2018-10-31
الكاتب : معالي الدكتور غسان الخطيب/ أستاذ الدراسات العربية والدولية في جامعة بيرزيت، وزير العمل والتخطيط الفلسطيني الأسبق:
شكراً لمركز القدس للدراسات السياسية وللأستاذ عريب الرنتاوي لجمع هذه النخبة المتميزة، وشكراً لكم جميعاً على الحضور.
لا أدّعي بأنني أمتلك الإجابات الشافية على الأسئلة المطروحة، لكن لديّ مقترحات حول الأطر التحليلية التي يمكن أن تساعد مثل هذه النخبة المتميزة من خلال النقاش وتبادل الرأي، للوصول إلى استخلاصات واستنتاجات، ربما تُسهّل التعامل مع مثل هذه الأسئلة.بداية، أودّ أن أشير إلى أن المؤرخين مستقبلاً، سوف يؤرخون لهذا العام، الذي هو ذكرى مرور خمسين عاماً على اتفاق أوسلو، على أنه نهاية المرحلة المُسمّاة بعملية السلام من تاريخ القضية الفلسطينية، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
هذا بسبب الانقلاب في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية بعد مجيء دونالد ترامب رئيسا لها، ولتغيّر موقفها إزاء القضايا الأساسية في العملية التفاوضية، والمتعلقة بالقدس واللاجئين والتوسّع الاستيطاني وغيرها.
إن هذا الموقف الأمريكي يُعبّر عن تغيّر جذري وانقلابي، لأن الولايات المتحدة حينما وقّعت على اتفاق أوسلو من خلال وزير خارجيتها آنذاك وارن كريستوفر، إنما وقّعت على اتفاق كان ينصّ على اعتبار القدس واللاجئين والمستوطنات مواضيع تفاوضية.
أمَا وقد قرّر الرئيس الأمريكي إلغاء هذه المواضيع عن طاولة المفاوضات، فقد قرّر فعلياً إزالة طاولة التفاوض، وأنهى أيّ معنى وأيّ مغزىً لما سُمّي بعملية التفاوض على أساس مرجعية مدريد واتفاقات أوسلو.
جاء هذا التغيّر الدراماتيكي في الموقف الأمريكي الذي أنهى عملية السلام، تتويجاً لسلسلة من التغيرات والتراجعات لدى كل الأطراف، وأهمّها الطرف الإسرائيلي، إذ كما أشار الأستاذ عريب الرنتاوي، فإن إسرائيل اليوم، ليست هي إسرائيل التي تفاوضنا معها قبل خمسة وعشرين عاماً.ليس في إسرائيل الآن، لا في جمهورها ولا في نخبتها السياسية، أكثرية مستعدة للتعاطي مع مبدأ حلّ الدولتين، إذ لا تنتمي إسرائيل حالياً إلى مبدأ الحلّ الإقليمي الوسط، الذي كان يقوم على التفاوض حول النسب المئوية من الأراضي المحتلة التي يمكن أن تتنازل عنها مقابل كذا وكذا.
استبدلت إسرائيل مبدأ الحلّ الوسط الإقليمي بمبدأ الحلّ الوسط الوظيفي، ولم يعد النقاش الإسرائيلي الداخلي متعلقا بمستقبل العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية، من حيث إمكانية تنازلها عن نسب مئوية من الأرض المحتلة، بل يجري الحديث حول تلك الوظائف والأدوار في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو غير ذلك من القضايا التي يمكن أن تتنازل عنها إسرائيل للجانب الفلسطيني.
وبالتالي، فإن استراتيجية إسرائيل الحالية تقوم على أساسين:
- الأساس الأول: هو المحافظة على الأمر الواقع الذي صنعته إسرائيل بعناية وبدراية واهتمام.
- الأساس الثاني: هو التقاسم الوظيفي مع السلطة الوطنية الفلسطينية، لأنه يُمكّن إسرائيل من أن تُحقّق أسرع توسّع استيطاني بأقلّ تكلفة سياسية وأمنية مقارنة بكل المراحل السابقة ابتداءً من عام 1967، ولأن ذلك يساعدها أكثر من أي واقع آخر، في تحقيق هدفها الاستراتيجي الحالي المتمثل بهضم الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل تدريجي بعيد الأمد.
لن نتناول تفاصيل الآليات التي تعتمدها إسرائيل لتحقيق ذلك، لأنها واضحة من ناحية، ولأنها تفصيليات من ناحية أخرى، وإنما يستند جوهر الإجماع الصهيوني الحالي إلى المحافظة على استمرار السيطرة بمستويات وأشكال ودرجات مختلفة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، والاستمرار بهضم هذه المناطق تدريجياً عن طريق السياسة الاستيطانية وغيرها من السياسات.
بناءً على كل ذلك، لا يمكن حتى اللحظة الإجابة على سؤال: هل ما زالت الدولة الفلسطينية القائمة على حلّ الدولتين قابلة للتحقّق؟ لأن هذا هو موضوع الصراع بالأساس، فإسرائيل تعمل حالياً على إلغاء إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية بالطرق التي سبق ذكرها.
يحاول الجانب الفلسطيني إعاقة ذلك بكلّ السُبل الممكنة، يحاول إعاقة التوسّع الاستيطاني، والمحافظة على الوجود الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة من أجل المحافظة على إمكانية وفرصة تحقيق حلّ الدولتين.مع مرور الوقت، تسير الأمور باتجاه انعدام إمكانية تحقّق الدولة الفلسطينية لأمرين: الأول، هو استمرارية التوسّع الاستيطاني بنفس الوتيرة، الذي يعني بأنه لا إمكانية لإقامة الدولة الفلسطينية نظراً لهضم الأرض. والثاني، هو أن الرأي العام الإسرائيلي يسيرُ بنحوٍ حثيثٍ إلى عدم تقبّل مبدأ الدولة الفلسطينية.ولذلك، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التحولات الجارية داخل إسرائيل، بالإضافة إلى التحولات الجارية على الأرض في المناطق المحتلة بالضفة الغربية، فسنصل إلى نتيجة مفادها عدم إمكانية قيام الدولة الفلسطينية نظراً للسلوك الإسرائيلي، ما يعني ضياع الفرصة التي كانت تُسمّى فرصة تاريخية.
لا يعني انغلاق مسار حلّ الدولتين وجود حلولٍ وبدائلَ أخرى بالضرورة، لأن الجانب الإسرائيلي غير معنيّ بالحلول من حيث المبدأ، بل يسعى لتثبيت الأمر الواقع، الذي يُمكّنهُ من تحقيق أهدافه.
ما هو المتوقع إذن للمرحلة القادمة؟ المتوقع هو استمرار الظرف الآني، لأن الجانب الإسرائيلي سيكون معنياً باستمراره، كما أن لديه إمكانية تثبيته، ولأن الجانب الفلسطيني، ربما يخشى من أن تغيّر الظرف الحالي سيُنتجُ واقعاً أسوأ، هذا عدا عن أن الأطراف العربية تخشى من أن أيّ تحريك للوضع يمكن أن يحمل في طياته مخاطر وتحديات، هم في غنىً عنها.
أما بدائل حلّ الدولتين، كحلّ الدولة الواحدة، فأعتقد بأنه غير وارد، لأن إسرائيل غير معنية بأي حلول، أياً كان شكلها، ومع ذلك، يجب أن يظلّ حلّ الدولة الواحدة خياراً ولو على المستوى النظري، لأن الفرصة قد تُتاح في المستقبل البعيد للتعامل مع هكذا خيار، مع الإشارة إلى أنه خيار غير وارد في المدى المنظور.
جملة هذه المعطيات، تقودنا إلى القول بأننا ننجرّ من حيث ندري أو لا ندري إلى نظام الابارتهايد بفعل السياسات الإسرائيلية، إذ إن هناك ملامح تمييز عنصري داخل إسرائيل، وهناك ملامح لابارتهايد في الواقع في الأراضي الفلسطينية.
يحملُ الابارتهايد في طياته تناقضاً داخلياً يعيق إمكانية اعتماده كجزء من الاستراتيجية الفلسطينية، لأن هناك تناقضاً من حيث المبدأ بين الموقف الفلسطيني الرسمي الداعي إلى دولتين، والذي ينبني في جوهره على الانفصال، وما بين مفهوم الأبارتهايد، الذي ينبني على التمييز داخل الكيان الواحد.
ولذا، من الصعب أن تستخدم الاستراتيجية الفلسطينية مفهوم الابارتهايد المُؤسّسٌ على الكيان الواحد، في الوقت الذي تطالب فيه بمبدأ الدولتين المُوسّسُ على الانفصال، وبالتالي لا يمكن الجمع بينهما.ثمة مخاطر عديدة تتهدّدُ المصلحة الفلسطينية، من ذلك ما يُطرح بخصوص سيناريو "دولة غزة"، ولعلّ الخطر يستمدّ مشروعيته من الالتفاتة المفاجئة في السياسة الأمريكية والإسرائيلية للاهتمام بالواقع المعيشي في قطاع غزة.تحدث كوشنير حول ذلك أكثر من مرة في مقابلات مطولة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة بادرت إلى عقد اجتماعين مُختصين لبحث الأوضاع المعيشية في القطاع، وسعت إلى طرح مجموعة من المشاريع الاستراتيجية ومحاولة تجنيد الأموال من أجل عمل شيء في غزة.
تجاوبت إسرائيل بشكل كبير مع هذه المسألة، ربما لأنها ترى في فكرة دولة غزة مخرجاً، خصوصاً مع الضغوطات الداخلية المتمثلة في رفض المجتمع الإسرائيلي لمبدأ حلّ الدولتين، وضغوطات المجتمع الدولي الذي ما زال مؤيداً لفكرة حلّ الدولتين.
لذا ستدفع إسرائيل تدريجياً باتجاه تطوير الوضع القائم في قطاع غزة باتجاه كيانية ما، تشبه الدولة، ليكون نواة للدولة الفلسطينية، ما يتيح لها الاستمرار في سياستها المعروفة بالضفة الغربية.
إن ممّا يُعزّز مخاوف سيناريو "دولة غزة"، هو أن تعاطي حركة حماس التي تسيطر على القطاع لم يُعط انطباعاً بأنهم منتبهون أو حريصون تجاه مثل هذا الخطر، بل لقد ظهر منهم في بعض الأحيان ما يشي باستعدادهم للتماشي مع مسألة من هذا النوع، تحت يافطة الاحتجاجات والظروف والمتطلبات الإنسانية، وأحياناً أخرى تحت يافطة تذمّرهم من سياسات القيادة الفلسطينية في التعامل مع احتياجات قطاع غزة.
يجب على القيادة الفلسطينية أن تتنبّه لهذا الخطر في أن يكون دافعاً لها لمضاعفة الجهود من أجل إغلاق هذه الثغرة، التي تتطلب معالجة الانقسام الفلسطيني وإنهائه، لأن قطاع غزة يُشكّل ثغرة في الاستراتيجية الفلسطينية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
بناءً على كل ذلك، يتطلب الواقع الذي أشرنا له إجراء تعديلات وتطويرات في تعريفنا للمشروع الوطني الفلسطيني، وفي برامجه واستراتيجياته السياسية، إذ لا توجد أي إمكانية لأي حلّ من أي نوع خلال عشرات السنوات القادمة!
تستغلُّ إسرائيل هذا الواقع من أجل إحداث التغييرات التي تحقق مصالحها، ولذلك فإن الصراع سيكون طويل الأمد، وإن أداة الفلسطينيين الأساسية فيه هي الوجود على الأرض، لأن إسرائيل تحاول أن تحسم هذا الصراع وإن ببطىء عبر عشرات السنوات، من خلال تكثيف الوجود الاستيطاني الإسرائيلي.
إن هذا التحدي يفرض على العرب والفلسطينيين أن يستندوا في استراتيجيتهم إلى محاولة تعزيز الوجود الفلسطيني الكمّي والنوعي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لأن هذا هو ما سيحسم الصراع على المدى البعيد.
يتطلب هذا إعادة ترتيب الأولويات الفلسطينية، فبالرغم من أهمية العلاقات الدولية والدبلوماسية، إلا أن الأولوية تتمثل في الالتفات إلى الداخل الفلسطيني، إذ يجب أن يعمل على الاهتمام بالفلسطينيين لتثبيتهم في أرضهم بما يحول إعاقة السياسات الإسرائيلية في هضم الأراضي والتوسّع الاستيطاني.لا بُدّ من الاهتمام بالمجتمع الفلسطيني وثقافته بما يُعزّز الهُويّة الفلسطينية، وبما يحفظ الكيانية الفلسطينية، بالتركيز على وحدته، والعناية بالعلاقات بين مكونات الشعب كلّه، والالتفات إلى منظمة التحرير وأطرها، والاهتمام بالثقافة التي تحفظ الرواية والحلم الفلسطيني، وتعزز الصمود والانتماء إلى الأرض.
ينبغي أن يُعمل فلسطينياً أيضاً على بُعدين دوليين:
أولاً البُعد الدبلوماسي: إذ تهتمّ إسرائيل كثيراً بمكانتها الدولية، وتعتمد في بقائها وتفوقها على الدعم الدولي على المستويات جميعها، لذلك فإن محاربة إسرائيل من خلال القانون الدولي ممّا يُعزّز من المكانة الفلسطينية ويُضعف من المكانة الإسرائيلية.
لقد أغلقت الولايات المتحدة الأمريكية السفارة الفلسطينية وطردت السفير الفلسطيني لديها، ليس بناءً على قرار المجلس المركزي مثلاً المتعلق بوقف العلاقات أو التنسيق مع إسرائيل، وإنما رداً على رفع السلطة الوطنية الفلسطينية لجرائم الاحتلال إلى محكمة الجنايات الكبرى. لأن هذا مما يُولم الجانب الإسرائيلي.
البُعد الثاني دولياً: فهو التعاطي مع الرأي العام الدولي بشكل بعيد الأمد، وربما تُشكّل حركة "مقاطعة إسرائيل" أو ما يُعرف بـ PDS مثالاً ونموذجاً يمكن أن يحتذى به.
إن العمل على هذين البعدين، يمكن أن يكمل الجوانب الأخرى التي ذكرتها فيما يجب أن تكون عليه ملامح الاستراتيجيات الفلسطينية في المرحلة القادمة، بناءً على تحليلنا وتقديرنا للواقع الحالي وآفاق المستقبل.
-ورقة عمل قُدمت في المائدة المستديرة: "الفلسطينيون على مفترق الطرق"الذي نظمها مركز القدس للدراسات السساسية يومي 31 اكتوبر و1 نوفمبر 2018 الاردن- عمان.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة