A+ A-
الترابي ، الناطق باسم الإسلام المتطرف
2001-10-01

أمير فيسبرود

تقدمه: خرج هذا الكتاب من بحث نلت به درجة الماجستير M. A . حيث تمت مناقشة هذا البحث او هذه الرسالة باشراف البروفيسور عمنوئيل سيون ، في الجامعة العبرية في كانون ثاني 1997 . ويتناول هذا البحث دراسة ومعالجة ظاهرة حسن الترابي ، زعيم الحركة الاسلامية في السودان منذ ما يقرب من ثلاثة عقود ، وهو براي الكثيرين سواء في الغرب او في العالم الاسلامي ، يعتبر الزعيم السياسي والمفرك الرئيسي للتيار الاسلامي المتطرف السني اليوم.

تشهد تصريحات الشخصيات المركزية في هذا التيار على اهمية الترابي . هكذا ، على سبيل المثال ، صرح الشيخ عمر عبد الرحمن ، الزعيم الروحي لحركة الجهاد في مصر ، وأحد الشخصيات الاكثر بروزا في التيار الاسلامي الراديكالي ، اثناء محاكمته حول دوره في المؤامرة لتفجير المركز التجاري العالمي في نيويورك سنة 1992 ، ان المفكرين المسلمين اللذين ساهموا مساهمة كبيرة جدا لوطنهم ودينهم [ في الجيل الاخير ] هما اية الله خميني وحسن الترابي . ايضا ، شبه زعماء اسلاميون راديكاليون اخرون الترابي بالسيد قطب وبابو الاعلى المودودي ، الذين يعتبران من دون شك من ابرز المفكرين في التيار الاسلامي الراديكالي الشني على امتداد القران الحالي . وهناك ايضا من وصفه "بالمجدد" وهو وصف ينطوي على معنى روحي ورمزي كبير في الاسلام.

رغم الاعتراف العام بشان اهمية الترابي كواحد من المفكرين الرئيسيين الاسلاميين في عصرنا ، لم يكتب الى الان اي بحث شامل ، يحلل بصورة نقدية افكاره . ان كتاب عبد الوهاب الافندي "ثورة الترابي" الذي نشر في العام 1991 ، وهو ، في الواقع البحث الوحيد حتى اليوم حول شخصية الترابي واثره ، يعالج في الحقيقة ، من بين ما يعالج افكاره ويحللها ، ولكن من دون ان يعتمد نهجا انتقاديا ومن دون ان يحاول فحص تطور وجهات نظره على امتداد الزمن .

كما ان هناك ابحاثا اخرى تحلل افكار الترابي ، غير انها تبحث فقط جوانب معينة منها ، مثل قضية الموقف من الديمقراطية ولا تحاول القيام برسم صورة شاملة.
ان الحاجة لبحث شامل فكر الترابي ، يعتمد موقفا شاملا ونقديا ، تبدو مهمة خاصة على ضوء حقيقة ان السودان هو البلد السني الاول الذي وصلت فيه قوى الاسلام الراديكالي الى السلطة ، في الواقع ، يشكل حزب الترابي "الجبهة الاسلامية القومية" منذ حزيران 1989 وحتى الان القاعدة الجماهيرية – السياسية التي تقف وراء النظام العسكري في السودان ، على الرغم من ان الترابي و "الجبهة" يتنصلون بصورة رسمية مناية علاقة لهم بالنظام الحالي ، وينفون تدخلهم في ادارة شؤون الدولة . ان فحص فكر الترابي ووضعه على المحك العملي من شانه عندئذ ان يضع امامنا شهادة اولية في غاية الاهمية بالنسبة الى المدى الذي يمكن ان تجسد فيه حركات اسلامية راديكالية مبادءها في اللحظة التي يصلن فيه الى السلطة ، وكذلك شهادة على الطابع المستقبلي المحتمل للانظمة الاسلامية الراديكالية في دول اخرى . مثل هذا الفحص كان حتى السنوات الاخيرة ممكنا في حالة واحدة فقط : الجمهورية الاسلامية الايرانية . لذا ، فان أي مؤشر اخر يستند الى تجربة اسلامية اخرى ، بوسعه ان يساهم في تعميق فهمنا ، كيف لا ، والتجربة السودانية تختلف عن التجربة الايرانية من نواحي عديدة ، وهي ذات خصوصية بحكم كونها الاولى من نوعها في العالم العربي السني.

هناك سبب اخر يجعل من بحث الحالة السودانية _ او بصورة اكثر دقة يحث فكر الترابي _ اكثر اهمية وهو حقيقة ان الكثير من الحركات الاسلامية الراديكالية وكثير من الزعماء الاسلاميين الراديكاليين المهمين يرون في الطريق الايديولوجية والسياسية للحركة الاسلامية في السودان ، قصة نجاح ونموذج يحتذى به . ويمكننا ان نذكر بهذا الصدد بصورة خاصة حركة النهضة التونسية كحركة متاثرة جدا بفكر الترابي . ولكن التقدير والاعجاب للنموذج الترابي السوداني اعم واشمل مما يعتقد البعض ، بحيث يتم التعبير عنهما من جانب زعماء سياسيين راديكاليين امثال عبد المجيد الزنداني احد زعماء حزب "التجمع اليمني للاصلاح" في اليمن واسحق فرحان ، زعيم "جبهة العمل الاسلامي " في الاردن ومفكرين مهمين امثال منير شفيق وعبد الله النفيسي ، حيث يشيد الاخير في كتاب صدر له في 1989 بالنموذج الفكري والسياسي الذي تتبناه الحركة الاسلامية في السودان ، من خلال توجيه نقد لاذع للنهج الفكري الذي تتبناه حركة الاخوان المسلمين في مصر ، في الوسع ان نرى اذا ، وكما تشهد اقوال النفيسي ان الاعجاب بالنموذج الترابي في اوساط تلك الحركات ليس نابعا فحسب من ذات نجاح الحركة الاسلامية في السودان في الوصول الى الحكم بل من اسباب اكثر عمقا ، بحيث يتيح لنا فحصها ودراستها مؤيدا من القدرة على فهم الاتجاهات الاخذة بالتطور اليوم في صفوف التيار الاسلامي الراديكالي.

يتفحص هذا البحث فكر الترابي في خمسة مواضيع رئيسيه:
الموقف من الديمقراطية ، الموقف من النساء ، الموقف من الاقليات غير المسلمة ، الموقف من الدولة الوطنية والمفاهيم المتعلقة بالقومية والاسلام ، وموقفه من قضية تكتيك الكفاح من اجل تحقيق اهداف الحركة.

تنجم دراسة وتفحص هذه القضايا الخمس ، اولا وقبل كل شيء ، عن كونها قضايا مركزية اشغلت بال التيار الاسلامي الراديكالي على امتداد القرن الحالي . بيد ان هناك اسبابا اخرى تقف وراء اختيار هذه القضايا ، تتصل بظروف معينة في السودان (قضية تتصل اساسا بمسالة الاقليات ) ونقاط شخصية بدت لي مهمة للتوضيح . ويرتبط هذا الامر بخاصة بمسالة تكتيك العمل لتحقيق اهداف النضال . كما تراني ساحاول توضيح افكار الترابي حيال هذه المسالة ، هذه الافكار ، التي اوصلته الى مكانته العالية في التيار الاسلامي وحولت النموذج السوداني الى رافعة اعجاب وتقدير في نظر حركات اسلامية اخرى.

استهل البحث بمدخل يشكل استعراضا لخلفية الترابي وخلفية حركة الاخوان المسلمين في السودان.
وقد تركز الاستعراض في مساهمة الترابي في بلورة طريق الحركة في السودان وفي المزايا التي اكسبتها خصوصية عن سواها من حركات اسلامية اخرى . يلي المدخل الجزء الرئيسي من البحث ، حيث يعاين ويفحص فكر الترابي في القضايا الخمس التي ذكرت آنفا . وهنا تمت تجزئة منهجية في البحث بين فحص الفكر وبين استكشاف تجسيده في الحياة العملية ، اما في الجزء الذي يعالج الافكار ، فقد تم استعراض وجهات نظر الترابي مرفقة بشرح وتوضيح العناصر التي اثرت على بلورتها وتطورها على امتداد طريقه السياسي.

ايضا ، تمت مقارنات بين ارائه وبين اراء مفكرين اخرين من التيار الاسلامي الراديكالي ن من الحاضر ومن الماضي ، بقصد الوقوف على اثار افكار محتمله عليه ونتفحص مدى تجديده كمفكر . من بين المفركين الرئيسييين الذين قارنا افكار الترابي بافكارهم هم : ابو الاعلى المودودي ، وسيد قطب ، راشد الغنوشي ، ويوسف القرضاوي . الى ذلك ، وفي جزء من القضايا تمت مقارنة ايضا مع اراء مفكرين اخرين من التيار المعاصر ، وذلك من اجلب الوقوف على مكانة الترابي كمفكر في التيارات الاسلامية المختلفة (المعاصر ، والمحافظة والاصولية) اما اختيارنا للاشخاص من سابقي الذكر فقد نجم عن اعتبارات مختلفة .

فقد تم اختيار المودودي وقطب ، مثلا ، بسبب رغبة في الوقوف على التطورات التي طرات في صفوف التيار الاسلامي الراديكالي منذ الخمسينات وحتى اليوم ، عير مقارنة مع المفكرين الاكثر بروزا في صفوف هذا التيار في الخمسينات والستينات . ومن بين المفكرين الحاليين حاولت ان استشهد بشخصيات يشبهون الترابي من حيث كونهم زعماء سياسيين لحركات اسلامية راديكالية (كراشد الغنوشي) ، الى جانب مفكرين اسلاميين راديكاليين لا يشغلون أي منصب سياسي رسمي (كالقرضاوي) . من الواضح ان هذا الاختيار اعتباطي الى حد ما ، وليس من وسعه ان يعكس كل الوان الطيف الفكري الموجودة في صفوف التيار الاسلامي الراديكالي . ومع ذلك ، اعتقد بان هذا الاختيار بمقدوره ان يقدم صورة غاية في الوضوح وامنية فيما يتعلق بالاتجاهات الاخذة بالتطور في صفوف هذا التيار راهنا ، وان يوقفنا على تميز الترابي والحركة الاسلامية في السودان مقارنة مع التيارات الاسلامية الاخرى.

اما الجزء الثاني من البحث فانه يتفحص قضية تطبيق الشريعة في الحياة العملية . وهذا التفحص بالذات هو الذي يميز هذا البحث عن ابحاث اخرى كتبت عن مفكرين اسلاميين راديكاليين اخرين والتي عالجت الجانب الفكري النظري فحسب . يتمحور النقاش في هذا الجزء بالطبع ، حول الفترة من حزيران 1989 وحتى اليوم ، وهي الفترة التي اعتلت فيها "الجبهة الاسلامية القومية " سدة الحكم في السودان . الى ذلك تمت محاولة ايضا ، بالقدر الذي سمح فيه توفر المادة المعلوماتية لفحص تطبيق مبادئ الترابي في نشاطات الحركة الاسلامية في السودان ايضا في السنوات التي سبقت اعتلاءها السلطة ، خاصة في فترة تعاونها مع نظام النميري (1977-1985) . ينبغي الاشارة بهذا الصدد الى وجود صعوبة موضوعية وغير موضوعية في فحص تجسيد مبادئ الترابي في الحياة العملية في ظل النظام الاسلامي الراهن في السودان نابعة عن وجود القليل من المصادر بهذا الشان في البلاد ، وعن اسباب تتصل بالطابع المنغلق والصارم للنظام الحالي في السودان . لذا فان البحث في هذا الجزء اعتمد على المصادر المحدودة التي كانت في حوزتي (صحافة عربية ، تقارير منظمة امنستي…الخ) .

وحاولت ان اقدم من خلالها صورة عامة للنظام الاسلامي الحالي في السودان ، وعبر التركيز في البحث على تطبيق مبادئ في ظل هذا النظام . وتجدر الاشارة هنا الى ان الفترة القصيرة من وجود النظام الاسلامي في السودان في السلطة (نحو تسع سنوات) لا تتيح التوصل الى نتائج قاطعة فيما يتصل بطابعه . غير ان من الممكن الوقوف بالتاكيد على اتجاهات عامة اخذة بالوضوح بهذا الصدد ، والتي يحاول البحث الحالي الاشارة اليها.

يحالو البحث اذا ، ومن خلال استعراض افكار الترابي ازاء القضايا الخمس السابقة الذكر ووضعها على المحك العملي ان يرسم صورة اولية له كمفكر وكزعيم سياسي ، والوقوف على مكانته بين مفكري التيار الاسلامي الراديكالي ، وبخاصة الوقوف على الاتجاهات المركزية الاخذة بالتطور في الفكر الاسلامي الراديكالي اليوم . زد على ذلك ، ان محاولة قد تمت لفحص ما يميز الترابي والحركة الاسلامية في السودان مقابل الحركات الاسلامية الاخرى ، لا سيما حركة "الاخوان المسلمين" في مصر . ما ساحاول اثباته بشكل رئيسي بهذا الصدد هو ان الاختلاف بين الحركة الاسلامية في السودان وبين حركة "الاخوان المسلمين" في مصر والحركات الاسلامية الاخرى لا يكمن الى ذلك الحد في اختلافات اديولوجية جوهرية وانما في الظروف السياسية المختلفة في البلاد التي عملت فيها . ذلك ان هذه الظروف هي التي مكنت الحركة الاسلامية في السودان من الاندماج في النظام السياسي في الدولة وانتهاج خط عملي على امتداد معظم سنوات نشاطها ، مقابل حركات اسلامية اخرة اصطدمت بمواجهة عنيفة مع الانظمة في بلادها ، ونتيجة لذلك تبنت خط فكري وعملي راديكالي.

يحاول البحث ايضا فحص مدى تبني الترابي لمؤسسات ونماذج غربية ، كالديمقراطية وحقوق الانسان .
اننا نشهد في السنوات الاخيرة . جدلا متصاعدا في اوساط الاسرة الاكاديمية في الغرب فيما يتصل بالسؤال التالي : هل بوسع حركات اسلامية راديكالية ان تتبنى معايير غربية ، وخاصة مبادئ النظام الديمقراطي ؟
ان فحص ودراسة فكر الترابي الذي امضى سنوات كثيرة في الغرب وتلقى دراسته العليا في فرنسا وبريطانيا ، بوسعه ان يعطينا مؤشرا هاما بهذا الصدد.

يستند البحث اساسا على مصادر اولية ، لكنه استند ايضا الى مصادر مختلفة واسعة ، تتعلق جميعها بالتيار الاسلامي الراديكالي عامة ، وبالسودان خاصة . اما المصادر الاولية فانها تشمل اساسا كتابات الترابي ومقابلات صحفية جرت معه . كذلك تم استخدام مصادر اضافية مثل الوثائق والمستندات واشرطة مسجلة لمفكرين اسلاميين راديكاليين اخرين ، وصحافة عربية واجنبية ومعلومات من الانترنت.

مدخل:
حسن الترابي وحركة "الإخوان المسلمين" في السودان

حسن الترابي
ولد حسن الترابي في اقليم كسلا في السودان في 1932 ، وينحدر من اسرة دينية محافظة . وكانت الثقافة التي تلقاها في صغره تقليدية ، وذلك بتاثير من والده الذي كان يشغل منصب قاضي شرعي . توجه الترابي بعد ان انهى الثانوية العامة في مدرسة "حنطوب" لدراسة الحقوق في جامعة الخرطوم ، حيث حصل هناك على شهادة ال B . A في عام 1955 . ومن م توجه لاستكمال دراسته في الخارج ، حيث نال شهادة الماجستير في الحقوق من جامعة لندن في عام 1957 وكذلك نال شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوريون في باريس في عام 1964 . وقد اتاحت له فرصة دراسته في الخارج الاطلاع بشكل واسع على الحضارة الغربية وعلى اوروبا ، الامر الذي يتضح بصورة جلية في كتاباته .

مع عودته الى السودان ، عين عميدا لكلية الحقوق في جامعة الخرطوم ، لكنه سرعان ما انشغل في نشاط سياسي متشعب . وفي الحقيقة شرع الترابي في نشاطه السياسي في الخمسينات في جامعة الخرطوم ، وذلك عندما انتمى الى احدى المجموعات الاسلامية التي نشات عنها فيما بعد في عام 1954 حركة "الاخوان المسلمين" بيد ان نشاطه السياسي لم يبدأ بشكل جاد وحقيقي في عام 1964. وبفضل اطلاعه وثقافته التي امتسبت شهرة واسعة اصبح الترابي زعيما لحركة "الاخوان المسلمين" في السودان في فترة قياسية . ومن الناحية العملية يعتبر الترابي منذ عام 1964 وحتى اليوم زعيما للحركة بكل تسلسلاتها واسماءها المختلفة.

مع انهيار النظام العسكري لابراهيم عبود في عام 1965 ، شكل الترابي جبهة الميثاق الاسلامي " حيث ضمت هذه الجبهة عددا من الهيئات والحركات الاسلامية وعلى راسها "الاخوان المسلمين" ووضعت نصب عينها تحقيق دستور اسل