A+ A-
"الجماعة الاسلامية" كبرى التنظيمات الاصولية المصرية: هل تغادر مواقع العنف الانقلابي الى الاساليب الدعوية السلمية؟
2006-05-02
 (1) تمهيد :
شهدت الساحة المصرية خلال عقد السبعينات نشوء العديد من التنظيمات والجماعات الاصولية المتطرفة ذات الفكر الانقلابي الذي يكفر المجتمع ويسعى عن طريق العنف الى هدم النظام القائم بذاته لانه لا يحكم وفقا للشريعة الاسلامية واستبداله بنظام حكم اسلامي.

وقد عرف من هذه التنظيمات : حزب التحرير الاسلامي الذي استعجل اعضاؤه في تحقيق هدفهم المباشر وهو الاستيلاء على السلطة بانقلاب مبكر واشتهر بهجومه المباشر الذي قاده صالح سرية على الكلية الفنية العسكرية في نيسان 1974، بينما على النقيض منه رأى شكري مصطفى زعيم "جماعة المسلمين" والتي عرفت لاحقا باسم " التكفير والهجرة" ان مرحلة "الاستضعاف" يجب ان تأخذ مداها بالكامل وان التنظيم لن يقوم بالجهاد ضد السلطة الا عندما يبلغ درجة كافية من مقومات القوة العددية والنوعية . ومن اشهر عملياته اختطاف وزير الاوقاف المصري السابق الشيخ حسين الذهبي وقتله بعد رفضه اصدار بيان بتكفير النظام وعدم استجابة السلطات لمطلب الافراج عن الاعضاء المسجونين، وبعد معركة بالرصاص تم القبض على 400 عضو واعدم خمسة من زعمائه في آذار 1978.

واضافة الى هذين التنظيمين عرف تنظيم " الناجون من النار " وتنظيم "الجهاد" الذي كان من اشهر عملياته اغتيال الرئيس السادات بتاريخ 6/10/1981 ، وكذلك تنظيم الجماعة الاسلامية والذي يعد من اكبر التنظيمات الاصولية المصرية.
والملاحظ ان الاعلان عن قيام هذه التجمعات او اختفائها مرتبط باكتشاف الحكومة لها ومن ثم القيام بقمعها واحتوائها فتعود الى النشاط السري على نطاق واسع، وتفيد بعض المصادر ان السلطات المصرية وصلت بالعدد الكلي للجماعات الاسلامية الى (29) جماعة ، بينما قدرت احدى الدوريات التي تصدر في الكويت -وهي مجلة المجتمع- عددهم بستين جماعة.

ورغم تنوع وتعدد هذه التنظيمات والمجموعات الا ان اسباب نشوئها واحدة ، وهي تتلخص في مجمل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عاشها المجتمع المصري في تلك الفترة ، الى جانب التحولات الاقليمية على مستوى المنطقة ككل وخاصة السلام الذي ابتدأته مصر مع اسرائيل . وقد ادت العوامل السابقة الى شعور قطاعات من المجتمع "بالاغتراب" و "العزلة" مما ادى بحكم فهم خاص للايديولوجيا الدينية الى ممارسة العنف بهدف تدمير المجتمع الكافر واحلال نظام اسلامي محل النظام الكافر القائم فعليا.

وقد اعطى وصول الخميني الى السلطة في ايران دفعا معنويا هائلا لمجمل الحركة الاصولية في المنطقة وقد ترجم لبعض فصائلها باشكال من الدعم المادي. كما ان التدخل السوفياتي في افغانستان ومشاركة افراد هذه التنظيمات في قتال الجيش السوفياتي هناك ادى الى ما يمكن ان نطلق عليه "عسكرة" هذه المجموعات وتغذية وتيرة العنف لديها.
اما تعدد هذه التنظيمات فيرجع الى الخلافات الفكرية والتنظيمية فيما بينها ناهيك عن تعدد الاجتهادات واساليب العمل.

وفي الحالة المصرية فانه لا يمكن مناقشة تاريخ تشكل هذه التنظيمات وتطورها دون التأكيد على انها حصلت على شهادة الميلاد من الرئيس السادات نفسه ثم انقلبت عليه واغتالته لاحقا . والمقصود ان بداية عمل الجماعات الاسلامية ونشاطها على الساحة وخاصة داخل الجامعات المصرية كان في اطار من رعاية الدولة لليمين الديني الذي تحالفت معه لمواجهة اليسار والناصريين الذين شكلوا عدوا مشتركا للطرفين ، وتم التوهم في لحظة معينة بأنه -أي اليمين الديني- القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي الحاكم.

ومن المعروف ان الرئيس السادات اطلق سراح معظم السجناء الاسلاميين من السجون المصرية بعد عام 1971، وعاد جزء من قيادات الحركة الاسلامية الى داخل مصر، وبالتالي اتيحت الفرصة امامهم لممارسة نشاطهم من جديد وبفعالية في المجتم.
 
(2) النشأة والخصوصية:
كان اول ظهور علني للجماعة الاسلامية مترافقا مع ما نشر عن تورطها في نشاطات معادية للاقباط عام 1978 خلال فترة حكم الرئيس السادات ، والذي اعقب اغتياله مصادمات واسعة بين الجماعة الاسلامية وقوات الامن وخصوصا في منطقة جنوب وادي النيل حيث تشكل اسيوط مركز ثقل وقوة للجماعة الاسلامية، وجرت اشتباكات عنيفة استمرت لعدة ايام ، وفي الشهور التي تلت الاغتيال القي القبض على حوالي 3000 من المنتمين للجماعة الاسلامية . وقد اعتقل زعيم الجماعة والاب الروحي لها الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن الاستاذ بكلية اصول الدين في جامعة اسيوط ، ثم افرج عنه عام 1984 لان فتواه بقتل الرئيس السادات لم تكن صريحه في صياغتها ، بمعنى انه لم يذكره بالاسم ، واقتصر دوره في عملية الاغتيال على الجانب النظري فقط -أي اصدار الفتوى- ولم يتجاوزه الى خطوة عملية . ثم غادر بعد الافراج عنه الى الخرطوم، حيث استطاع الهرب بوثيقة سفر مزورة ، وذلك بعد اتهامه بمحاولة قتل شرطين والتحريض على العنف خلال مظاهرة خارج جامع في الفيوم جنوب شرق القاهرة عام 1989، ومن هناك حصل على تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة من السفارة الامريكية في الخرطوم حيث استقر في مسجد "جيرسي ستي" .

والشيخ عمر عبد الرحمن ضرير ويقبع الان في سجن "ريتشموند" بولاية "مينسوتا" الامريكية ، حيث يقضي عقوبة السجن المؤبد هناك لدوره في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك . وفي الواقع فأنه لم يشترك مباشرة في هذه العملية، لكن الادارة الامريكية استندت الى هذا الحكم الى كونه كان يدعو اتباعه لتنفيذ اهدافهم، وبالتالي ارتكب جريمة "الدعوة لكراهية الحكومة الامريكية".

وعلى هامش قضية الشيخ عمر عبد الرحمن في الولايات المتحدة تشير بعض المصادر الى ان المحققين الذين تابعوا القضية وجدوا ان بعضا من ميزانية مسجد السلام في نيويورك -والذي كان الشيخ اماما له- ومصروفاته ومصروفات المسؤولين عنه تأتي عن طريق ابن لادن ، ويدعم هذه العلاقة ان الشيخ عمر كان في افغانستان عندما كان ابن لادن فيها وله ولدان شاركا في القتال ضد الجيش السوفياتي.

وتشير نفس المصادر ان ثمة علاقة عفوية قامت بين زعيم "الحزب الاسلامي" قلب الدين حكمتيار الملقب "بمهندس الباشتون" والراعي الميداني لتفجير برج نيويورك والشيخ عمر عبد الرحمن، والتي تذهب المصادر بعيدا في وصفه بالقول بأنه عميل الـ CIA طيلة فترة الجهاد الافغاني .وبغض النظر عن مدى صحة هذه المعلومة فان المؤكد ان علاقة تحالف وتعاون وتنسيق قامت بين العديد من قادة الجماعات الاصولية والمخابرات الامريكية ابان فترة القتال ضد السوفيات في افغانستان، ومن غير المستبعد ان يكون قد جرى تجنيد بعضهم للعمل معها.

وقبل عشرة ايام من تنفيذ عملية تفجير البرج في نيويورك وضعه رجال مكتب التحقيق الفيدرالي قيد المراقبة الشديدة ، وبعد الحادث كان المتهم الاول فيه ، حيث ظهرت علاقته بحكمتيار الذي دعاه الى كابول ليصبح زعيما للاممية الاسلامية ، حيث تلقت القنصلية الافغانية العامة في نيويورك برقية تطلب منح الشيخ عمر جواز سفر افغاني ، الا ان رجال احمد شاه مسعود تصدوا للطلب واوقفوا تنفيذه .وفي خلال فترة الشد والجذب كانت الاتهامات تتراكم ضده ، فاعتقل في مطلع كانون الثاني عام 1994 فيما حكميتار ينتقل بعد استئصال نفوذه من جلال اباد بين ايران وعدد من المقاطعات الافغانية .

ويترأس فريق الدفاع عن الشيخ عمر المحامي الامريكي والنائب العام السابق في الولايات المتحدة رمزي كلارك حيث اعلن ان الحالة الصحية له سيئة وبرأيه ان القضية قامت منذ البداية على اسباب سياسية ولدى قراءة تفاصيلها يتبين انه مجرد هجوم على الاسلام بقصد تشويهه ، وينقل كلارك عن الشيخ عمر وصيتان الاولى اظهار الحقيقة واثبات ان الاتهامات التي وجهت اليه غير صحيحة ، والثانية ان ينقل جثمانه ليدفن في مصر في حال وفاته داخل السجن .

وعودة الى نشأة الجماعة الاسلامية حيث يلاحظ انها نشأت كظاهرة او تيار ان صح التعبير اكثر منها جماعة منظمة وكان التنظيم فضفاضا مرنا بدرجة كبيرة . وترى بعض المصادر نشأتها كانت في السجون اولا ثم امتد نفوذها الى بعض الجامعات.
وكان عملها في الجامعات يحظى برعاية الدولة التي رفعت شعار "العلم والايمان " واصبحت لا ترى في سيطرة الاسلاميين عليها خطرا بل شجعتهم لاقتلاع نفوذ اليساريين والناصريين منها ، وانتشرت مظاهر اطلاق اللحى والتجمعات الضخمة للصلاة وخصوصا في المؤتمرات والاعياد وارتداء الحجاب والنقاب بشكل واسع …الخ، وتحولت الرموز الطلابية الى فعاليات اجتماعية معروفة على نطاق واسع في المجتمع يدلل على ذلك المواجهة التي حصلت بين عبد المنعم ابو الفتوح رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة في ذلك الوقت والرئيس السادات .

وبخلاف تنظيم الجهاد ، اخذت افكار الجماعة الاسلامية ونشاطاتها صفة العلنية وبدأت بالجانب الاجتماعي من خلال الاهتمام بحل مشاكل الفقراء من الطلبة واقامة المعارض وغير ذلك من النشاطات ذات السمة الاجتماعية الدعوية . لكن هذا الوضع لم يستمر طويلا ، حيث كانت التطورات الحادة تفرض عليها الانخراط في العملية السياسية ، فقد ادى السلام مع اسرائيل سنة 1979 الى ظهور شعور جديد من الغضب الاصولي . وبانخراطه في خط السياسة الامريكية لكي يحافظ على زخم سياسة السلام التي ابتدأها فانه جسد في عيون الاصوليين الفشل المحلي والخيانة الخارجية . وكان ينظر اليه على انه يهمل جيرانه العرب من اجل توثيق علاقاته مع الغرب وبخاصة مع اسرائيل والولايات المتحدة . وقد ادت هذه التطورات الى شعور بالاغتراب عن النظام القائم ترجم نفسه بنمو "الفكر التكفيري" داخل التنظيم الذي ظهر داخله تياران : الاول يمثل تيار القاهرة و "وجه بحري" والثاني يمثل تيار الجنوب المصري "الصعيد ووجه قبلي" والذين كانوا يتلقون بعض الافكار السلفية وبدأوا بقراءة عدد من الكتب "المنتقاة" لابن تيمية وابن قيم الجوزية.

وقد كانت الجماعة الاسلامية في الجنوب تمارس الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل تلقائي ودون تنظيم بل كتجمع، وكانت نشاطاتها تأخذ شكلا علنيا لكن بتأثير لقاءات مع بعض قادة الجهاد انقلب الوضع واخذت الامور تأخذ طابع السرية والشدة في التعامل مع الاخرين ، وامتد تأثير هذا الامر الى شباب الجماعة في القاهرة الذين شدتهم الفكرة .بمعنى ان هذه المرحلة قد شهدت نوعا من وحدة العمل وشبه اندماج بين تنظيمي الجهاد والجماعة الاسلامية ونشأ الشعور عند الجميع بأهمية وجود اطار تنظيمي يضبط العمل: أي وجود امير ولجان وغير ذلك.

هنا اخذت الجماعة بترجمة فكرة التكفير على صعيد بنائها التنظيمي حيث انتقلت من حالة كونها جزءا من نظام دولة ومشارك في نشاطاتها الى تنظيم مواز او بديل.وكان هذا التنظيم الواحد من حيث "الشكل" يضم مجموعة الجهاد الاولى التي تشكلت عام
1968 وكان يشرف عليها محمد سالم الرحال ، الجماعة الاسلامية (فرع القاهرة ووجه بحري) والجماعة الاسلامية ( فرع الصعيد وقبلي)، وقد تم اختيار الشيخ عمر عبد الرحمن مفتيا للتنظيم ، وربما من هنا جاءت صفة المرشد او الزعيم الروحي لتنظيمي الجماعة الاسلامية والجهاد التي حملها في فترة من الفترات.

وفي اطار التنظيم الواحد "شكلا" وضعت خطة العمل لاغتيال الرئيس السادات، ومن الاحداث التي وقعت في تلك الفترة تفجيرات شبرا ومواجهات المنصورة مع قوى الامن وغيرها. والفكرة الاساسية المسيطرة عليهم في هذه المرحلة هي تكفير الحاكم ثم الخروج عليه باعتباره استبدل شريعة الله بشريعة وضعية. ومن الهام رغم هذا التوحد والاختلاط بين الجهاد والجماعة الاسلامية الاشارة الى الفارق الاساسي بينهما ويمكن ايجازه في ان تنظيم الجهاد اقرب الى الطابع الامني ،العسكري، ويركز على العمل السري بدرجة كبيرة ، وكانت مجموعاته التي نشأت تحت الارض تمارس نشاطها بدءا من تجنيد الاعضاء وانتهاء بوضع الخطط للعمليات العسكرية وتنفيذها دون ان يشعر بها احد.

وبشكل عام فان العمل الدعوي العلني لا يحظى باهتمام كبير في حياة التنظيمات الاصولية بحكم الطبيعة الانقلابية لفكرها حيث ترى ان هدم النظام القائم كخطوة لابد منها لاقامة النظام الاسلامي لا يتم عن طريق تحرك شعبي وانما عن طريق استخدام القوة الذي تمارسه الطليعة المؤمنة سواء تم ذلك عن طريق الانقلاب العسكري او تكثبف العمليات المسلحة مما يؤدي الى سقوط النظام في فترة معينة .
لكن ما يميز الجماعة الاسلامية هو ممارسة العمل الدعوي وخاصة وسط قطاع الطلاب في الجامعات تحت سمع وبصر الادارة في فترة معينة وهو الامر الذي جعلها حريصة على هذا الدور لاحقا ، حيث ظل الجناح الدعوي يمارس دوره بعد اعتماد الجهاد المسلح وانشاء الاجنحة العسكرية الى ان تصاعدت المواجهات بينها وبين الحكومة لدرجة باتت معها الاخيرة لا تفرق بين جناحي الجماعة، فتوارى جناح الدعوة وان كان ما يزاال قائما على المستوى التنظيمي كما تؤكد مختلف المصادر.

(3) العقيدة والبناء التنظيمي :
الملاحظ في البنية التنظيمية للجماعة الاسلامية هو غياب القيادة الفردية كما هو حال شكري مصطفى في تنظيم التكفير والهجرة التي توجب على اعضائها اتباعها والولاء لها ، بل القيادة فيها جماعية.وتتشكل بنية القيادة من جهاز القيادة وجهاز التقويم .اما مهمة جهاز القيادة فهي الادارة العامة للتنظيم والتخطيط العام ورسم السياسات ، ويتكون من مجلس شورى الجماعة الذي يضم عشرة اعضاء يرأسهم الشيخ عمر عبد الرحمن ، والذي ينحصر دوره في اصدار الفتاوي الدينية للتنظيم وفقا للشريعة الاسلامية والسوابق التاريخية ، وبعبارة اخرى فان عمله هو اضفاء الصبغة الشرعية الدينية على عمل الجماعة وسياستها. وجهاز القيادة لا يمكن ان يمارس عملا الا بعد اخذ موافقة المجلس وذلك لضمان قانونية العمل ومشروعيته من الناحية التنظيمية.

اما جهاز التقويم فانه يقوم بمهام الادارة الفعلية اليومية والتنفيذية للتنظيم ويمارس عمله عن طريق ثلاثة اجهزة:
الاول: يقوم بمهام الدعوة وتجنيد الاعضاء الجدد وتطبيق القوانيين الاسلامية.
الثاني: ويقوم بدور جهاز الامن في الجماعة حيث يتركز نشاطه على مجال التقنيات وتوفير الاسلحة والاستخبارات وغير ذلك من المهام المتخصصة مثل طباعة نشرات الدعوة وتزوير الاختام والشهادات وجوازات السفر والوثائق الحكومية كما توجد فيه لجان متخصصة في النقل والمتفجرات.
الثالث: وهو بمثابة الجهاز العسكري حيث هو جهاز المقاومة وبالتالي من مهامه التدريب على فنون القتال والرماية والاسعافات الطبية وتصنيع الاسلحة المتفجرات كما يدخل في نطاق عمله ارسال مندوبين للحصول على التأييد والدعم المالي من الاعضاء المقيمين في الخارج والاشراف على شبكة الاتصالات في الداخل.

وكخلاصة لهذه المعلومات المتوفرة يمكن القول ان البناء التنظيمي في الجماعة الاسلامية قائم على اساس مبدأ "المركزية الديمقراطية" نظريا مع رجحان كفة المركزية، اما على مستوى الممارسة فان عملياته كانت مرنة لا مركزية . ويرى بعض المحللين ان ذلك يرجع الى الاسلوب التنظيمي لعمل الجماعة حيث يعمل اعضائها من عدد غير معلوم من المجموعات والعناقيد المنتشرة داخل المجتمع ، وكل عنقود مغلق على نفسه وشبه مستقل اداريا ، بحيث اذا قطع او ضرب عنقود فان بقيتها تبقى تعمل ولا تكشف بسهولة لاجهزة الامن .

وقبل الدخول في الناحية العقيدية للجماعة الاسلامية يهمنا التأكيد على انها لا تؤمن بفكرة اعتزال المجتمع والانسحاب منه وتأجيل الجهاد الى مرحلة لاحقة ، بل انها تؤكد على مبدأ الالتزام بالاسلام الذي لا يمكن الوصول اليه في شكله النهائي الا عن طريق الجهاد المستمر والفشل في قيام المسلمين باداء هذه الفريضة يجعلهم كفارا ويقضي على شرعيتهم ويقودهم الى الهلاك . وقد تأثرت ظاهرة الجماعة الاسلامية بالعقيدة الجهادية لسيد قطب ، المفكر الاسلامي البارز الذي اعدم على يد نظام الرئيس عبد الناصر في عام 1966 ، ويمكن القول ان عقيدته مهدت الطريق لظهور العديد من التنظيمات الاصولية في مصر والعالم العربي ، التي اعتبرت ، ومنها الجماعة الاسلامية، ان جماعة "الاخوان المسلمين" وآراء مؤسسها حسن البنا شيء من الماضي لا يناسب العصر.

والاسهام الرئيسي لسيد قطب يكمن في اعطاء الشرعية الدينية الاسلامية لمهمة الحفاظ على الجهاد العنيف ضد الانظمة العربية الحاكمة، والتي كان يعتبرها كافرة . ودعا سيد قطب كذلك الى ان تحكم الدولة بالقرآن واعتبر ان كافة اشكال الحكم الاخرى هي ضد الاسلام وتحد كافر له، ولا مجال للحل الوسط بين النظامين وبين النمطيين الاجتماعيين المتناقضين.

ويمكن ان نعيد صياغة دور سيد قطب وتأثيره على التنظيمات الاصولية في ثلاثة مسائل ، وهي :
1- لعب كمنظر دورا قويا في تجديد المذهبية الاسلامية واعادة توجيهها
2- شكل كعضو بارز في الاخوان المسلمين ، نموذجا للتواصل بينها وبين التنظيمات الجديدة ، خاصة وان كثيرا من المحللين والمختصين بشؤون الحركات الاصولية ينظرون الى الاخوان المسلمين بوصفهم الحاضنة التي اوجدت المناخ العام الذي افرز هذه التنظيمات.
3- ان تحديه للدولة واعدامه وضعاه في اعين الجيل الجديد من الاسلاميين بوصفه نموذجا للتضحية ومثلا يحتذى به.

ويمكن تلخيص اهم افكاره التي ساهمت في نشوء التنظيمات الاسلامية العنيفة بالنقاط التالية:
1- ان النظام السياسي والاجتماعي السائد هو نظام جاهلي.
2- ان واجب المسلم تغيير مجتمع الجاهلية واحياء الاسلام عن طريق الجهاد.
3- ان تحويل المجتمع الجاهلي الى مجتمع مسلم هو مهمة الطليعة من المسلمين.
4- ان الغاية النهائية للطليعة الملتزمة من المسلمين هي اقامة "الحاكمية" أي حكم شريعة الله في الارض ، وبذلك يسود العدل ويزول الظلم والمعاناة.
وحقيقة الامر ان فكرة "الطليعة الملتزمة " والتي يمكن ترجمتها سياسيا "بالحزب الطليعي" وعلاقتها مع عامة المسلمين هي من المسائل الاشكالية في فكر سيد قطب ، وقد ادى تعدد الاجتهادات والاراء حول المسائل المرتبطة بها ، ومنها على سبيل المثال : دور الطليعة ، خصائص اعضائها وقيادتها ، طبيعة العلاقة بينها وبين المجتمع في المرحلة التي تسبق تحويله الى مجتمع اسلامي ، ادى كل ذلك الى تنوع وتعدد التنظيمات الاصولية الاسلامية ، فمنها من بالغ في مسألة الانفصال عن المجتمع ومنها من راى ان المرحلة هي الاعداد في حين رأى آخرون ان التقاعس عن الجهاد هو جبن وهكذا .

(4) الجماعة الاسلامية في الثمانينات
ثمة حدثان بارزان اثر على تطور الجماعة الاسلامية في عقد الثمانينات الاول هو السجن والثانية هي مرحلة افغانستان.
فبعد اغتيال الرئيس شنت الحكومة المصرية حملة اعتقالات واسعة في صفوف التنظيمات الاصولية ، وتجمع الاعضاء من مختلف التنظيمات داخل السجن وتفاعلوا مع بعضهم البعض ومع غيرهم وهو الامر الذي اتاح لهم "التقاط الانفاس" ان جاز التعبير من اجل رفع المستوى الفكري لهم ومراجعة افكارهم وخططهم واساليب عملهم بحيث تكون اكثر تأثيرا .
وكانت الملاحظة ان معظم شباب هذه الجماعات لم يتأصل من الناحية الفكرية بحكم حداثة النشأة ، بل انه كان ينفذ الاوامر الصادرة اليه بشكل حماسي اكثر مما هو نابع عن قناعة فكرية ، وبالتالي اتاح السجن الفرصة اولا لبناء كوادر مؤهلة "شرعيا" بحيث لا تكون مجرد ادوات تنفيذية.

وفي المرحلة الاولى تم صياغة العديد من الاوراق التي ارسلت الى الخارج من اجل طباعتها وتوزيعها والعمل بما جاء فيها . وكان هدف من هم داخل السجن وضع مشروع فكري للحركة الاصولية الاسلامية التي تتفاوت افكارها من جماعة الى اخرى ولكن يوحدها الهدف المشترك : اقامة شرع الله في الارض ، وكان ما كتب اشبه بمثياق عمل اسلامي.
الا ان الملاحظ ان هذه الاوراق لم تأت بجديد وكل ما فعلته انها ادت الى تأصيل وترسيخ الافكار السابقة وذلك من خلال تجميع النصوص واعداد بعض الابحاث التي تؤكد على حتمية الدخول مع الدولة في مواجهة حاسمة بوصفها تمثل طائفة "ممتنعة" وخارجة عن الشريعة الاسلامية وبالتالي لابد من قتالها.

والملاحظة الثانية على هذه الاوراق هي ان خصوصيات النشأة تركت بصمات قوية عليها ، فقد كان تنظيم الجهاد ميالا بشكل كبير الى اصدار الاحكام التكفيرية على المجتمع والاشخاص ، بخلاف الجماعة الاسلامية التي لم تتوسع في احكام التكفير.
وبحكم خصائص النشأة وحداثتها ايضا اتضح ان الجماعة الاسلامية لا تملك برنامجا سياسيا تفصيليا ولا رؤية سياسية واضحة للاوضاع المصرية او غيرها من اوضاع الدول العربية والاسلامية الاخرى وعن طريق عقد الحلقات النقاشية فيما بين المعتقلين اصبحت اكثر حرصا على عمل اللجان السياسية .

وتفيد بعض المصادر ان تصور الجماعات الاسلامية عن العالم كان ساذجا ، فالكثير من الاعضاء لم يكونوا قد اكملوا تعليمهم ، وحصل اكثرهم على الشهادات العليا داخل السجون… كان اخوانهم الذين يكبرونهم سنا اهم مصدر معلومات عن العالم وتصوراتهم له مستمدة من شيوخهم .

ويلفت الانتباه ان هؤلاء الشباب كانوا يرفضون قراءة الصحف والمجلات لانها تحتوي صورا يجب تمزيقها قبل القراءة.
وفي سجن طرة كانت الحلقات الدراسية تتناول تاريخ العالم وتعدد خرائطه وتشعب نظرياته السياسية اضافة الى قضايا الايمان والكفر والعقيدة ، وقد شهدت تلك الحلقات نقاشات ساخنة اسهمت في رفع مستوى الوعي السياسي والعام لشباب هذه الجماعات ومنها بالتأكيد الجماعة الاسلامية.

وبرزت اهمية الاستعانة باهل العلم والخبرة من خارج السجن ، وظهرت اهمية الاستعانة بالمثقفين من اساتذة الجامعات والمفكرين وضباط الجيش ، وبالتالي ضرورة استمالتهم والاستفادة من طاقاتهم . ويلفت الانتباه ان بعض قيادات الداخل في السجون طلبت من مجموعاتها خارج السجن اعادة تشكيل " مجلس الشورى" بما يضمن مشاركة القيادات والكفاءات الفكرية ، وهذا امر بلا شك له دلالة هامة في مسيرة تطور هذه التنظيمات.

وفي هذه المرحلة برز على سبيل المثال الطالب كمال حبيب الذي وضع برنامجا تعليميا لتطبيقه داخل السجون ، حيث تولى هو اعداد محاضرات ودروس في السياسة والفكر السياسي بحكم كونه طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، بينما اخذ عصام القمري يعطي دروسا في العلوم العسكرية اما الشيخ عمر عبد الرحمن فقد تولى تدريس الفقه والعلوم الشرعية.

ومن الهام ملاحظة ان هذه الحركة الفكرية النشطة لم يقتصر تأثيرها على اعضاء الجماعات الاسلامية بل امتد ليشمل السجناء العاديين حيث تم التأثير على عدد منهم ، ويمكن ايجاز التطور الفكري الذي احدثته السجون بثلاث مسائل هي:
1- زيادة المعرفة بالواقع ، وتعلم ادوات تحليل هذا الواقع والتعامل مع الاخرين بفعل دراسة العلوم السياسية والاقتصادية والشرعية ، وهو الامر الذي ادى الى رفع سوية مستوى وعي هذه التنظيمات.
2- عكست هذه المعرفة نفسها على مستوى البناء التنظيمي من خلال ايجاد وتطور البنى المؤسسية التي تتولى مختلف شؤون ومجالات العمل التنظيمي، وهو الامر الذي سهل عملية تقدير المواقف واتخاذ القرارات ازائها واكسابها "الشرعية الحزبية".
3- بداية انتقال العمل الفكري وتطوره الى كتابة الابحاث التي توضح الهوية الايديولوجية لهذه التنظيمات ، وتوزيعها على نطاق واسع ، وقد كانت مجلة "كلمة حق" ميدانا رئيسيا للنشر.

غير ان لهذه العملية بعدا آخر فاذا كانت البداية في المعتقل هي لالتقاط الانفاس والتجميع وتبادل الارآء ، فان مسار هذه العملية ادى الى بروز الخلافات بين الفصائل وخاصة الجهاد والجماعة الاسلامية ، التي اعتبرت نفسها الاصل والاساس في الحركة الاسلامية ونظرت الى تنظيم الجهاد بوصفه وافدا عليها.

واخذ ت تظهر مقولات "لا ولاية لسجين" ولا "امارة لضرير" وقد عكست هذه الخلافات نفسها ليس داخل السجن فقط وانما امتدت خارجه ، واختفى التنسيق الذي كان سائدا في المرحلة الاولى ليحل محله التباعد الخلاف والتنافس.

وتؤكد مصادر تنظيم الجهاد ان عملية اعادة الهيكلة والترتيب الداخلي استنفذت الجزء الاكبر من جهودهم لدرجة انهم غرقوا في قضاياهم الداخلية مثل فكرة اعداد لائحة داخلية للتنظيم ، دور الامير…الخ ، وهو الامر الذي ادى الى انكفائهم واثر على تواجدهم في الساحة التي سبقتهم الجماعة الاسلامية في السيطرة عليها عن طريق الانتشار والتعريف بفكرها ، وهكذا اصبحت القوة المسيطرة رغم ان أعضاءها لم يكونوا مؤهلين كما هو حال اعضاء الجهاد ، الذي تفيد بعض المعلومات ان عملية انهماكه في قضاياه الداخلية استغرقت حوالي عشر سنوات.

هذا في الوقت الذي كانت فيه الجماعة الاسلامية اكثر تماسكا لعدة اسباب اهمها انه يجمعها اطار واحد خارج السجون وكانت التعليمات تسبر في اتجاه واحد وقد ساعدها على ذلك الاصول الريفية لغالبية اعضائها ، حيث التقاليد التي لها قوة القانون كاحترام الكبير للصغير.