
Author: محمد أبورمان
Source: الغد
Date: 2009-01-11
ثمة، بلا شك، عوامل متعددة ومركبة في تفسير الانحطاط العربي الحالي، يشكل الجانب الثقافي محوراً رئيساً منها، وفي القلب منه سؤال الدين في العالم العربي وترسيم علاقته بالدولة والمجتمع والإنسان.
في ندوة عقدها مركز القدس للدراسات، أمس، بهدف بناء علاقة صحية بين الدين والدولة في الأردن، استمعنا إلى مواقف متعددة، تجاوزت في طرحها النموذج الأردني إلى النموذج العربي عموماً، ومع أن بعض هذه الأوراق تمايز وقدّم رؤية تأصيلية فقهياً وقانونياً، إلاّ أنّ أغلب المتداخلين لم يلجوا إلى عمق الموضوع وأسئلته الشائكة بقدر ما غلب الجانب الوصفي على الحوار العام.
ما وقعت به الندوة أمس هو ما نقع به جميعاً من اختزال هذا الموضوع العميق والأساسي في سياقات جزئية، نحو: علاقة الحكومة مع الإسلاميين، أو المادة الدينية في المناهج التعليمية، أو حتى حقوق الأقليات وغيرها، مع أنّ هذا الموضوع يتجاوز كل تلك المجالات إلى صلب الحياة اليومية لنا جميعاً، وفي داخل كلّ منا، في قيمه ومبادئه وعلاقته بدولته ومجتمعه، وفي كيفية بناء التوازن والانسجام بين حياته الروحية والدنيوية، ومفهوم المواطنة وقيمها، وإيماننا بالحرية والمساواة والعدل.
ليس المقصود الخروج من "النطاق العملي" إلى الأسئلة الفلسفية النظرية، لكن المطلوب تجاوز الأسئلة السطحية السياسية المجترة والمكررة إلى أسئلة حقيقية تؤسس لمفهوم الفضيلة الاجتماعية والأخلاق والدين ووظيفته المدنية والسياسية بصورة صحيحة وإيجابية.
"الإصلاح الديني" بمثابة شرط رئيس لإعادة تشغيل دور الإنسان العربي في مشروع الإصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية وتقريب الفجوة المعرفية المرعبة مع الغرب. وهو شرط أدركه رواد الفكر الإسلامي المعاصر، أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورشيد رضا وابن باديس وعلال الفاسي وغيرهم..
كان ذلك قبل أن تستغرق المجتمعات العربية والمسلمة في صراع مرير بين المشروع العلماني والإسلامي، الذي أخذ فيما بعد أشكالاً سلطوية سياسية، بعيداً عن اية محاولة لتصحيح المدارك الإسلامية وتوجيه الإنسان المعاصر فيما ينفع دينه ودنياه.
أحد أكبر الزلاّت التي وقعت بها الحركة الإسلامية المعاصرة أنّها انتقلت من الدواعي المعرفية والنهضوية في تحديد أوجه الخلل والتخلف، فأصبحت أسيرة الموقف الأيديولوجي المعلب والصراع السياسي، على حساب عقلية الاجتهاد والتجديد والتطوير الفكري والمعرفي والفقهي، التي ميّزت الحركة الإصلاحية الإسلامية الأولى.
"الأدلجة" هو الخطأ نفسه الذي يقع فيه التيار العلماني الإقصائي، فيتحدث بعبارات عامة فضفاضة عن فصل الدين عن الدولة والحداثة، من دون أن يدرك أنّ عصر الحداثة والصناعة والثورات الغربية المعرفية مرّ عبر حركة الإصلاح الديني الداخلي، لا إلغاء الدين وتحييده، أومعاداته.
بالصدفة، تزامنت هذه الندوة مع قراءتي للطبعة العربية الجديدة من كتاب مهم عن الموضوع نفسه "الطريق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والتنوير الفرنسي والتنوير الأميركي" للباحثة غيرترود هيملفارب (عالم المعرفة- سبتمبر 2009).
إذ يجادل الكتاب أنّ هنالك خطأ فادحاً باختزال التنوير بالطابع الفرنسي، الذي أخذ بعداً تقديسياً للعقل مناقضاً للدين، فهنالك التنوير البريطاني، الذي أخذ بعداً أكثر تصالحية وتسامحية بين الدين والحياة وركز على مفهوم الفضيلة الاجتماعية، وكذلك التنوير الأميركي الذي ركّز على قيمة الحرية السياسية.
المقصود أنّه لم يعد مبرراً المبالغة في المخاوف من مفهوم التنوير والإصلاح الديني واللجوء إلى منطق التبرير والدفاع عن القصور والأخطاء بدلاً من التجديد والاجتهاد، فثمة فراغ واسع ينتظر استئناف جهود الإصلاحية الأولى والتأسيس لـ"نسخة التنوير الإسلامي"، الكفيلة بحل جملة كبيرة من مشكلاتنا مع أنفسنا ومجتمعاتنا ودولنا، ومع العالم والثقافة والفن والعلم!
@ All rights shall be reserved. for Al Quds Center for Political Studies