2003-05-24
تستأثر النقابات المهنية بدور بارز في التعبير عن توجهات الرأي العام في الأردن, فقد نشأت التنظيمات المهنية في وقت مبكر من عمر الدولة، و تنازلت لها الدولة عن سلطة واسعة في تنظيم المهن والاشراف على الممارسة المهنية وتطوير المهنة, وفي وقت لاحق وبسبب منع ممارسة النشاط الحزبي , قامت النقابات القائمة آنئذ بالحلول في الفراغ السياسي التي نشأ عن منع الاحزاب، فأصبحت منبرا من أهم منابر التعبير السياسي بحكم الخلفية الفكرية والسياسية والتنظيمية التي كان يتمتع بها قادة العمل النقابي.وقد وجدت بقايا الاحزاب والتنظيمات السياسية الاخرى في هذه المنابر وسيلة للتعبير عن نفسها كما أن استمرار منع الاحزاب لمدة تقارب ثلاثة عقود عزز الدور السياسي للنقابات وضمر العمل الحزبي الى درجة اكتفى فيها الحزبيون السابقون بوجود تمثيل لهم في الطيف النقابي , وبالرغم من عودة الاحزاب الى العمل في العلن الا أن النقابات بحكم امكاناتها المالية الكبيرة وتنظيمها الديمقراطي وتوجهات قياداتها الايديولوجية حرصت على الاستمرار في أداء نفس الدور السابق , فتصدت الى كثير من القضايا السياسية والوطنية مما جعلها في مواجهة مستمرة في الحكومات المتعاقبة.
وكوسيلة للضغط كانت الحكومات تلوح لهذه النقابات بالتهديد بالغاء الزامية العضوية فيها وكانت تنجح في أحيانا في كبح جماح النقابات وتنجح النقابات أحيانا أخرى.
وجاءت وثيقة الاردن أولاً لتطرح موضوع النقابات ومؤسسات المجتمع المدني للبحث من أجل الخروج بتوصيات تعالج مسألة النقابات ومؤسسات المجتمع المدني عموما والعلاقة بينها وبين الحكومة.
ومع أن اللجنة قد بدأت أعمالها وبعض أعضائها يتوجسون خيفة من توجهات الحكومة تجاه النقابات، الا أن نقاشاً موضوعياً طبع المسار العام لاعمال تلك اللجنة، وخرجت بتوصيات تصلح لأن تكون مدخلا لاعادة النظر في أوضاع مؤسسات المجتمع المدني عموماً.
ثمة سؤال تجب الإجابة عليه كمدخل لهذا البحث، هل النقابات المهنية من مؤسسان المجتمع المدني؟.
إن مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في صياغة سياسة الدولة وتوجيهها هي التطور الاخير في مراحل تدرج الديموقراطية , وأصبحت هذه المشاركة شرطا للاعتراف باحترام الدولة لحقوق الانسان. بل إنها واحدة أهم من معايير قياس درجة تقدم الامم وتحضرها. أعترف أنني عجزت عن العثور على تعريف جامع مانع لمصطلح المجتمع المدني أو مؤسسات المجتمع المدني ولتوضيح فهمي له أقول، أن المجتمع المدني هو اصطلاح يشار به الى القوى الاجتماعية الفاعلة في المجتمع والتي تساهم في توجيه السياسات الحكومية من غير مؤسسات الدولة الرسمية.
والنقابات المهنية تصنف في الدول المتقدمة على أنها واحدة من مؤسسات المجتمع المدني , وتنطبق عليها معايير مؤسسات المجتمع المدني ولكن اجتهادي أنها في الاردن لاتعتبر واحدة من مؤسسات المجتمع المدني وبنفس الوقت فهي ليست مؤسسة حكومية، وخير وصف لها أنها في منزلة بين المنزلتين.
ان النقابات المهنية في الاردن تفتقر الى أهم خصائص مؤسسات المجتمع المدني التي تعتمد أساساً في عضويتها على حرية الاختيار , أما النقابات المهنية فهي تعتمد على الزام طائفة من أصحاب المهن بالإشتراك فيها . وقد أيد الديوان الخاص بتفسير القوانين في قراره رقم (11) لسنة (1969) هذا الرأي حيث وصف النقابات والغرف التجارية والغرف الصناعية بأنها مؤسسات شبه حكومية لأن لها على أفرادها سلطة لائحية تنظم أعمالهم وشؤونهم ولها سلطة اصدار قرارات ادارية ولانها تشبه من بعض الوجوه الهيئات الحكومية.
وأنا أقف مع الرأي القائل بأن على الحكومة أن تتولى بصفة مباشرة تنظيم ممارسة كل طائفة من المهن بقانون مستقل , وأن تترك للنقابات رعاية شؤون أصحاب المهن وتقديم الخدمات لهم ولكنني أعتقد أن هذا يستلزم وفتا واعداداً كافياً.ولإن بدا هذا الإقتراح غريبا على البعض إلا أنني أعتقد أن انضمام الأردن إلى اتفاقيات التجارة الحرة مع معظم دول العالم وانفتاحه على تجارة الخدمات واقتراب نهاية حقبة الحماية الإغلاقية لتجارة الخدمات تستلزم إعداد المهنيين والمؤسسات المهنية لمواجهة المرحلة القادمة والقدرة على المنافسة فيها .
وباستعراض نصوص قوانين النقابات نجد أن الحكومة قد وجدت الراحة في التخلي عن واجبها الأساسي في الاشراف على المهن وتنظيم شؤونها فألزمت المهنيين بالانضمام للنقابات ثم منحتها سلطات واسعة ومنها:
1. سلطة في صياغة تشريعاتها الخاصة.
2. فرضت موارد مالية للنقابات على شكل ضرائب.
3. تخلت عن سلطتها في الرقابة على المال العام (حصيلة الضرائب التي تجبيها النقابات).
4. فوضت النقابات سلطة قضاء التأديب على أعضائها.
5. منحت النقابات سلطة في تحديد أسعار الخدمات المهنية.
6. أهملت تطوير نظم الانتخابات في النقابات المهنية بحيث أصبحت غير معبرة عن موقف أغلبية أعضاء تلك النقابات.لم يعد الوقت مناسبا للإحتراب حول الدور السياسي للنقابات، فسيكون المهنيون أول الخاسرين إذا انقضي الوقت في جدل عقيم حول ذلك الدور دون الإعداد للمرحلة القادمة.ونتحدث عن هذه النقاط بإيجاز.
1. سلطة النقابات في صياغة تشريعاتها الخاصة:
تنص قوانين النقابات على صلاحية الهيئات العامة للنقابات في إعداد التشريعات المتعلقة بتلك النقابات أو التوصية بها وهو مبدأ ديموقراطي سليم , الا أنه قد استقر في ذهن البعض مسؤولين ونقابيين أن هذا الحق يعني استقلال النقابات عن السلطة التنفيذية وعدم جواز التدخل في قوانينها وأنظمتها . ونسي هؤلاء ان النقابات تعمل بتفويض من الحكومة وانها تدير مرفقا عاما , وان هذا التفويض رهن بالمصلحة العامة .
أدى هذا الفهم الملتبس لدور النقابات وقوع مجالس النقابات في أخطاء قانونية وأعطتها الجرأة على تغليب توجهاتها الساسية على النظام القانوني . ومثال ذلك امتناع بعض النقابات عن توفيق أوضاع منتسبيها مع قرار فك الارتباط بالرغم من ان موقفها هذا يخالف الاجتهاد القضائي و ربما كانت دوافع بعضها دوافع انتخابية .
ولأن الحكومات المتعاقبة تحرص على تجنب استثارة النقابات لم تعمل على تطوير الاحكام المتعلقة بممارسة المهنة أو المتعلقة بالتنظيم النقابي.
2- فرض الموارد المالية للنقابات على شكل ضرائب:
تمول صناديق التقاعد والتكافل الاجتماعي لأعضاء النقابات من اشتراكات الاعضاء واستثمار أرصدة تلك الاشتراكات . وتمول نشاطات النقابات العلمية والثقافية والادارية من رسوم تحصل من الاعضاء بالإضافة إلى رسوم ضريبية أخرى تتقاضاها النقابات باعتبارها سلطة عامة.
يعتبر أمرا طبيعيا أن يلزم القانون الاعضاء بدفع رسم اشتراكات على أسس شخصية , ولكن غير الطبيعي أن تفرض تحصيل رسوم ضريبية على الاعضاء حسب دخولهم أو حجم اعمالهم (على شكل نسبة من دخلهم السنوي أو نسبة من أتعابهم) وكذلك فرض رسوم على المستهلكين (على شكل طوابع أو رقع الاسعار) فهذه أعباء ضريبية تختص بها عادة الدولة كسلطة سياسية .
ومع التوجهات الحديثة للدولة الأردنية في التحول الاقتصادي والغاء أنواع كثيرة من الرسوم الجبائية وقصرها على بدل خدمات (باستثناء ضريبة الدخل والمبيعات ورسوم الجمارك) لم يعد مقبولا أن تستمر سلطة النقابات في جباية الضرائب , ان الاصلاح الاقتصادي يقتضي التحول عن هذا النوع من الضرائب بحيث يتعين الغاؤها.
3. الرقابة على أموال النقابات باعتبارها مالا عاما:
تتمتع النقابات باستقلال مالي واداري , وهذه الاستقلالية ضرورية لها لاداء مهامها , ولكن هذه الاستقلالية وباعتبارها مؤسسة شبه رسمية يجب أن لاتجعلها خارج نطاق الرقابة , وأموالها أموال عامة يجب أن تسأل الحكومة عن حسن اداراتها واستغلالها.وقد كشف التدقيق على صناديق بعض النقابات عن بعض التصرفات غير القانونية، وبالرغم من الاعلان عن بدء التحقيق في تلك النقابات الا ان المسألة طويت ولم تسفر عن نتائج تبعث على الاطئمنان الى سلامة توجيه موارد النقابات للاغراض التي أنشأت من أجلها .
4. سلطة التأديب:
فوضت الحكومة سلطتها في عقاب المخالفين من أرباب المهن الى النقابات ، بالرغم من ان بعض هذه المخالفات هي افعال يعاقب عليها قانون العقوبات , وقد استقر في ذهن الكافة ان النقابات هي السلطة الوحيدة التي تملك محاسبة المخطئين من أعضاء النقابات المهنية .
وفي التطبيق يلاحظ أن النقابات قد غلبت موضوع حماية أعضائها على مبدأ العدل بين الناس فوقفت نقابة الاطباء مثلا في وجه اصدار تشريع خاص يتعلق بمساءلة الاطباء عن أخطائهم الطبية . كما استعملت النقابات سلطة التأديب في فرض مواقف سياسية على أعضائها ومثال ذلك منع المحامين والاطباء من تقديم خدمة مهنية استنادا الى مواقف سياسية دون سند قانوني.
القاعدة أن لا عقوبة بغير نص , وتصل العقوبات التأديبية الى حرمان المهني من ممارسة المهنة , ولتكرار الشكوى من نتائج ممارسة سلطة التأديب في النقابات يصبح الامر بحاجة الى اصلاح وأن يتم باتجاهين.
أ- وضع ميثاق شرف مهني لكل مهنة يحدد بتفصيل كل مخالفة من المخالفات والعقوبة المقررة لها.
ب-اشراك القضاء في التحقيق واصدار القضاء وعلى الاقل في مخالفات محددة اذا كانت عقوبتها تصل الى التوقيف عن مزاولة المهنة أو الشطب من سجلات النقابة.
5. تحديد سلطة الاجور المهنية:تنص قوانين النقابات على منح النقابة سلطة تحديد أجور الخدمات والاتعاب , ولان كان ذلك مناسبا في وقت كانت سلطة الدولة في تحديد الاجور أمراً مقبولاً , فإن ذلك لم يعد جائزاً في ظل نظام السوق وفتح باب المنافسة المشروعة.
6. تطوير نظم الانتخابات النقابية:
تعتبر نسبة المشاركة في الانتخابات النقابية متدنية بجميع المقاييس ، بالرغم من ان اعضاء هذه النقابات هم من النخبة الاكثر معرفة وثقافة في المجتمع وذلك لأن النشاط النقابي قد انصرف عن مهمته في تحسين ظروف المهنة والمهنيين إلى مزاحمة التيارات السياسية الحزبية في قيادة العمل العام وتوجيه الرأي العام، ووجدت الأحزاب في ذلك وسيلة لتغطية ضعف دورها الشعبي وانصرف المهنيون عن المشاركة بالإنتخابات النيابية . وبالنتيجة أصبحت فرصة الفوز في هذه الانتخابات النقابية لأطياف سياسية بعينها تتناوب على قيادة النقابات . ولذلك فإن قيادة النقابات لا تمثل أغلبية اعضاءها من ناحية سياسية ، وانشغلت القيادات النقابية بمواضع سياسية عامة لأسباب انتخابية .
وحتى يكون التمثيل النقابي أقرب إلى العمل المهني الصحيح , وأن لا تغتصب النقابات لخدمة تيارات سياسية بعينها أقترح أن نوصي بأن تعدل انظمة الانتخابات في جميع النقابات بحيث تعتمد فكرة الصوت الواحد وبذلك تتاح الفرصة أمام الإصلاحيين المهنيين في الوصول الى إدارة النقابات.
قد لاتروق هذه الطروحات إلى كثيرين ولكنه حجر أقذفه في مياه تبدو راكدة.
حقوق النشر محفوظة@ مركز القدس للدراسات السياسية. كل الحقوق محفوظة