A+ A-
30 عاماً على استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن
2019-04-29

الكاتب : كلمة الأستاذ عريب الرنتاوي مدير مركز القدس للدراسات السياسية في افتتاح المؤتمر الوطني

معالي الأخ والصديق المهندس موسى المعايطة، وزير الشؤون السياسية والبرلمانية
سعادة الصديقة الدكتورة أنيت رانكو، الممثل المقيم لمؤسسة كونراد أديناور في عمّان
أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة
الصديقات العزيزات ... الأصدقاء الأعزاء

اسمحوا لي أن أرحب بكم أجمل ترحيب، في مستهل أشغال مؤتمرنا الوطني هذا، الذي نُخصّصه لبحثٍ في العمق في مآلات مسار الإصلاح السياسي ومصائر عملية التحول الديمقراطي في بلادنا، بعد مرور ثلاثين عاماً على استئناف الحياة السياسية والحزبية، إثر هبّة نيسان المجيدة في العام 1989... وأن أشكر باسمكم جميعاً معالي الأخ والصديق "أبو حابس" لتفضّله بقبول دعوتنا، ومشاركته في أعمال هذا المؤتمر، كما أتوجّه باسمي واسم زميلاتي وزملائي في مركز القدس للدراسات السياسية، بكل الشكر والتقدير لشركائنا في مؤسسة كونراد أديناور، وبالأخص للصديقة العزيزة أنيت رانكو، وزميلاتها وزملائها الأعزاء، الذين من دون دعمهم وإسنادهم، لما كان مؤتمرنا هذا ممكناً.

الإخوة الأفاضل ... الأخوات الفضليات،

ثلاثون عاماً مرت على عام التحول والانتقال في الأردن، حين طُويت صفحة قوانين الطوارئ والدفاع والأحكام العرفية، لتُفتح صفحة جديدة، عنوانها استئناف مسارِ الحياة الحزبية والبرلمانية في بلادنا... إنه مسارٌ بدا واعداً ومُلهماً ... فقد فُتحت أبواب السجون وجرى تبييضها، وعادت الطيور المهاجرة قسراً إلى أعشاشها وبين أهلها وناسها ... وخرجت الأحزاب السياسية من مقراتها السرية تحت الأرض إلى فضاء العمل العلني، تحت أشعة الشمس وأنوارها الساطعة ... فلم يبقَ ركنٌ أو زاويةٌ في هذا الوطن العزيز، من دون أن يتحول إلى ورشة عمل وطنية بامتياز ... لقد بدا أن المسار واعدٌ، وأن سفينةَ التحول في طريقها إلى شواطئ الحرية والديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية ... لقد بدا أن عصراً جديداً قد انبلج، وأن الأردنيين في مختتم ثمانينات القرن الفائت، إنما يستأنفون ما بدأه آباؤهم وأجدادهم منذ العشرينات وبالأخص في الخمسينات من القرن المذكور.

ثلاثون عاماً، شهد خلالها الأردن ولادةَ وانحلالَ عشرات الأحزاب السياسية .... وصدرت عن برلماناتنا المتعاقبة أربعة قوانينٍ للأحزاب السياسية ... وصولاً إلى أزيد من خمسين حزباً سياسياً قائماً حتى اليوم ... من دون أن نفلح في إرساء دعائم تعددية حزبية سياسية وفكرية صلبة، أو ترسو سفنُ الأحزاب على ضفاف "نظام حزبي معلوم"، ومن دون أن ننجحَ في إعادة التوازن للعمل الحزبي، أو أن تتمكن أحزابُنا أو أن نُمكّنها من تجسير فجواتِ الثقة المزدوجة، سواء مع شعبها وحواضنها الاجتماعية، سيما الشباب والنساء، أو مع الدولة بمؤسساتها المختلفة.

ثلاثون عاماً، شهد خلالها الأردن ولادة ثمانية برلمانات، ستةٌ منها انتُخبت وفقاً لقانون الصوت الواحد، بتنويعاته وتعديلاته الباهتة ... لننتهي إلى برلمان قائم على "الفردية"، غابت عنه الكتلُ المتماسكة والبرامج والأحزاب، وتحوّل من الرقابة والسياسة والتشريع، إلى الخدمات بأضيق معانيها ... ولتفقدَ أوسعُ قطاعات شعبنا، ثقتَها بمؤسستها التمثيلية، وبحصتها في نظامنا السياسي القائم على النيابة والملكية الوراثية بنص الدستور.

ثلاثون عاماً، شهدت موجاتٍ متعاقبةً من الاحتجاجات والهبّات الشعبية، التي غالباً ما كانت تندلع لأسباب اقتصادية واجتماعية، قبل أن تنتقل سريعاً إلى الشعار السياسي المطالبٍ بمحاربة الفساد، وانتخابِ الحكومات، وتوسيعٍ الفضاء العام، وتعزيزِ الحريات، وتعميقِ المشاركة والانتصار للشباب والنساء في بلادنا.

ثلاثون عاماً، عرف خلالها باروميتر الحريات العامة، ومن ضمنها حرية التنظيم والاجتماع والصحافة والنشر والتعبير، مراحلَ متعاقبةً من الصعود والهبوط، لنظل نراوح عند الدرجة ذاتها، على مسطرة "الحرية النسبية" فلا نحن ننتقل إلى خانة "الدول الحرة"، ولا نحن ننزلق إلى حظيرة الاستبداد، وذلكم نصف الكأس المليء.

أيتها الأخوات ... أيها الإخوة،

لكأن الأسئلةَ التي نُعيد طرحها، من دون كللٍ أو ملل، هي ذاتُها الأسئلة التي ما زلنا نردّدها طوال عشرياتٍ ثلاث، كانت كافية لنقل دول شمولية إلى ضفاف الحرية والديمقراطية، بيد أنها لم تكن عندنا كافيةً لتوفير الإجابات عن أسئلة التحول والإصلاح.... فهناك مبادراتٌ عديدة، حملت أسماءً كبيرة، انتهت توصياتها إلى الأدراج المظلمة أو الأرفف العالية، ولم نكلف أنفُسَنا عناء مراجعتها والإجابة عن سؤال: لماذا أخفقنا في نقل توصياتها ومخرجاتها إلى حيز التنفيذ.

وبدل أن نفعل ذلك، مضينا قُدماً في البحث عن كل حجة وذريعة لتفسير التعثر والمراوحة، تارة في القضية الفلسطينية التي يرى بعضنا أن حلها حلاً نهائياً هو متطلبٌ وشرط للانطلاق في مسار الإصلاح .... وتارة ثانية، في الظرف الإقليمي المحيط بنا، سيما بعد تكاثر الدول الفاشلة، وتفشي ظاهرة الإرهاب والتطرف العنيف، وتارة ثالثة في عدم جاهزيتنا للديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية، باعتبارها قضية أجيال وعقود وحقب زمنية مديدة .... تعددت الذرائع والنتيجة واحدة: إبطاء مسار التحول الديمقراطي إن لم نقل تعطيله.

وبدل أن نعمل على سدّ الذرائع، أخذ بعضنا في التأسيس لنظريات جديدة في التحول والانتقال إلى الديمقراطية، لكأنه يتعين علينا أن نخترع النار أو نكتشف العجلة .... فمن قائل بضرورة البدء من الحضانة والمدرسة، إلى داعٍ للانتظار ردحاً من الوقت ريثما تنضج أحزاب، إلى باحث في بطون الكتب عن "مستبد عادل"، يليق بنا ونليق به .... مع أنه كان حريٌ بنا أن نفعل فقط، ما فعلته شعوب ومجتمعات ودول سبقتنا على هذا المضمار، فلسنا بحاجة لاكتشاف العجلة أو اختراع النار من جديد.

من أين نبدأ، وبم نبدأ؟

نبدأ بـ "الإرادة السياسية" التي تقطع الشك باليقين، فتقول إن طريقنا نحو الديمقراطية ذاتُ اتجاه واحد، لا رجعة فيه ولا عنه ... وإن الأردنيين جزء من الأسرة العالمية، ليس لديهم سوى الحزب السياسي قناةً للتمثيل والمشاركة السياسيين، وإن البرلمان القائم على التعددية الحزبية، هو طريقنا كذلك، نحو الديمقراطية، وإن كل هذا وذاك وتلك، لا يلغي للحظة، أو يقلل من شأن، الشروع في تنفيذ الإصلاحات على شتى المسارات، من المدرسة للجامعة، ومن الجامع إلى الحي أو الحارة.

نبدأ كما بدأت شعوب الأرض، التي استبقتنا وراءها على مقياس الديمقراطية والتنمية البشرية، بجهد جماعي لبناء توافقات وتفاهمات عريضة، حول قواعد "العقد الاجتماعي" و"مشروع نهضة وطني" معروفٍ ومعرّف، ومحكمٍ بجداول زمنية محددة، وأدواتٍ لقياس التقدم والإنجاز، فهل هذه مهمة مستحيلة؟ ... ومتى ندرك أن التأخير في إنجازها، سيجعل الانتقال مهمةً أشد صعوبة وأعلى كلفة.

لقد انطلق قطار "الربيع العربي" في جولته الأولى، في مختتم العام 2010، وعاود مسيرته الجارفة في جولته الثانية، قبل بضعة أشهر في السودان والجزائر ... ومن حقنا في الأردن، أن نفخر بأننا قطعنا الطريق على الجانب المظلم في تجارب الانتقال الدامي في عدد من الدول العربية، والمسؤولة عنه، قوى الثورة المضادة، وليس القوى الثورية والإصلاحية التي خرجت بالملايين إلى شوارع وميادين كل من القاهرة وتونس واليمن وطرابلس ودمشق وصنعاء وغيرها من المدن العربية ... بيد أنه يتعين علينا أن نستدرك هنا بالقول: إن مهمة التحول لم تُنجز بعد، وإن علينا أن نعمل ما بوسعنا حتى لا يدهمنا هذا القطار في جولته الثالثة، وهي آتية لا ريب فيها، وستطال دولاً أخفقت فيها ثورات شعوبها ولم تحقق أهدافها ومراميها، وستكون هناك جولة رابعة، لا محالة أيضاً، وإن بعد طول انتظار، وستطال في حينه، بعض من ظنوا أن المال، والكثير منه، يمكن أن ينجيهم من لحظة الحقيقة والاستحقاق.

علينا العمل إذاً لتسريع عجلة التحول والإصلاح، وأن نفعل ذلك بإرادتنا ووفق شروطنا، وبما يخدم مصالحنا، وبأقل قدر من الأكلاف، قبل أن نجد أنفسنا مرغمين على فعل ذلك، وبشروط غير مواتية، وبتكاليف عالية، فهل نحن فاعلون؟

في العام 1989 وقبله بقليل، كانت الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية، تعتصر الأردن والأردنيين وتعصف بدينارهم، ولم تكن قيادة البلاد تتوفر على حلول اقتصادية سحرية، بيد أنها لجأت إلى "السياسة" لمواجهة استحقاقات أزمة "الاقتصاد". وبدل أن يتعمق الشرخ بين القائد والمواطن، تعمق التلاحم، وخرج الأردنيون في ذلك العام، يهتفون لقيادتهم، بدل أن يهتفوا ضدها، وأمكن لتلك اللحمة الوطنية الاستثنائية، أن تمكن الأردن من مجابة استحقاقات ما بعد حرب الخليج الثانية، فهل لنا في ذلك عبرة؟ وهل ثمة دروس يمكن أن نفيد منها من تجربتنا الخاصة، قبل أن نبحث عنها في تجارب الآخرين؟

نحن اليوم، نقف على مبعدة أسابيع وأشهر قلائل مما بات يعرف بـ "صفقة القرن"، ونحن نعرف كما يعرف المسؤولون في بلادنا والمنطقة، بأنها مُفخّخة بأشد الأخطار وأصعب التهديدات ... ليس لدينا من خيار سوى أن ننتصر على ما يُحاك لنا من وراء ظهرونا، بكل استخفاف واستعلاء ... ولن ننجح في جبه هذا التحدي، من دون جبهة داخلية صلبة ومتماسكة، ولن تكون مثل هذه الجبهة، من دون حكومات قوية وبرلمانات أقوى، من دون وحدة الشعب والقيادة، فهل من طريق لذلك، غير طريق المشاركة الفاعلة من أجل اختيار برلمان قوي وحكومة برلمانية قوية وبأكتاف عريضة؟

لسنا اليوم بصدد التلاوم أو إلقاء المسؤوليات والتبعات عن تجربة ثلاثين عاماً من المراوحة، نحن اليوم، لننظر للمستقبل، لكن المستقبل هو ما نقرره ونفعله اليوم، بعد أن نكون قد تعلمنا دروس الخطأ والصواب في تجاربنا .... لذا فإننا ندعوكم وأنتم تدلون بدلائكم، إلى النظر للأمام والأعلى، وألا نكتفي بالنظر إلى الوراء أو تحت أقدامنا فقط.

متمنياً لمؤتمرنا النجاح والسداد. أشكركم جميعاً على تلبية الدعوة والحضور، وأخص بالذكر مقدمي المداخلات ومدراء الجلسات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


- كلمة الافتتاح في المؤتمر الوطني "30 عاماً على استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن"، والذي نظمه مركز القدس للدراسات خلال الفترة 29- 30نيسان/ ابريل 2019، في الاردن- عمان.