A+ A-
الوجه الآخر للإسلام السياسي... التغيير خارج قبة البرلمان!
2008-01-27
"لم تكتف جماعة الإخوان بعدم تكفير الحكام بغير ما أنزل الله، بل تجاوزت هذا إلى الاعتراف – بأقوالها وأفعالها - بشرعية هؤلاء الحكام وتركت هذا الفهم يستشري في صفوفها. بل واعترفت الجماعة بشرعية المؤسسات الدستورية العلمانية (البرلمان والانتخابات والديمقراطية)، وكان هذا من أكبر العوامل المساعدة للطواغيت على وصم الجماعات الجهادية بالخروج على الشرعية، شرعية الكفر"
 
أيمن الظواهري في "الحصاد المرّ: الإخوان المسلمون في ستين عاماً"
" لا أحد في هذه البلاد إلاّ ويتساءل عن معنى المشروعية التي تعتمد عليها أساساً لحكمك وبقائك على "عرش أسلافك"، من أين جاءت هذه المشروعية؟ وكيف نشأت في الإسلام الفتنة التي سماها الديدان ملكية وراثية أو خلافة؟ وليس كل من يعلم ذلك يقدر أن يقول ما قاله أبو حازم لسليمان: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة، من غير مشورة من المسلمين ولا رضى منهم".
 
عبد السلام ياسين في "الإسلام أو الطوفان" الموجهة إلى العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني
" السلفية في الأردن لا تزال قائمة على أساسين اثنين: التصفية والتربية، دون تكتل، ودون تحزب، ودون الاشتغال بالعمل السياسي، ولا نعني نحن أن العمل السياسي لا يجب شرعاً، بل هو فرض من فروض الكفاية، لكننا نعلم أنّ الاشتغال اليوم بالسياسة اشتغال يصرف القائمين على هذه الدعوة مقرونة بهذه التصفية والتربية عما هم في صدده".
 
ناصر الدين الألباني من محاضرة بعنوان "التصفية والتربية قبل الخوض في السياسة"
استهلال
يقع هذا المقال ضمن "الحديقة الخلفية" لأوراق المؤتمر ومداولاته!
فعلى الرغم أنّ النقاش يأتي حول "الانتخابات والتحولات الديمقراطية في العالم العربي"، على صعيد سؤال الإسلام السياسي، إذ يتناول مؤشرات وتداعيات المشاركة السياسية البرلمانية للإسلاميين، فإنّ من الخطأ قياس الدور السياسي للإسلاميين وموقفهم من الديمقراطية ومدى قوتهم وحضورهم في الشارع فقط على الحركات الإسلامية التي تشارك في اللعبة السياسية أو تقبل بها، إذ أنّ هذه الحركات لا تشكل إلا جزءاً من الحالة الإسلامية العامة اليوم، فيما تشكل حركات وجماعات إسلامية أخرى خارج اللعبة السياسية جزءاً حيوياً وكبيراً.
 
الظاهرة الإسلامية متشعبة وتتعدد مستوياتها لا تُختزل في اللعبة السياسية؛ إذ ثمة خارطة متشعبة وواسعة من الجماعات والحركات الإسلامية التي تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على المشهد السياسي وتقوم بدور ملحوظ في التأثير على الرأي العام تجاه العديد من القضايا السياسية، بل وفي صوغ وعيه السياسي العام.
 
تمتد الخارطة الإسلامية (تلك) بين التوجهات الشعبية المختلفة، كالجماعات الصوفية والمنظمات الإسلامية الخيرية أو الثقافية، إلى دور المساجد (وما تقدمه من خطاب ديني) والجمعيات الدينية، إلى الحركات الدعوية كجماعة الدعوة والتبليغ، وظاهرة الدعاة الجدد (حركة صنّاع الحياة مثلاً)، إلى الجماعات السلفية بألوانها وتجلياتها المختلفة، وصولاً إلى حزب التحرير، ثم الحركات الإسلامية التي تشارك في اللعبة السياسية، وفي داخل هذه الحركات أيضاً هنالك توجهات ومواقف وآراء واجتهادات مختلفة ومتباينة، ليس فقط تجاه الموقف من السلطة، بل حتى ازاء حدود اللعبة السياسية والديمقراطية والتعددية.
 
هذا المقال؛ سيتناقش (إذن) سيناقش موضوع الحركات الإسلامية التي تقدّم نماذج فاعلة في المشهد الاجتماعي والسياسي العربي، وتؤدي دوراً سياسياً خارج قبة البرلمان، وإن كان دوراً غير مباشر في بعض الأحيان. ولا يدخل في اهتمامنا الحركات التي ترغب بالمشاركة في اللعبة السياسية وتؤمن باللعبة الديمقراطية طريقاً إلى الإصلاح والتغيير، لكنها محظورة وممنوعة (كما هي الحال بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين في سورية وحزب النهضة في تونس). إنّما سنتناول نماذج من الحركات والأحزاب الإسلامية، التي لا تقبل ابتداءً بالتغيير عن طريق اللعبة السياسية ولا البرلمان، على الأقل في الصيغة الواقعية القائمة، وتبحث عن استراتيجيات أخرى، سواء كان ذلك بالعمل على الجماهير وتشكيل وعيها، أو العمل المسلّح، أو التغيير المدني السلمي خارج سياق اللعبة السياسية، أو الانقلابات العسكرية.
 
من الصعوبة بمكان الإحاطة بخارطة الحركات الإسلامية "المستنكفة عن اللعبة السياسية"، في هذا المقال، وسوف أقتصر على عرض أربعة نماذج يمثل كل منها حركات فاعلة ورئيسة سواء في المشهد الإسلامي الإقليمي أو العالمي أو حتى المشهد المحلي. وهذه الحركات هي:
-السلفية التقليدية بما تمثله من مفارقة الإعلان عن "ترك السياسة"، في مقابل مساهمتها الفعّالة في دعم الحكومات وتاييدها ضد الحركات الإسلامية الأخرى، وتناقض مواقفها بين تلك الطاعة وبين اتهام السياسة المعاصرة بأسرها بالفساد والضلال، بما في ذلك الديمقراطية وقيمها.
- السلفية الجهادية وما تمثله من إعلاء لمبدأ الحاكمية الإسلامية وتكفير النظم العربية الحاكمة، واتخاذ مواقف حاسمة ضد المؤسسات السياسية، ومن الديمقراطية والتعددية، واتخاذ العمل المسلّح استراتيجية للتغيير.
- حزب التحرير الذي يتخذ من عودة "الخلافة الراشدة" هدفاً سياسياً رئيساً، ويرفض المشاركة في اللعبة السياسية، ويجمع بين العمل على تغيير الرأي العام وتأييد فكرة الانقلاب العسكري وصولاً إلى السلطة.
- حزب العدل والإحسان في المغرب الذي لا يرفض المشاركة السياسية من حيث المبدأ، لكنه يضع شروطاً يصعب قبولها من السلطة الحالية ويمتاز موقفه من الديمقراطية بالالتباس أو محاولة التهجين ليخضعها إلى مقاييسه وتصوراته السياسية.
 
السلفية[1] التقليدية: شيزوفرينيا الفكر والمواقف
يستخدم مصطلح "السلفية التقليدية" (أو السلفية العلمية أو السلفية السلطوية) في الإشارة إلى تيار واسع وعريض داخل الجماعات والحركات السلفية يتبنى خطاباً سياسياً تصالحياً ومهادناً مع الحكومات العربية، ويستنكف عن المشاركة المباشرة في الحياة السياسية، سواء في الانتخابات النيابية والتشريعية أو المسيرات والمظاهرات والبيانات السياسية، ويؤكّد أن اهتمامه الرئيس وتركيزه الكبير على الشؤون الدينية (بتصحيح عقائد المسلمين وإدراكاتهم الفقهية والفكرية حول الإسلام) ونشر وعي عام إسلامي يتبنى مقولات المدرسة السلفية (هذه) في شتى شؤون الحياة.
 
إلاّ أنّ الراصد والمراقب لهذا التيار يلحظ، بصورة واضحة ومباشرة، الحجم الكبير من المفارقات التي يقع فيها سواء على صعيد الخطاب أم الممارسة. فهذا التيار يتبنى ابتداءً مفهوماً شاملاً ومهيمناً للإسلام، يجعل السياسية جزءاً لا يتجزأ منه، لكنه في الوقت نفسه يتبرأ من العمل السياسي ويصوّر الحياة السياسية المعاصرة بكتلة من السواد والظلام والخروج عن مقاصد الشريعة الإسلامية.
 
لو وقف التقليديون عند هذا الحد، لكان بالإمكان تفسير موقفهم بالاستنكاف عن المشاركة في "الوحل السياسي"، لكنهم في الوقت نفسه لا يتوانون عن تقديم الخدمات المطلوبة للحكومات العربية، التي تستخدمهم بصورة فعّالة، بالتحديد الأردن والسعودية، ضد خصومها السياسيين، وبصورة خاصة الحركات الإسلامية الجهادية والإصلاحية[2]. بل وتعتمد العديد من المؤسسات الرسمية العربية توصية قدّمتها مؤسسة راند الأميركية المعروفة وتتضمن هذه ضرورة استخدام وتوظيف "الإسلام التقليدي" في مواجهة "الإسلام الجهادي"[3].
 
تبدو المفارقة الأخرى أنّ التيار السلفي التقليدي - وهو يسوّغ السياسات الرسمية العربية ويمررها ويهاجم الحركات الإسلامية الأخرى المعارضة بشراسة- يتبنّى خطاباً دينياً مغلقاً بالتوازي مع خطاب سياسي يرفض كافة المؤسسات السياسية الحديثة من برلمان وأحزاب، ولا يقبل الديمقراطية، ويرى أنّها جميعها بدعٌ تخالف الشريعة الإسلامية.
ويتبنى التيار السلفي – أيضاً- خطاباً مغلقاً إقصائياً من الآخر، سواء في الغرب أو في الأيديولوجيات العلمانية في العالم العربي والإسلامي، ويمتاز بنزعة محافظة وتقليدية حادّة في الشؤون الاجتماعية والثقافية والسياسية، تجاه المرأة وحقوق الإنسان المدنية والسياسية..الخ.
 
إلى هنا تبدو مشكلة وربما أزمة النظم والحكومات العربية في توظيف هذا التيار في اللعبة السياسية، وفتح أفاق العمل له في المجالات الاجتماعية والدينية والتأثير على الناس واضحة للعيان. إذ أنّها - بذريعة "الأمن"- تُضعف إمكانيات ومجالات العمل الإسلامي التنويري، وتساهم في تجذير هذه التيارات، وتسمح لها بالتأثير على الرأي العام وصوغ مفاهيم دينية مناقضة لما تدّعيه هذه الحكومات من تعزيز الفهم المستنير والمعتدل للإسلام!
 
شهد التيار السلفي التقليدي انتشاراً وازدهاراً واضحاً في المجتمعات العربية والإسلامية، بخاصة بعد فترة السبعينات، بعد الثورة النفطية، وساهمت المؤسسات الدعوية التي أنشأتها السعودية في أماكن مختلفة في العالم في نشر الفكر السلفي، كما أدّت مرحلة البناء والتعمير في الخليج العربي خلال العقود الأخيرة، وما تطلّبته من مهنيين وعمال إلى تأثر فئات اجتماعية عربية عريضة بالخطاب السلفي ومضامينه.
 
برزت مؤسسة "هيئة كبار العلماء في السعودية" كإحدى المؤسسات الرئيسة التي شاركت بفعالية في بناء الخطاب السلفي التقليدي. لكن المساهمة الأكبر جاءت عن طريق الشيخ ناصر الدين الألباني (1914 - 1999) وتلاميذه ومدرسته، بخاصة في التعاطي مع الشأن السياسي. وقد انتشرت أدبيات ومواقف هذه المدرسة في العديد من المجتمعات والدول في مختلف أرجاء العالم، وأصبحت نافذة ومهيمنة على مجموعات كبيرة من الأفراد، وتشكل جزءاً حيوياً من الحالة الإسلامية العامة، وتنافس الحركات الإسلامية الأخرى، مثل جماعة الإخوان المسلمين، في تجنيد الأتباع والأنصار وتشكيل الوعي الاجتماعي بالإسلام ومفاهيمه وإدراكاته.
الانتخابات النيابية كفر بالاسلام!
يتبنى التيار السلفي التقليدي خطاباً سياسياً متشدداً تكفيرياً تجاه الديمقراطية ومفهوم المشاركة السياسية في الانتخابات التشريعية والنيابية بصورة خاصة. إذ يؤكد الالباني على كفرها وخروجها عن الاسلام بقوله: "اما الانتخابات السياسية، فهي بالطريقة الديمقراطية حرام لا تجوز، والمجالس النيابية التي لا تحتكم الى كتاب الله وسنة رسوله، انما تتحاكم الى الاكثرية فهي مجالس طاغوتية لا يجوز الاعتراف بها فضلاً عن ان يسعى المسلم الى انشائها، ويتعاون في ايجادها وهي تحارب شرع الله ولأنها طريقة غربية من صنع اليهود والنصارى, ولا يجوز شرعاً التشبه بهم"[4].
 
إذن؛ تكفير الديمقراطية والتعددية والانتخابات النيابية هو احد ثوابت الخطاب السلفي الالباني السياسي، قد جاء في كتاب "مدارك النظر في السياسة"، وهو احد اهم الكتب السياسية لهذا التيار، لعبدالمالك الجزائري، وقدم له وقرظه الشيخ الالباني ان "المسار الانتخابي نظام كافر، لانه يساوي فيه بين المسلم والكافر.. واعظم هذه كلها انه يساوي فيه الاسلام بالكفر.. فان حديثهم كلة انتصار لـ "اختيار الشعب" و"ارادة الشعب" و"أحكام الدستور".. قبح الله هذا الدين ما ترك شيئا لله الا جعله قرباناً لطواغيته، انه دين الديمقراطية، وهذه الالفاظ الفجة من قاموسه الذي استبدلوه بالوحي واعطوا به الدنية في دينهم"[5].
 
ويشدد الألبناني على ما سبق فـ "الديمقراطية: وهي عند واضعيها ومعتنقيها: حكم الشعب نفسه بنفسه، وان الشعب مصدر السلطات جميعاً، وهي بهذا الاعتبار مناقضة للشريعة الاسلامية، والعقيدة.. لان الديمقراطية نظام طاغوت، وقد امرنا ان نكفر بالطاغوت.. فالديمقراطية والاسلام نقيضان لا يجتمعان ابدا. اما الايمان بالله والحكم بما انزله، واما الايمان بالطاغوت والحكم به، وكل ما خالف شرع الله فهو من الطاغوت ولا عبرة بمن يحاول ان يجعلها من الشورى الاسلامية، لان الشورى فيما لا نص فيه، ولاهل الحل والعقد من اهل الدين والورع، والديمقراطية بخلاف ذلك كما سبق".
 
تستند الرؤية السلفية التقليدية، أيضاً، في رفض المؤسسات الديمقراطية على اعتبارها "بضاعة غربية" لا تتوافق مع الإسلام ومصادره التشريعية المتمثلة بالكتاب والسنة. إذ يؤكد سليم الهلالي، أحد أبرز شخصيات السلفية التقليدية في الأردن: " ان الاسلام مهدد من الداخل.. فقد اقام ائمة الكفر باقامة مصانع داخلية لافراز السموم من الداخل.. وهذا ما يخطط له الاسياد من الفرنجة واليهود، وينفذه العبيد منا لرويبضات الذين استنسروا في ارضنا.. ولم تزل جموع الضلالة ترفع عقيرتها الى يومنا هذا تدعو الى جهنم - عياذا بالله- فها هم دعاة الديمقراطية يصرخون، وها هم ارباب الاشتراكية ينهقون، وها هم اولياء القومية ينبحون... والناس من ورائهم يلهثون لانهم لم يستنيروا بنور العلم، ولم يلجؤوا الى ربوة ذات قرار مكين".
 
اما بخصوص التعددية السياسية والفكرية؛ فيؤكد الالباني على انها فرع عن الديمقراطية وهي قسمان: تعددية سياسية وتعددية فكرية عقائدية، اما التعددية العقائدية فمعناها ان الناس في ظل النظام الديمقراطي لهم الحرية في ان يعتقدوا ما يشاؤون، ويمكنهم الخروج من الاسلامي الى اي ملة اخرى حتى لو كانت يهودية او نصرانية او شيعية او اشتراكية او علمانية، وتلك هي الردة بعينها. اما التعددية السياسية: "فهي فتح المجال لكافة الاحزاب بغض النظر عن افكارها وعقائدها لتحكم المسلمين عن طريق الانتنخابات وهذا فيه مساواة بين المسلم وغيره، وهذا خلاف للادلة القطعية التي تحرم ان يتولى المسلمين غيرهم، ولان التعددية تؤدي الى التفرق والاختلاف الموجب لعذاب الله"[6].
 
التغيير السياسي بعيداً عن السياسة
يقوم التصور السياسي للسلفية التقليدية على تكفير المؤسسات الديمقراطية والاستنكاف عن المشاركة السياسية ورفض مبدأ التعددية الحزبية. في المقابل فإنّ التقليديين يرفضون العمل المسلّح، على النقيض من السلفيين الجهاديين، وينددون به ويعتبرون من يقوم به من الخوارج والضالين، ويصرون على أنّ العلاقة مع الحاكم تتمثل بالطاعة والانصياع والنصيحة السرية، دون القبول بالحقوق السياسية والمدنية من المعارضة وحق التعبير والتجمع..الخ، على اعتبار أنّ هذه جميعها "بدع غربية"، ليست من الإسلام في شيء وتتنافى مع الأحكام الشرعية.
 
وفقاً لهذه المقومات؛ فإنّ رؤية السلفية التقليدية للتغيير تتمثل بالابتعاد عن الشأن السياسي، والتركيز على مبدأ "التصفية والتربية"، على قاعدة "اتباع السلف الصالح" ورفض "البدع في الدين"، ما يجعل الاهتمام يتنقية ادبيات العقيدة والفقه والشريعة الإسلامية شغلاً أساسياً في منهج السلفية التقليدية، وصولاً إلى بناء جيل يتمثل الفهم الصحيح للإسلام، كما كان عليه السلف الصالح، ويشكل رافداً من روافد التأثير على المجتمع وتصحيح تصوراته الدينية، ما يهيء لاستنئاف الحياة الإسلامية بصورتها الصحيحة.
 
وفقاً للألباني؛ فإنّ فمشكلة تخلف وتأخر العالم الاسلامي اليوم تكمن في المسلمين وليس في الاسلام، وذلك بسبب ما تعرض له تاريخيا من تحريف وانحراف عمل على تشويه صورته النقية التي كان عليها ابان عصر الصحابة والسلف الصالح، والنهضة لا يمكن ان تتحقق الا بالعودة الى الكتاب والسنة، وفهمها على منهج السلف الصالح، هذا الفهم يتمثله اهل الحديث تاريخيا، فهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة التي عملت على الحفاظ على نقاء الاسلام، اما سائر الفرق الاسلامية - كالمعتزلة والاشاعرة والشيعة والصوفية وغيرها- فهي من "الفرق الهالكة"، كما ان المذاهب الفقهية من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرها، عملت على "ترسيخ الفرقة والتعصب"، وساهمت في حالة التخلف والابتداع[7].
 
وعلى هذا؛ يؤكد الالباني استحالة قيام دولة الاسلام دون المرور بسياسات "التصفية والتربية" (تصفية العقائد والعلوم الإسلامية من البدع والضلالات والأفهام الخاطئة وتربية المسلمين على هذا الفهم بوسائل متعددة) عن طريق اسلمة المجتمع، وذلك لا يمكن تحقيقه عن طريق الاشتغال المباشر بالسياسة، سواء كان عن طريق المشاركة السياسية (ديمقراطياً باعتبارها طريقة كفرية)، او عن طريق الانقلاب والثورة باعتبارها بدعة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم[8].

السياسة بين النقاء الاسلامي و الكفر الغربي
ما سبق يدفع إلى مناقشة مفهوم السياسة والعمل السياسي نفسه لدى هذا التيار، وليس فقط مسألة المشاركة البرلمانية والسياسية بعامة. إذ يقوم التصور السلفي تجاه السياسة على مقاربة مانوية تتجسد باعتبار ما ينشأ عن التصور الإسلامي المرجعي (الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح) هو خير مطلق، وما يأتي من الغرب (ديمقراطية، تعددية، انتخابات..) هي شرّ مطلق.

فعلى الرغم أنّ الألباني يتفق مع التيارات الإسلامية بأن السياسة من الدين، ويؤكد على انها مامور بها شرعا، الا انه يشدد في فتاويه على القول: "من السياسة ترك السياسة"، نظراً لاختلاف مضمون الحياة السياسية الحالية بالكلية عن التصور الإسلامي للسياسة[9].
 
فالسياسة إذا كانت مطلوبة شرعاً، فإنّها، بالمعنى المعاصر، كفر ونفاق وغش وخداع. لهذا يشدد اتباع السلفية الالبانية على نفي كون السلفية حركة سياسية بالمعنى المرذول. يقول محمد ابراهيم شفرة "السلفية كلمة تنفي بمعناها المتبادر منه، اي معنى يدل على حركة سياسية"[10].. من هنا فان "مخالطة السلوك السياسي على ما هو عليه الان لا ينبغي، ولا وجه من الاباحة لزحزحته عن دائرة المحظورات الشرعية، ومن خالطه يؤزر ومن تاب تاب الله عليه"[11].
 
يؤكد على الرؤية السابقة محمد موسى نصر، أحد أبرز الشخصيات السلفية في الأردن، بالقول: "ان السياسة من الدين عند السلفيين لكن اي سياسة؟ أهي سياسة الجرائد والمجلات ووكالات الانباء اليههودية والصليبية؟ ام سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وسياسة اصحابه؟ أهي سياسة الديمقراطيين الذين يقولون بمقولة الكفار: حكم الشعب بالشعب من اجل الشعب؟ ام سياسة اهل الاسلام الذين يقولون: حكم الله تعالى بكتاب الله وسنة رسوله انطلاقا من مبدأ الشورى الذي قرره الاسلام؟ اهي سياسة معرفة الحق بكثرة الاصابع المرفوعة في المجالس النيابية؟ ولو كانت تأييدا لفاحشة او منكر او شرك او ناد ليلي او مصنع للخمور، أم سياسة: ان الحكم الا الله امر الا تعبدو الا اياه"[12].
 
السلفية الجهادية: الحاكمية والسيف!
يشكّل تيار "السلفية الجهادية" الوجه المقابل للسلفية التقليدية، إذ يختلف معها جذرياً في الموقف من النظم العربية الحاكمة ومن مبدأ طاعتها وموالاتها للحكام، ويتبنى بدلاً من مبدأ "عدم التدخل في السياسة"، الذي رفعه الشيخ الألباني، مبدأ "التغيير الجذري"، واعتماد العمل السري والعسكري، في كثير من الأحيان، لتحقيق أهدافه السياسية.
 
وتمثّل القاعدة اليوم والجماعات التي تتبنى خطابها في العديد من أرجاء العالم (أفغانستان، باكستان، العراق، القاعدة في بلاد المغرب العربي) العمود الفقري والتجلي الحركي الأبرز للتيار السلفي الجهادي، وإن كان ظهور التيار سابقاً على القاعدة، من خلال الجماعات المسلّحة في مصر (الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد).
 
بنشط التيار السلفي الجهادي في العديد من المناطق في العالم ويعتمد مبدأ المجموعات السرية ومشروعية – بل وجوب- العمل العسكري، ويربط في مواقفه السياسية بصورة مباشرة بين النظم العربية والغرب (العدو القريب والعدو البعيد)، وقد شكّلت شبكة الانترنت في الآونة الأخيرة أداة فعّالة في تجنيد الشباب واستقطابهم وتوفير أداة للتأثير الإعلامي والنفسي والحواري من خلال "عالم افتراضي" تجاوز في آثاره ودوره مؤسسات إعلامية عالمية ضخمة.
 
السلفية الجهادية من المحلية إلى العولمة
ثمة مراحل تطور عديدة مرّ بها التيار السلفي الجهادي، وتنقل في تأثره بين العديد من المصادر المعرفية والفكرية والمنظرين. فعلى صعيد مصادر التراث الإسلامي تشكل مدرسة الحديث وعقائدها وأدبياتها الفقهية منهلاً رئيساً لهذا التيار، ويستند هذا التيار على القراءة الانتقائية لفتاوى ابن تيمية ثم محمد بن عبد الوهاب.
 
أمّا في المرحلة المعاصرة فقد كان الأب الروحي لهذا التيار، فكرياً وليس تنظيمياً، سيد قطب بخاصة كتابيه "معالم في الطريق" و"في ظلال القرآن"، إذ رسّخت هذه الكتابات، بالتوازي مع كتاب المودوي "المصطلحات الأربعة في القرآن"، مفهوم الحاكمية الذي يشكل حجر الرحى في فكر هذا التيار وتصوراته السياسية. ثم ظهر كتاب الفريضة الغائبة لعبد السلام فرج، في مصر، الذي حدّد طريق العمل المسلّح منهجاً وحيداً للوصول إلى فريضة "الحاكمية" (الخلافة الراشدة= الدولة الإسلامية).
 
في الثمانينات ساهم الجهاد الأفغاني ببث روح جديدة في العمل الإسلامي تُعزز من المدرسة الجهادية، ومن الثقة بالعمل المسلّح على صعيد التغيير. وتجلّى ذلك بوضوح في التسعينات، بعد حرب الخليج 1991، بظهور أدبيات جديدة أكثر تحديداً للمنهج "السلفي الجهادي" وتمايزه عن المدارس الإسلامية الأخرى في التغيير، وفي مقدمة ذلك كتابات عصام البرقاوي (الملقب بأبي محمد المقدسي)[13]، وكتابات عمر محمود (الملقب أبو قتادة الفلسطيني)[14] وازدهر سوق هذه الأدبيات والأفكار في سياق المواجهات التي حدثت بين إسلاميين في العديد من الدول العربية وبين الحكومات، بعد اجهاض التجربة الديمقراطية الجزائرية.
 
أخذت أفكار "السلفية الجهادية" صورة عالمية منظمة أكثر عام 1998 مع الإعلان عن تأسيس "الجبهة العالمية للجهاد ضد الصليبيين واليهود". وقد تمخّضت هذه الخطوة لتعكس إرهاصات المرحلة الجديدة من التحالف بين القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، وتبني القاعدة بصورة رسمية ومباشرة استراتيجية المواجهة الرأسية مع الولايات المتحدة الأميركية، بدلاً من التركيز سابقاً على مواجهة النظم المحلية، وهي الاستراتيجية التي برزت بوضوح في كتاب الظواهري "فرسان تحت راية النبي".
 
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة مرحلة جديدة في تاريخ القاعدة والتيار السلفي الجهادي. فعلى الرغم من إعلان "الحرب على الإرهاب" وتمكّن الولايات المتحدة من تدمير مركز القاعدة في أفغانستان، وتحقيق انتصارات عسكرية وأمنية لها، إلاّ أنّ القاعدة كانت تكسب المعركة الإعلامية والسياسية وتعيد إنتاج نفسها بصورة "لا مركزية" وتتحوّل من تنظيم محدود إلى "رسالة عالمية" تتلقّاها مجموعات من مختلف الدول والمجتمعات في العالم، وبدت تظهر "قواعد متعددة" ذات نشاط إقليمي ومحلي، ومجموعات موالية للقاعدة في مناطق أخرى في العالم العربي[15].
 
كان احتلال العراق محفزّاً آخر لنشاط القاعدة وتطورها، وتحول العراق إلى مركز إقليمي يستقطب "المجنّدين" ويرسل المتطوعين، وظهرت بؤر تتبنى القاعدة في المنطقة العربية، سواء في الخليج (بصورة خاصة السعودية والكويت) أو في الأردن (أحداث عمان نوفمبر 2005) أو المخيمات الفلسطينية (فتح الإسلام في مخيم نهر البارد في لبنان، عصبة الأنصار في مخيم عين الحلوة، جيش الإسلام في غزة..)، ثم ظهرت القاعدة في أرض الكنانة (إعلان الظواهري انضمام محمد الحكايمة المنشق عن الجماعة الإسلامية ومجموعته إلى القاعدة، وقد قام الأخير بتأسيس موقع القاعدة في أرض الكنانة، وهنالك موقع الثابتون على العهد)، وكذلك القاعدة في بلاد المغرب العربي (ونشطت بالعديد من العمليات في الجزائر والمغرب..).
 
وظهرت مجموعة جديدة من المنظِّرين والأدبيات التي يتبناها التيار السلفي الجهادي أكثر تشدداً، ويلاحظ أنّ الخطاب السياسي للتيار يسير مع مرور الوقت نحو التشدد والحدّية أكثر، ويمكن رصد ذلك من خلال تتبع المسار من سيد قطب إلى عبد السلام فرج إلى المقدسي وابو قتادة الفلسطيني ثم يوسف العيري وصالح العوفي وأبو مصعب الزرقاوي.
 
ثمة قراءات متعددة لأسباب صعود السلفية الجهادية وانتشارها في السنوات الأخيرة بصورة ملحوظة في العديد من المجتمعات العربية، ونرى في هذا السياق أنّ التفسير ليس أحادياً بل مركّباً، يجمع بين الأبعاد السياسية الداخلية والخارجية وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن في كل الأحوال فإنّ صعود هذه الجماعات، كما يرى الأستاذ منير شفيق، هو تعبير عن أزمة عامة تمر بها الدول العربية والإسلامية في مقابل عجز واضح من النظم السائدة على كافة المستويات عن مواجهة هذه الأزمة، ما يدفع إلى خلق صيغ وأنواع أخرى من الاستجابات الجانبية، كما هي حال هذه الجماعات[16].
 
الكفر بالطواغيت= مبدأ المفاصلة السياسية
يقوم فكر هذا التيار على مبدأ "الحاكمية" ومضمونه السياسي يتمثل بالكفر بالدساتير والنظم والحكومات والمؤسسات السياسية (البرلمان، الأحزاب، الحكومات والقضاء) والعسكرية الحالية (الجيش والأمن) في العالم العربي والإسلامي؛ لأنّها لا تلتزم بالتوحيد؛ الذي يعني بدوره إفراد الله بحق التشريع والحكم. يعرّف المقدسي السلفية الجهادية بأنها " تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت"[17].
 
وبناءً على توصيف النظم بالكفر والجاهلية وحكم الطاغوت، فإنّ أي مشاركة داخل المؤسسات السياسية، سواء انتخابات تشريعية أو بلدية أو حتى تولي مناصب حكومية وأمنية وعسكرية، هي بمثابة منح المشروعية للواقع السياسي الفاسد وإعانة للظالمين على المسلمين وترقيع هذه الأنظمة والمساهمة في استمرارها. فلا تجوز المشاركة بالترشيح ولا الانتخاب ولا حتى في الوظيفة في العديد من المناصب الحكومية.
 
أمّا عن المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني فيميِّز المقدسي بين طبيعة هذه المؤسسات بالقول: " ما كان من هذه المؤسسات ليس فيه مخالفات شرعية كالجمعيات الخيرية ونحوها فلا نعارض المشاركة فيه ولا ننكر على العاملين والمصلحين من خلالها إذا ما اتقوا الله وأصلحوا .. أما ما كان فيه شيء من المخالفات الشرعيه كالبلديات التي من طبيعة عملها الترخيص لمحلات بيع الخمور والنوادي الليلية وتشرف على جباية المكوس والضرائب والمخالفات الجائرة فنجتنبها ولا نسوغ المشاركة فيها ومن باب أولى ما كان من ذلك يحوي شيئا من نواقض الدين الصريحة كالأحزاب التي لا ترخص حتى تعلن ولاءها لدساتير وأنظمة الكفر وقوانينها الوضعية وتتعهد بالمحافظة عليها وعدم مزاولة أنشطتها إلا من خلال ذلك".[18].
 
في المقابل؛ تترواح طرق التغيير لدى التيار "السلفي الجهادي" من دولة إلى أخرى، ففي حين يكتفي أبناء التيار بالدعوة السلمية في بلاد معينة، لعدم توافر شروط العمل المسلّح، فيركزون على نشر أفكارهم وتصوراتهم الدينية والسياسية وجذب الأنصار والأتباع، بوسائل الدعوة الفردية والجماعية، فإنّهم في بلاد أخرى يتخذون طريق العمل المسلّح فيما يسمى "شوكة النكاية" بالحكومات، في سياق الحرب النفسية والأمنية والعسكرية، وصولاً إلى إسقاط النظام، كما هي الحال في حرب العصابات التي تقوم بها القاعدة في الجزائر في الآونة الأخيرة، وبصورة أقل تأثيراً العمليات العسكرية التي قامت بها في السعودية.
 
ويشرح المقدسي تصوره لعملية التغيير واختلافها من بيئة لأخرى بالقول: " فمسألة تغيير واقع اليوم وإن كانت من همومنا وآمالنا لكننا لا نتعجلها قبل أوانها ؛وذلك لأن التغيير الشامل يحتاج إلى إعداد وإمكانيات وإلى تضافر جهود أهل هذا التيار في كل مكان وتركيزها في مكان مناسب وتوقيت مناسب .. وما تقوم به كثير من التجمعات والجماعات التابعة للتيار السلفي الجهادي من أعمال جهادية هنا وهناك وإن كان ظاهرها أنها فقط من إعمال النكاية في أعداء الله ولا تترجم إلى تغيير عاجل للواقع ؛ إلا أنها على المدى البعيد ستهيء الرجال الذين سيقومون بعملية التغيير وتمهد للتغيير الحقيقي والشامل لأننا نعتقد ان الرجال الأكفاء الذين سيقودون الأمة إلى ذلك لن يخرجوا لنا من وراء المكاتب أو من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع، كلا بل ستخرجهم لنا خنادق القتال وسيفرزهم لنا الجهاد ...
 
" وحتى نملك إمكانات التغيير الشامل فإننا نعمل في نشر التوحيد بشموليته ومحاربة التنديد بكافة ألوانه ونسعى في تغيير العقائد الباطلة والأفكار المنحرفة والولاءات المتخبطة لآحاد وجماعات المسلمين في بلادنا وندعوهم إلى تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد فهذا النوع من التغيير هو أهم أنواع التغيير وبدونه لن يكون هناك تغييرا حقيقيا .. ومع هذا فنحن لا نتعنت في أن نكون نحن من يمسك بزمام التغيير، ولا يلزم من ذلك أو نشترط أن تكون البداءة من بلادنا، بل نحن جند من جند هذا التيار وحيث رأينا أن إخوة لنا في أي بقعة من بقاع الأرض على أبواب التغيير وقفنا معهم وانحزنا إلى صفهم، فلا بد أولا من إيجاد دار للمسلمين ومن ثم الهجرة إليها وتقويتها ويمكن بعد ذلك أن يفتح الله على المسلمين ما استعصى عليهم تغييره .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"[19].
 
إذن لا يرى تيار السلفية الجهادية استراتيجية غير القتال والجهاد، مع تقدير توافر الشروط، لتغيير الأوضاع السياسية وتحقيق هدف إقامة الدولة
الإسلامية. يؤكد عبد السلام فرج على فرضية الجهاد العيني على كل مسلم ضد الحكام فهو يقول: "بالنسبة للاقطار الاسلامية فان العدو يقيم في ديارهم بل اصبح العدو يمتلك زمام الامور ، وذلك العدد هم هؤلاء الحكام الذين انتزعوا قيادة المسلمين ومن هنا نجاهدهم فرض عين"[20]. في هذا السياق يقدّم أبو
قتادة الفلسطيني تنظيراً شرعياً وفقهياً لوجوب الجهاد في مقالته "لماذا الجهاد؟"، فبعد أن يبين أدلته في تكفير الحكام ويحدد تبعات ذلك يصل إلى القول: " هؤلاء الحكّام مفسدون في الأرض، بسبب ما هم عليه من البغض لهذه الأمّة، وبسبب حكمهم بشريعة الشيطان، والله قد أمر المؤمنين بجهاد المفسدين في الأرض. وهؤلاء الحكّام اجتمع فيهم ما تقدّم من محاربة لله ولرسوله وذلك بالإعراض عن شريعة الإسلام وترك الخضوع لأحكام الكتاب والسنّة والإفساد في الأرض، فالواجب أن يقوم أهل الإسلام عليهم كلّ قيام حتّى تطهّرَ الأرض منهم".[21]
 
الخلافة الراشدة استنساخ تاريخي
تمتاز الرؤية السياسية للسلفية الجهادية برفض المؤسسات السياسية الحديثة، بدعوى أنّها نتاج غربي، وينسحب هذا الموقف على الديمقراطية والتعددية والحريات العامة وحقوق الإنسان، وتكاد تكون رؤية التيار أقرب إلى عملية استنساخ تاريخية لنموذج الخلافة الراشدة، لكن وفقاً لأفكار دينية مغلقة متشددة، قريبة من "نموذج طالبان في الحكم"[22].
 
يكفّر الحكومات العربية بأسرها في كتابه "ملّة إبراهيم وأساليب الطغاة في تمييعها" وكذلك الحكومة السعودية التي تتبنى المذهب السلفي في كتابه "الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية".
 
وقد ألف المقدسي كتاباً خاصاً عن الديمقراطية يقول في مقدمته: " إن الديمقراطية دين غير دين الله وملّة غير ملّة التوحيد، وأنَّ مجالسها النيابية ليست إلا صروحاً للشرك ومعاقل للوثنية يجب اجتنابها لتحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد بل والسعي لهدمها ومُعاداة أوليائها وبُغضهم وجهادهُم... وأنَّ هذا ليس أمراً اجتهادياً كما يحلو لبعض الملبِّسين أن يجعلوه... بل هو شركٌ واضحٌ مستبين وكفرٌ بواحٌ صراح قد حذر الله تعالى منه في محكم تنزيله، وحاربه المصطفى صلى الله عليه وسلم طيلة حياته".
 
يترتب على هذا التصور الديني- السياسي موقفاً متشدداً من الأحزاب الإسلامية التي تقبل بالمشاركة السياسية، ومن الأحزاب السياسية العلمانية الأخرى ومن التعددية السياسية والفكرية والدينية، بل والطائفية (إذ يتخذ أتباع السلفية الجهادية موقفاً متشدداً من الشيعة)، ومن المواطنة وحقوق الإنسان المدنية والسياسية والحريات العامة والخاصة.
 
حزب التحرير: التغيير من أعلى الهرم
يمثّل حزب التحرير أحد الأحزاب الإسلامية المعاصرة العريقة، تأسس قرابة عام 1952 في القدس، على يد الشيخ تقي الدين النبهاني (1909- 1977)، وقد حاول الحصول على وجود رسمي في عمان، لكن السلطات منعت ذلك، ومع ذلك استمر نشاط الحزب بصورة سرية إلى أن وصل إلى مرحلة من الانتشار الإقليمي في دول الجوار، ثم انتشار عالمي، وتواجد ملحوظ له داخل الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا، ومؤخراً حقق الحزب صعوداً ونفوذاً في مناطق أسيا الوسطى، على الرغم من حالات الانحسار والامتداد التي شهدتها المرحلة السابقة من خبرة الحزب ومسيرته[23].
 
تمثل "الخلافة" نقطة الارتكاز في الفكر السياسي لحزب التحرير الإسلامي، التي يمكن من خلالها إدراك الأهداف السياسية للحزب وملامح منهجه في التغيير، إذ وضع الحزب عودة الخلافة الإسلامية هدفاً رئيساً له، باعتبارها المفتاح الوحيد الذي يمكن أن ينتشل الشعوب العربية والمسلمة من راهن الضعف السياسي الحالي[24].
 
استقر فكر حزب التحرير على رفض المشاركة السياسية في صيغتها الحالية في أغلب الدول العربية، وإذا كان رفض المشاركة ليس مبدئياً، إنما من خلال وضع شروط صارمة لها، فإنّ هذه الشروط، بالإضافة إلى موقف الحزب المتشدد من النظم القطرية العربية، كانا وراء حظر نشاط الحزب في أغلب دول العالم العربي والإسلامي، واعتماده على منطق التنظيم السري، لكن مع العمل السياسي العلني.
 
شهدت السنوات الأولى من عمر الحزب نشاطاً وصعوداً سياسياً ملحوظاً في العديد من الدول العربية، وقد دفع الحزب إلى محاولات انقلاب متعددة، فشلت جميعها وأدت إلى إعدام عدد من أفراده وأنصاره، وتعرض العديد منهم إلى الاعتقال والسجن، خلال المراحل السابقة. جرى العرف في السنوات الأخيرة على
اختباء أمير الحزب، وغالباً ما تكون بيروت مكان ذلك الاختباء. ومع الانتشار الجغرافي للحزب في دول ومناطق مختلفة فقد بقيت قيادته محصورة في الفلسطينيين (تقي الدين النبهاني، عبد القديم زلوم وعطا أبو الرشتة) وإن كان قد تعرّض في السنوات الأخيرة لصراع داخلي أدّى إلى انشقاق تيار (أطلق على نفسه التيار الإصلاحي، بقيادة بكر الخوالدة وكان سابقاً رئيساً للدائرة الثقافية في الحزب)، لكن الحزب أعاد ترميم تنظيمه وتجاوز الأزمة التنظيمية وإن كانت أزمته الفكرية والسياسية لا تزال قائمة[25].
 
لم يستطع الحزب السيطرة على أية دولة ولا تحقيق هدفه الرئيس بإعادة الخلافة، لكنه أصبح أحد الأحزاب الرئيسة المشكّلة للحالة الإسلامية في السنوات الأخيرة. وينشر أفكاره ومواقفه السياسية من خلال وسائل متعددة أبرزها الإعلام من مجلات (مجلة الوعي) ومواقع الانترنت (موقع العقاب، موقع الخلافة، إذاعة حزب التحرير..)، والمحاضرات والاتصال الفردي، وثمة مجموعة كبيرة من الأدبيات الخاصة بالحزب، توضح منهجه ومواقفه من الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية في العديد من الدول (يطلق عليها الحزب ولايات).
 
العمل السياسي خارج القانون والبرلمان
يرفض الحزب المشاركة في الحياة السياسية بصيغتها الحالية، أو لا يسمح له بذلك، بسبب موقفه السياسي الصارم من الدساتير العربية ومن الدولة القطرية بحد ذاتها، إذ يرفض الحزب الإقرار بالأوضاع السياسية الراهنة والاعتراف بالحكومات العربية، ويعتبرها امتداداً لمرحلة الاستعمار وتبعاته[26].