لمجابهته . بل يعتبر قلة من السياسين الأردنيين أن خطر الانتشار الإيراني في الدول العربية له الأولوية في المجابهة . وقـــد لا يبدو هناك مظاهر تهديد في الوقت الحاضر. إلا أن إسرائيل تخطط وتضع الهدف وتعمل على تهيئة الظروف للوصول إلى الهدف ولو على مراحل، بحيث لا تشعر الأطراف المعنية الا والهدف قد تحقق. وغياب أي مشروع نهضـــــوي عربي، أو خطاب سياسي عربي موحد، أو خارطة طريق عربية، يسهل على إسرائيل تنفيذ مخططها، وعلى العالم التهرب من مسؤولياته. ويزيد من خطر تداعيات هذا المخطط على الأردن.
 
هذه الأخطار والتهديدات المحدقة بنا من خارج حدودنا أمر معروف، ومعروف أيضاً أن جاهزية القوات المسلحــة والأجهزة الأمنية ، ومصداقية وإعجاب دول العالم بالقيادة الهاشمية وبحكمتها ، ووعي الشعب الأردني في عدم الإنجرار إلى صراعات تؤدي بالأمن والاستقرار الداخلي ، لصالح الدمار والدم . كلها عوامل أدت إلى الإطمئنان إلى جاهزية الأردن للتغلب على تلك الأخطار . وهيأت هذه المصداقية مكانة مرموقة للأردن في العالم . وهذا الوضع المميز هو نوع آخر من الحماية من التهديدات الخارجية.
 
الخطر الأكبر والتحدي الأساسي الذي سوف نواجهه هو خطر تداعيات الصراعات الإقليمية والتحالفات الجديدة على الجبهة الداخلية ، ويبدو أن المسؤولين والأجهزة لا تعي حجم التغيير الذي طرأ على قناعات ومفاهيم الناس وتكوينهم الفكري وخاصة عند الشباب . لقد آن الآوان أن نتفاهم على أمور أساسية، وان نفتح الملفات وننظف الجروح والتقرحات بغرض شفائها.
 
مــــن أيــــن نبــــدأ ؟؟
 
الخطوة الأولى هي أتخاذ القرار السياسي الواضح بضرورة السير في هذا النهج. نهج ( الثورة البيضاء) التي نادى بها مراراً وتكراراً جلالة الملك عبد الله الثاني وطال انتظارها . أخر صيحات الملك هي في الأوراق النقاشية الخمسة التي وضعت في أيدي الحكومة والناس منذ سنوات . ولم ينفذ منها إلا القليل حتى أن جلالته أظهر في مناسبات كثيرة عدم رضاه عن مفهوم ( قل ما تريد، وانا أفعل ما أريد ) الذي طبقته الحكومات . المحتوى الفكري وخارطة الطريق الإصلاحية حددتها تلك الأوراق النقاشية، ومنها نبدأ. السؤال الكبير هو: لماذا تعاملت الجهات الحكومية مع هذه الأوراق والأفكار بهذه الطريقة ؟ هل هو التجاهل المقصود ؟ وهذه الأفكار موجودة أيضاً في توصيات لجنة الأجندة الوطنية ، ولجنة الحوار الوطني. ويتسأل الكثيرون من يعطل تنفيذ هذه الأفكار المستنيرة.
 
إن واجب الوزارات والدوائر والمؤسسات وضع الخطط وإقتراح الأفكار والبدائل لأن ذلك في صلب مهامهم ، ولهذا يتولى وهذه هي مهمة المسؤول الحكومي ، ولهذا هو في منصبه . نحن نضع أصبعنا على الجرح وتقدم التشخيص وإذا ما أقتنع المسؤول بصحــة الرأي تقوم كوادر الجهة الحكومية المعنية بوضع الساسية والتشريع.
 
الخطوة التالية تكون في رأيي ، بإختيار مجموعة من الأشخاص المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة ( وهنا لا أقصد النزاهة المالية فقط ) والشعور بالمسؤولية ليتولوا تنفيـــذ هذه الخطط بعد أن يكونوا قد جلسوا قبل توليهم المنصب الوزاري أو غيره، وأقروا إستراتيجيات في كافة القطاعات. وتعاهدوا على احترام تلك الإسترتيجيات والخطط والأفكار . وأن يعملوا كفريق متعاون ومتفاهم فيما بينهم. إن إظهار الجدية والحزم في تطبيق القانون بدون مجاملة أو مفاضلة سوف يعيد هيبة الدولة ، وهو أمر أصبح ضرورياً.
 
هذا لا يعني أن الأمور سوف تسير بسلاسة ، ولكنها رسالة واضحة تعني أن الدولة جادة في تطبيق القانون على الجميع.
 
السيدات والسادة،
 
الأفكار والاقتراحات كثيرة وطويلة وتم بحثها ومناقشتها بتوسع وسوف أذكر هنا بعض هذه الأفكار بدون الدخول بالتفاصيل :
 
أولاً: ضرورة منح منظومة التربية والتعليم العناية اللازمة وإصلاحها وتوجيه الاهتمام بما يتناسب وعصرنة التعليم في القرن الحادي والعشرين بالتعامل مع المنهاج والمعلم والبيئة المحيطة والطالب بعلمية ومنهجية . حيث أن هنالك تراجع كبير في هذه المنظومة . ولا يغيب عن بالنا أهمية ربط هذه المنظومة بثورة المعلومات والتكنولوجيا ، وبناء كليات مهنية متقدمة بحيث نشجع الطلبة وأهاليهم من التقدم للتسجيل فيها .
 
ثانياً : تشجيع التوجه إلى اقتصاد منتج ليساهم في تخفيف معدلات البطالة وتخفيض نسب الفقر والفقراء وتحسين الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها قطاعات واسعة من المواطنين وعدم الشعور بالأمان الاقتصادي والمعيشي ، ووجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل خاصة في المحافظات . ويبدو أن هذا الجرح يتعمق بالرغم من كل الجهود والأموال التي تبذل لتحسين الوضع.
 
اتخذت الحكومة إجراءات مالية وضريبية قوية أدت إلى وضع أعباء اضافية قاسية على المواطن العادي . وبغض النظر عن ضرورة هذه الإجراءات أو عدمها ، فانها أدت إلى وضع أعباء جديدة وقاسية على كاهل المواطن ، وانضمت شرائح جديدة من المجتمع إلى طبقة الفقر . أن إفقار المواطن او المجتمع له تداعيات بعيدة المدى على حياة ومسار الامة . وتتغير كل المفاهيم والقيم عند الفرد أو المجتمع في ضوء وضع الفقر . وهناك بوادر تشير إلى أن ذلك يحدث في الأردن ، وهــو أمر خطير .
 
ثالثاً : ضرورة المعالجة السريعة لعوامل سياسية متعددة ، منها تداعيات الصوت الواحد في قانون الانتخاب مما أدى إلى تبعثر في الإنتماءات وإبتعاد عن المفاهيم الوطنية العامة اضافة الى مفاهيم الجهوية والعشائرية ، الأمر الذي أدى إلى تراجع مفهوم المواطنة والدولة والإنتماء إليها . كذلك قضايا الفساد التي يتداولها الناس بشكل واسع مع قناعات سلبية حول آلية محاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين . وأهمية معالجة تعثر البلديات وعدم قدرتها على تلبية حاجات الناس ، وكذلك على استفحال البيروقراطية في النظام الأداري الأردنــي حتى أصبحت معطلة لمصالح الناس .
 
رابعاً: العمل على وضع الخطط الفعلية وتنفيذها نحو مشاركة اكبر لجيل الشباب الذي يزيد عمره على 25 عاماً وأصبحت نسبته أكثر من 50% من المجتمع الأردني ، تأثر بتلك العوامل المذكورة ، إضافة إلى أنه عاش في ظل الأنترنت الذي وفرت له معلومات وحرية تعبير لا سابق لهما .
 
ولذلك فإن التكوين الفكري والسياسي والاجتماعي لهذا الجيل اختلف عن تكوين من سبقهم من أجيال هو جيل يمكن القول بأنه متمرداً ، لعدم توفر الظروف المناسبة له ، قياساً على معايير الماضي .
 
خامساً : العمل على تمكين سيادة دولة القانون والدولة المدنية وتحديد تأثيرات التعصب بجميع أشكاله ،خاصة أننا نعاني من تأثير ديني عقائدي من مفاصل الصراع الذي يجري حولنا ، وتلك التقسيمات السياسية والانقسامات الإثنية والدينية والطائفية التي أصبحت بوادرها واضحة في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا . وربما يأتي الدور أيضاَ على بعــض دول الخليج . كذلك تداعيات القضية الفلسطينية المستعصية على الحل . وهناك من يعتقد أن خارطة المنطقة ستكون مختلفة عام2020 مما هي عليه اليوم وهذا العامل بالذات يعمق النزوع نحو التطرف عند البعض .
 
نحن نؤمن ان الدولة المدنية هي الحل في نزع فتيل الاقتتال الطائفي ، وان داعش وغيرها عبارة عن فقاعات سوف تنتهى عندما تحقق مهمتها بتفتيت العالم العربي والاسلامي الى كيانات دينية متطرفة .
 
الحضــور الكـــرام،
 
أما الجانب الثاني الذي يهدد بتعريض الأردن إلى منزلقات وأوضاع صعبة فهو تداعيات القضية الفلسطينية .
 
فالاحتلال الاسرائيلي لكامل فلسطين وخطط الاحتلال لتهويد الضفة الغربية، والإنقسام الفلسطيني الحاد وبقاء الوضع دون حل يضمن الحقوق الوطنية الفلسطينية وإقامة دولته المستقلة، والاحتراب الطائفي في المنطقة كلها أمور لها تاثير مباشر على الاردن ، وقد احدث ذلك حالة من عدم الاستقرار الذي يغلفه الخوف من القادم المجهول. ولا يغيب عن أذهننا أن الاطماع الصهيوينة التي تمتد بشكل مباشر للاردن من خلال نوايا تهويد الدولة التي تعلنها إسرائيل ، وهي تقتنص الفرص لتحقيق ذلك.
 
اضف الى ذلك التغيرات السريعة السياسية التي تحدث في الشرق الاوسط من استقطابات طائفية واثنية وغيرها . والاتفاق الامريكي الايراني من جملة هذه التغيرات الجذرية التي طرأت على المنطقة. وسيأخذ هذا الاتفاق ابعاداً جيوسياسية بعيدة المدى، ستؤثر على بلدان عربية عديدة.
 
فقد اعترضت اسرائيل على الاتفاق الأمريكي ( الغربي) الإيراني واعتبرته تهديداً لها ويضر بمصالحها ، وفشلت في ايقافه، ولهذا، فإنها سوف تطالب بثمن من دول الغرب وأمريكا والثمن ستدفعه فلسطين.
 
تداعــيات ذلك على الاردن واضحة ، حيث يعتبر ذلك تهديداً مباشراً للامن القومي الوطني ، وقد لا تكون هنالك اية مظاهر تهديد في الوقت الحاضر ، الا ان اسرائيل تخطط وتضع الهدف وتعمل على تهيئة الظروف التــي تناسبها على مراحل بحيث لا تشعر الأطراف المعنية ومع مرور الزمن، إلا والهدف قد تحقق . ثم يتعاملون معه كأمر واقع. وللأسف تبدأ المفاوضات من حيث أنتهت إسرائيل في ما حققته على الأرض، نحن في الأردن لا يجب أن نكون مشاهدين سبليين، بل علينا أن نكون لاعبين رئيسيين في المحافظــة على أمننا الوطني وعلى الحقوق الوطنية الفلسطينية.
 
وفي ظل غياب أي مشروع نهضوي عربي ، أو خطاب سياسي عربي متفق عليــه موحد في ظل خارطة طريق عربية عليها إجماع ، فإن ذلك يسهل على إسرائيل تنفيذ مخططتها .
 
خلاصة القول، أن الواجب الضروري هو في تحصين الجبهة الداخلية بإجراء إصلاحات حقيقية تؤدي إلى تقوية المؤسسية. وتبني المفاهيم الخيرة في النفوس. إن إصلاح النفوس أصبح أمراً ملحاً، بعد أن تم التعامل مع النصوص بحد مقبول. ولحماية الجبهة الداخلية من الخطر الاكبر والتحدي الاساسي الذي سوف نواجهه يكمن في معالجة ملفات تخص المواطن وحياته مباشرة. وتتعلق في إجراء الإصلاحات السياسة والاقصادية التي تطمئن المواطن على مستقبله ومستقبل أبنائه، ومحاربة جيوب الفقر والبطالة وان يكون اقتصادنا الغالب في صفته اقتصادا منتجاً وليس اقتصاداً استهلاكياً. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هنالك تغييرات كبيرة طرأت على تركيبة المواطن الاردني السياسية والمعيشية والاجتماعية والنفسية ، وعلى صانعي القرار أن يأخذوا ذلك بالحسبان.
  • دولة الأستاذ طاهر المصري، رئيس وزراء أسبق ورئيس مجلس الأعيان السابق/ الأردن
- ورقة عمل قدمت في مؤتمر "الأردن في بيئة إقليمية متغيرة – سيناريوهات المرحلة المقبلة"