القيم الدستورية للديمقراطية... سياسة أم صياغة؟

2008-01-27

إن صياغة دستور يرقى الى المنافسة والمعايير الدولية ليست إشكالية فنية أو ‏صياغية، بل هى مسألة سياسية. ولهذا يتطلب الحديث عن الدستور وقيمه، أولا، الاتفاق ‏على ماهية "القيم" بالمعنى الدستورى؟ولاشك فى ما بين الدستور و"الأخلاق" من صلة وثيقة، حيث تجسد المبادئ الدستورية ‏والقانونية أخلاقيات المجتمع، وترفع من منزلة الأخلاق الى مصاف القواعد القانونية ‏الملزمة للكافة. ولكنهما ليسا شيئا واحدا، فحيث يتطابق مقتضى القاعدة القانونية مع ‏مقتضى القاعدة الخلقية فإن ذلك لا يكون دائما نزولاً من الأولى عند الاعتبارات التى تمليها ‏الثانية، ولكنه يكون لمصلحة مشتركة (مثلا: الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع).‏

وبالتالى فالسؤال الذى يطرح نفسه بشأن القيم الدستورية: هل هى مثل أخلاقية تسمى ‏الفضائل والخصال الحميدة للبشر كأفراد صالحين بهذا المجتمع؟، أم هى اتفاقات ومعادلات ‏سياسية، من الوارد جدا أن تتغير كلما تغير الزمان والمكان والأشخاص والكيفية؟، لأنها ‏تاريخية وليست سماوية، وإن استلهمت شريعة سماوية!‏

فهى اتفاقات، وبالتالى فهى إرادية..، ثم إنها معادلات، وبالتالى فهى مرحلية 1‏. من ‏هنا، فالحديث عن الدستور (قيمه، أو تعديله..) لا يكون حقيقيا ومنتجا إلا باستطلاعات رأى ‏عام حرة ومستقلة ودراسات علمية مستقلة تسبق كتابة الدستور أو تعديله، وإلا احتكر ‏البعض فرصة تقديم المبادرة والرأى وحده، ثم عرضه على الجمهور فى استفتاء، لا ‏خيارات فيه أمام المواطنين -أصحاب الدستور- سوى القبول أو الرفض، دون مداخلة فى ‏قيم وبناء الدستور. يرتبط ما سبق ذلك أيضا نظرة صاحب القرار الى الجمهور ودوره ‏الحقيقى فى التصميم الدستورى للعملية السياسية، وهل هى نظرة استعلائية أم مساواتية؟، ‏وهل نريد فعلا دستورا يطبق أم يرضى المستعمين؟، فضريبة الديمقراطية ليست هينة، وإن ‏كانت مجزية ومفيدة جدا!‏
ومن هنا، أطرح الأسئلة الأربعة التالية للتأمل والمناقشة.‏

السؤال الأول: هل الدستور وثيقة سياسية؟‏ الدستور ينبثق من السياسة. فالقواعد القانونية القائمة اليوم فى مجتمع ما، هى تعبير ‏عن موقف سياسى نجحت القوى التى تبنَّته فى الإقناع به أو فى فرضه على الناس. ‏فالتشريع من هذه الزاوية هو السياسة تحولت إلى نظم وقواعد مقررة للحقوق والواجبات. ‏وتقوم هذه القواعد –بعد ذلك- بدور سياسى فى تنظيم حركة المجتمع وضبط إيقاع العلاقة ‏بين القوى السياسية فيه. فتؤثر فى السياسة بعد أن تأثرت بها، وتصنع بعض المواقف ‏السياسية بعد أن كانت المواقف السياسية هى التى تصنعها أو تؤدى إلى صنعها. أى أن ‏التشريع عمل سياسى بحت لا يتم بمعزل عن الحياة السياسية والرؤية السائدة فيها فى ‏لحظة صنع التشريع وصياغته. والتشريع الذى يصنع، أو يصاغ، على نقيض ما تقتضيه ‏الحياة السياسية التى يشرَّع لها يعد عملا سيئاً، يوصف صانعه بأنه خائن لواجبه المهنى.

والسياسة فى بحث علاقتها بالتشريع الدستورى تعنى أحد أمرين: فهى تعنى مجموعة ‏العلاقات التى تحكم نظام حياة الشعب ككل، كما تعنى مجموعة الغايات المشتركة التى ‏يستهدفها الشعب ككل أيضا، والوسائل التى يتخذها للوصول الى تلك الغايات.‏
إذن، الدستور وثيقة سياسية، تتعلق بالرابط‏bond‏ السياسى، ولا يتعلق، أو لا يجب ‏أن يتعلق بأكثر من "المعقول" فى تفضيلات وأنماط العلاقات الاجتماعية أو التفاعلات الثقافية ‏أو حتى المصالح والخيارات الاقتصادية، وإلا كان "حزبيا" وليس "وطنيا"، وقلقا أكثر منه ‏مستقرا، ومكروها فى الواقع وإن كان مذكورا على الأوراق (ومن أمثلة ذلك النص على أن: ‏حزب... قائد الدولة والمجتمع، أو أن الصحافة إحدى السلطات العامة -فى حين أنها حتى لا ‏تستطيع حماية نفسها!!-، وتضخم وتحزب النيابة العامة كجهة تحقيق وجهة إدعاء، وتبعية ‏النائب العام فى آن واحد...

كما أن الهوية السياسية للدستور، والقيم التى ينهض عليها، لا ‏تعنى اقتصاره على أحكام ومبادئ تتعلق فقط بالأمور السياسية، كالانتخابات والأحزاب... ‏وإنما تعنى أن العنصر الحاكم فى السياسة التشريعية فى المجالات الاجتماعية والاقتصادية ‏والثقافية هو العنصر السياسى، أى القيمة "السياسية" التى ينطلق منها الدستور فى خطابه ‏والمخاطبين بأحكامه (مثلا: خصوصية الخاص، سواء بمعنى أن الملكية مصونة، أو أن ‏الحرية الخاصة معتبرة، أو أن الرأى الخاص مصون..، وبالتالى فلا يجوز، إذا كنا نضع ‏دستورا لنحترمه، أن يصدر تشريع أو قرار أو تصرف يمس الحق الخاص، من السلطة أو ‏سكتت عنه السلطة).‏

السؤال الثانى: ما هى نظرة الدستور الى المشرع؟الدستور يخاطب السلطة التشريعية فى المقام الأول، لأنها تعطى الطابع التفصيلى ‏للمبدأ الدستورى فى شكل تشريع، ثم تذهب به الى السلطة التنفيذية لمراعاة احترام الكافة ‏له. أى أن البرلمان يقنن الدستور، والحكومة تمسك على المخالف للقانون، والقضاء يحكم ‏فى حقه بالقانون.. فما نظرة الدستور للبرلمان؟
‏1- يضعه فى موقع غيره: صائغ (شكليات التشريع كثيرة، وانتقلت بأعراضها الى ‏اللائحة الداخلية للمجالس العربية)‏
‏2- يضعه فى غير موقعه: تابع (البرلمان يفوض صلاحياته للحكومة، البرلمان ‏عرض للحل، البرلمان دوره المشورة فى سياسة الحكومة..)

ومن ثم فإن الدور المحدود للبرلمان فى تشكيل قواعد العملية الانتخابية التى تفرزه ‏ومراقبة الوسائل التى تؤثر فى تكوينه تجعل الدور المحورى فى تشريعات الانتخابات ‏وإدارتها للسلطة التنفيذية.‏

السؤال الثالث: هل الصياغة التشريعية هى السياسة التشريعية؟
إن التشريع سياسة ثم إنه صياغة.‏فمن الأخطاء الشائعة النظر الى صياغة القوانين على أنها مرادف للدور التشريعى ‏للنواب، ويقود هذا الخطأ المعرفى الى ثلاثة أمور، كلها سلبية، وهى:‏

أولا: الخلط بين صناعة القانون وصياغة القانون، ففى حين تستخدم الدول ‏الديمقراطية تعبير "صناع القانون" (‏Law-makers‏) أو "المشرعين" (‏Legislators‏)، ‏إشارة الى البرلمانيين، يطلق عليهم فى دول المنطقة "ترزية القوانين"، وكأن دورهم هو دور ‏‏"الصائغين" (‏Bill Drafters‏). والفرق كبير وجوهرى بين الوصفين، وأحرى بالبرلمانيين ‏أداء دور صناع التشريع وليس ترزية القوانين.

ثانيا: الإغراق فى إسناد المهمة التشريعية الى الأعضاء القانونيين، أو الى المحامين ‏والمستشارين، فى حين أن مهمة القانونيين هى تجسيد الأفكار والقيم التى يحددها ‏البرلمانيون وحدهم فى قالب وعبارات منضبطة لفظا ولغة، بحيث تكون "شاملة- مانعة" لما ‏أراده البرلمانيون أنفسهم، وليس وفق ما يراه القانونيون. وبالتالى نسال أنفسنا: هل ‏بالضرورة ان يكون رئيس وقيادات اللجنة القانونية أو التشريعية فى البرلمان من ‏القانونيين؟، أم يمكن أن يكونوا من الأطباء أو الأدباء أو رجال الدين أو الصناعيين أو حتى ‏غير المتعلمين تعليما جامعيا؟، فالمهم والمطلوب من عضو البرلمان هو تحديد الأولويات ‏والأفكار اولا ثم يأتى دور القانونيين لبلورتها فى صياغة فنية جيدة.‏

ثالثا: تقليد البرلمان الوطنى لقوانين وإجراءات أصدرها برلمان آخر. وفى الحقيقة لا ‏توجد مشكلة فى الاستفادة وتبادل الخبرات، ولا توجد مشكلة أيضا فى نقل بعض الأحكام ‏والنصوص من برلمان الى برلمان آخر، بشرط تشابه الظروف والبيئة الموضوعية ‏والاجتماعية الوطنية فى كل منها، لأن المنطقى (وكما يقول الفقه) أن الاجتهاد فى تفسير ‏النص واجب باختلاف الزمان والمكان والحال.. لهذا، فالتشريع سياسة، ثم إنه صياغة، ‏ودور الصائغ يأتى بعد النائب.

والمحصلة، ضعف قدرة التشريعات على قيادة الفعل العام، وهيمنة الأدوات التنفيذية ‏فى تحقيق سياسات الحكومة.. فإلى أى مدى تضمن التشريعات نزاهة العملية الانتخابية إلا ‏عندما تلتزم بإرادتها بتحقيق درجة أعلى من النزاهة؟، وألا يمكن تطويع ولوى التشريعات ‏لتحقيق نتائج أخرى، حتى فى ظل الإلتزام بالقوانين واللوائح؟، وألا توجد أحكام وصياغات ‏لقواعد قانونية غير قابلة للتطبيق أصلا (مثلا: توقيع جزاء على عدم المشاركة فى ‏التصويت..، أو إنفاذ قواعد سقف الإنفاق الانتخابى لمنع استخدام سلاح المال، أو حياد ‏الأجهزة التنفيذية.. فى ظل إشراف الحكومة على الانتخابات وغياب لجنة مستقلة بالمعايير ‏الدولية الفضلى)؟

السؤال الرابع: هل هناك ديمقراطية فى الصياغة؟
السياسة عموما، وبالمعنى الإجرائى، هى عملية اتخاذ القرارات، التى تتضمن ‏المفاضلة فيما بين البدائل المتاحة والممكنة، على ضوء أولويات الجماعة ومصالح ‏المجتمع.

والسياسة التشريعية للدستور المقصودة هنا هى الفلسفة التى تحكم عملية التشريع ‏الدستورى، بداية من اتخاذ قرار التصدى لموضوع أو قضية عن طريق إجراء تعديل ‏دستورى ابتداءأ، ومرورا بتحليل الموضوع وتحديد أولويات المجتمع بشأنها وقدراته ‏ومصالحه إزاءها، ثم ترجمة مبادئ السياسة الى نصوص دستورية وإصدارها بالطرق ‏المقررة. أما الصياغة الدستورية فهى عملية ضبط الأفكار فى عبارات محكمة، موجزة ‏وسليمة، كى تكون قابلة للتنفيذ. ولهذا، يجب الحذر عند الخلط، ولو غير المتعمد، بين ‏الصائغ (‏Drafter‏) والمشرع (‏Legislator‏)، فالأول مصمم فنى، والأخير هو صانع ‏القرار، المسئول أمام الناخبين عن السياسة التشريعية، بل وكذلك عن صياغة النص ‏القانونى ذاته.‏

فالقانون ليس غاية فى ذاته، ولا هو قواعد مجردة تكتب ولا تطبق، ولكنه جزء من ‏نظام حكومة الشعب، يباشر وظيفته –حين تطبق قواعده- بين أناس يعتنقون مذهباً سياسياً، ‏ويتخذون مواقف سياسية يعبر عنها التشريع القائم فيهم. وإهمال ذلك يجعل التشريع ‏منفصلا عن الجماعة لا تعيره التفاتاً ولا تعنى بطاعته، أو مفروضاً عليها تبغضه وتتفلت ‏منه كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وقد تقاومه بالثورة والقوة.

ولكن، من ناحية أخرى، فسوف تتأثر السياسة التشريعية -بالطبع- بالمعطيات ‏السياسية القائمة، فيكون هناك منهج تشريعى يختلف من نظام لآخر، ويتأثر بدرجة كونه ‏نظاما سلطويا أو نظاما ديمقراطيا، فالسياسة التشريعية فى الحالة الأولى لا تتيح دورا كبيرا ‏للمجالس النيابية وإنما يكون الدور الأكبر للسلطة التنفيذية (الحاكم)، وفى بعض الأحيان ‏يكون الحاكم لابسا لثوب مؤسسى خارجى مثل سلطة الحزب الواحد أو الوحيد وبالتالى يكون ‏لدينا برلمانا تابعا، وفى مثل هذا الوضع يكون دور هذا البرلمان مجرد عملية تشريع ‏لتصرفات السلطة التنفيذية أى إدخال ما تراه مناسباً فى إطار قانونى. أما فى ظل الأنظمة ‏الديمقراطية ووجود تعددية سياسية وأحزاب سياسية مستقلة ومنظمات مدنية مستقرة فإن ‏السياسة التشريعية تكون محصلة لتفاعل هذه الأطراف الاجتماعية والقوى السياسية على ‏نحو ما، قد تزداد فيه كفة طرف معين على أخرى، ولكنها جميعا تبقى فى دائرة التأثير.‏
 
1 ‎‏ فربما ارتضى المصريون يوما تخصيص كوتا 50% للعمال والفلاحين فى تركيب السلطة، نظريا على الأقل، ولكنه ‏ربما غير رأيه اليوم، فلا إثم عليه إن فعل، ولا يجوز إلا أن نستطلع رأيه ونتركه يعبر عن رأيه وإلا انفصل الدستور عن ‏أصحابه الشرعيين، فصار وكأنه الاحتلال.‏

 
-ورقة قدمت في مؤتمر الانتخابات والتحولات الديمقراطية في العالم العربي خطوة إلى الأمام أم خطوة إلى الوراء ‏ الذي نظمه مركز القدس للدراسات السياسية في 26-27 يناير 2008
https://alqudscenter.org/print.php?l=ar&pg=QUNUSVZJVElFUw==&id=632