A+ A-
جولة أفق في المنطقة غداة الحرب السادسه... تبدل الأدوار وتباين الأوزان في الشرق الأوسط غير الجديد

2006-08-24

صمتت المدافع على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، على أن صمتها قد لا يطول، فالمنطقة برمتها تقف على مفترق طرق خطير، ستتقرر في نهايته معادلة الحرب والسلام، بعد أن ضاقت مختلف الأطراف، بما فيها الإسرائيلية بحالة اللا حرب واللا سلم القائمة منذ سنوات. وثمة سباق محموم آخر بين الحرب والديبلوماسية، تمتد ساحاته من عواصم المنطقة إلى مجلس الأمن، بين أن اصطدام المصالح وتباين المواقف بين الفرقاء، يجعل نتيجة هذا التسابق بدورها، رهن بتوازنات القوى واختلاط الأجندات وتعدد بؤر الصراعات وتباين الأوليات.
 
في لبنان:
- ليس لإسرائيل ولا لحزب الله مصلحة مباشرة في العودة إلى الخنادق في القريب العاجل، فحكومة أولمرت منهمكة في جهود إعادة إعمار شمال إسرائيل، حيث يرتبط مصير الحكومة – ربما – بمدى نجاحها في إنجاز هذا الملف، فيما حزب الله الذي تعرضت قاعدته الاجتماعية ( المناطق الشيعية) لأفدح الأضرار والإصابات، يخوض معركة الحياة أو الموت في ميدان إعادة الإعمار وتسكين اللاجئين والنازحين، واستعادة البنية التحتية والخدمات.

- بيد أن ذلك لا يعني أن لا يتطور حادث حدودي أو عملية إنزال محدودة إلى اشتباك عام، وحريق قد يأتي على الهدنة الهشة القائمة على خطوط التماس._ تعثر تشكيل القوات الدولية بموجب القرار 1701 وفقا للمصادر المطلعة، يعود لجملة أسباب منها:

* أن الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل وفرنسا وبعض الأطراف اللبنانية (تحالف 14 آذار )والعربية (مصر، السعودية والأردن)، تريد لهذه القوات أن تكون "رادعة"، وهي تفضل انتشارها على طول الحدود اللبنانية البرية والبحرية، مع إسرائيل وسوريا وفي الموانئ والمطارات، الأمر الذي ترى فيها سوريا وإيران وحزب الله، توظيف لنصر إسرائيلي لم يتحقق، وترجمة للقرار 1559 المفروض، وفك ارتباط بين المسارين السوري والإيراني، وتفكيك لهذا المحور، وتوطئة لنزع سلاح حزب الله.

* أن بعض الأطراف المشاركة أو المرشحة للمشاركة بكثافة في هذه القوات، تريد التريث بانتظار معرفة الوجهة التي سيسلكها الملف النووي الإيراني، سيما بعد تقديم إيران ردا "لا يبلي جميع شروط" مجموعة "الخمسة زائد واحد"، وبانتظار انتهاء المهلة الممنوحة لطهران لتوقف تخصيب اليورانيوم في نهاية آب / أغسطس الجاري.

- الجدل حول هذه المسألة لم يحسم بعد، لكن الباب ما زال مفتوحا على خيارات عدة منها:
* نجاح الأمين العام للأمم المتحدة في تحييد مواقف دمشق وطهران من الملف اللبناني، وهذا أمر متعذر.

* فشل الديبلوماسية في حل أزمة الملف النووي وعندها لن تغامر أي دولة بنشر قوة مؤثرة في لبنان.

* التوصل إلى صيغة وسط، يجري بمقتضاها تطوير اليونيفيل عددا وعدة، ونشرها في الجنوب من دون تفويض واضح، والتراجع عن فكرة نشر القوات الدولية على حدود سوريا مع لبنان، تحت ضغط التهديد السوري بإغلاق الحدود وخنق لبنان، والاكتفاء بنشر الجيش اللبناني في هذه المناطق، واستتباعا الضغط على إسرائيل لتخفيف حصارها البحري والجوي للبنان، مع إعطائها الحق بالتدخل في بعض الشروط والظروف المثيرة لشبهة تهريب أسلحة لحزب الله من سوريا أو عبر الموانئ والمطارات.

* الأرجح أن الأزمة اللبنانية ستظل تراوح لبضعة أسابيع أو أشهر، وأنها ستظل مضبوطة على إيقاع الأزمة الأمريكية – الإيرانية، سيما بغياب أي قوة في لبنان تستطيع أن تفرض على حزب الله إرادتها، وغياب الرغبة عند أية قوة إقليمية أو دولية للمشاركة بكثافة في مهمة "الدوليين" من دون توافق أو تفويض واضح.
 
في سوريا:
-
تعيش القيادة السورية لحظة نشوة بانتصار المقاومة اللبنانية، وهي تعتقد بأنها باتت أقرب إلى تحقيق بعض من أهدافها، بصورة غير مسبوقة منذ انسحابها من لبنان.

-دمشق ترفض خيار "فصل المسارين" ولهذا السبب ترفض الترسيم في شبعا، وترفض نشر قوات دولية على حدودها.

- دمشق تعتقد أن الوقت مناسب للانقلاب على نتائج الانتخابات الأخيرة، ولهذا فهي تحرض أصدقاءها وحلفائها للاستعداد لمعركة إسقاط تحالف "17 أيار" في إشارة إلى نجاح أصدقائها وحلفائها في العام 1983 في إسقاط الاتفاق اللبناني – الإسرائيلي والحكومة التي جاءت به، وعودة نفوذها وقواتها إلى بيروت بعد أن كانت قد انسحبت منها صيف عام 1982 إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان.

- دمشق تعتقد أن حربا إقليمية محدودة تبدو مرجحة في الفترة القريبة القادمة، سواء بفعل تداعيات القرار 1701 أو في ضوء تداعيات أزمة الملف النووي الإيراني، وهي لا تستبعد هذا الخيار، وتعتقد أن لديها من القدرة على خوضه، وهي متشجعة بنتائج الحرب الأخيرة في لبنان.

- دمشق أيضا، لم تقطع شعرة معاوية لا مع الحلف الثلاثي : الأردني – السعودي - المصري، ولا مع الغرب والولايات المتحدة، وهي تبعث برسائل في مختلف الاتجاهات، وهدفها الرئيس الحصول على إقرار بوزانها الإقليمي واعتراف بدور مناسب لها في الإقليم، بدءا من لبنان، ولهذا السبب بالذات تبدو علاقاتها مأزومة مع فرنسا على وجه الخصوص التي تريد تصفية النفوذ السوري في لبنان كما تعتقد دمشق، ومعها في اعتقادها هذا كل الحق.

- وفي الوقت الذي وطّنت فيه سوريا موقعها في حلف طهران – البصرة – دمشق – النبطية – غزة، تشعر القيادة السورية أن لديها أوراقا تلعب بها، وبالنسبة لها "انتصار حزب الله" نقطة تحول، وقبلها فوز حماس، ونجاح إيران في تسجيل في تقدم ملموس في برنامجها النووي واتفاقية الدفاع المشترك السورية الإيرانية، فضلا بالطبع عن التحولات التي تطرأ على مواقف بعض القوى العراقية (ومن بينها الشيعية) ضد الولايات المتحدة.
 
في إسرائيل:
_
إسرائيل غارقة في الفوضى ومسلسل الفضائح الذي طاول رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير العدل ورئيس الأركان، فضلا عن التقصير في الحرب الأخيرة والتحقيق المؤكد الذي سيجري، ومناخات العصيان والتمرد عن جنود وضباط خدموا في الحرب الأخيرة.

- إسرائيل الضعيفة لا تقدم على سلام مع أحد، وإسرائيل القوية جدا تعميها غطرسة القوة وتمنعها عن رؤية الفرص، وحتى إشعار آخر، ليس في إسرائيل قيادة قادرة على صنع السلام أو الاستجابة لاستحقاقاته على أي من المسارات، وكل ما يمكن أن يخرج عن الحراك السياسي والديبلوماسي الحالي، ليس سوى عمليات تهدئة وحلول جزئية لقضايا وأزمات موضعية.

- أولمرت، شريك شارون في خطة "الأحادية والانطواء" تراجع رسميا عن الخطة بإعلانه تعليق العمل بها، بيد أن ذلك لا يعني عودة إسرائيل للخيار التفاوضي أو إلى عملية مدريد ومرجعياتها، فالأرجح أن النكسة التي مني بها "كاديما" و"العمل" ستصب الحب في طاحونة اليمين الإسرائيلي، الذي تظهر النتائج الحالية بأن سجل ارتفاعا ملحوظا في شعبيته ونفوذه.

- وفي أضعف الأحوال، فإن إسرائيل بحاجة لمقاربة أمريكية جديدة لملفات المنطقة تساعدها في الهبوط من قمة الشجرة، بيد أن تغيرا دراماتيكيا في السياسة الأمريكية لن يطرأ قريبا، أقله حتى الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي نهاية العام الحالي._ الحرب أكدت مخاوف النظرية الأمنية الإسرائيلية وأعادت الاعتبار لمصادر التهديد التي لحظتها الاستراتيجية : الخطر الصاروخي ( حزب الله وإيران وسوريا)، الجبهة الشمالية (المحور السوري الإسرائيلي + حماس وحزب الله) التي حلت محل "الجبهة الشرقية" كمصدر للخطر، فضلا عن "إرهاب حماس وحزب الله تحديدا.

- إسرائيل ستعمل على استعادة صورتها الردعية، إن لم يكن فورا ففي القريب العاجل، والأرجح أن ذلك سيتم على الجبهة الشمالية، وربما بصورة تشمل سوريا.

- ثمة أحاديث متزايدة في إسرائيل عن "ضرورة بناء السلام مع سلام"، بيد أن حديث نخب يسارية وأقلية وزارية، التيار العام في إسرائيل ما زال بعيدا عن الوصول إلى قرار استراتيجي بهذا الشأن، فثمن السلام مع سوريا مكلف، يجب أن يشتمل على الجولان ودور سوريا في لبنان.

- السلام السوري الإسرائيلي رهن بدوره بتطور الملف الإيراني، فإن توصلت إيران لصفقة مع الولايات المتحدة، قد تكون سوريا ولبنان جزءا منها، وإن اندلعت المواجهة، فستمتد ساحاتها من إيران إلى النبطية مرورا بسوريا والعراق وبعض أطراف الخليج أيضا.

- لمواجهة الإخفاقات في الحرب الأخيرة، ستعيد إسرائيل التفكير في نظريتها الدفاعية، لن يظل الاعتماد مطلقا على سلاح الجو، وستصرف مليارات الدولارات لتطوير الدروع "ميركافا" وستوسع نطاق عملياتها الاستخبارية وقوات مكافحة الإرهاب وتكنيك المواجهة في حروب العصابات غير النظامية.
 
المحور السعودي، المصري، الأردني:
-
يصعب الحديث عن محور ثلاثي، فالخلافات الأردنية السعودية كانت في أوجها قبل اندلاع الحرب الأخيرة، لكن تشابه المواقف وانسجامها من حزب الله وإيران و"الهلال" جمع هذه الأطراف في بوتقة تكتيكية واحدة.

- سيعمل هذا المحور على إطلاق مبادرة سياسية جديدة، تستند إلى محورين: مبادرة بيروت والعودة إلى مجلس الأمن، المعلومات تشير إلى تعثر هذا الجهد بسبب التحفظ الأمريكي عليه، وربما ينتهي الأمر إلى تقديم أفكار والقيام ببعض التحركات من دون التورط في مبادرة معروفة سلفا نتائجها المحدودة.

- تعاني أطراف هذا المحور من مشكلات داخلية جدية في إقناع الرأي العام، وحتى النخب القريبة من دوائر صنع القرار، بجدوى وجدية توجهاتها، فثمة إحساس يترسب في أوساط النخب الحاكمة، بانعدام البدائل والخيارات وقلة الحيلة_ تواجه هذه الأطراف حملة تشكيك في الأسس التي بني عليه هذا التقارب، فالبعض يرى أن محور مصمم في مواجهة إيران وهلالها، وليس في مواجهة إسرائيل وغطرستها، الأمر الذي يؤذن باحتمال دخول المنطقة في "حرب باردة" بين محاور تتشكل بسرعة وتتباعد مواقفها على نحو خطير.
 
الشرق الأوسط الجديد:
- لم يؤخذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي بشّرت به كونداليزا رايس على محمل الجد من قبل أوساط واسعة في المنطقة، بخلاف ردات فعلها السابقة على مشاريع مماثلة حملت ذات الاسم في العام 1996 (مشروع شمعون بيريز) أو اسما مختلفا "الشرق الأوسط الكبير) الذي اقترن بأحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعيات الحرب على أفغانستان والعراق.

- الاعتقاد السائد أن الولايات المتحدة الغارقة في العراق، وإسرائيل "غير المنتصرة" على حزب الله، وانتشار المد الإسلامي في غير دولة ومجتمع من دول المنطقة ومجتمعاتها، فضلا عن المكانة الاستراتيجية المتزايدة لإيران، وبداية انهيار القبضة الأمريكية – الأطلسية على أفغانستان، جميع عوامل تدفع على الاعتقاد بأن شرقا أوسطا جديدا لن ينبثق لا عن هذه الحرب ولا عن غيرها، وأن تغيير خرائط المنطقة قي يتطلب المقامرة بخمسة ملايين قتيل وخمسين عاما من الحروب الأهلية والإقليمية في المنطقة.

- خطط التغيير في سوريا والتقسيم في السعودية، التيس انتشرت وانتشرت معها خرائط المنطقة ومستقبلها، تكشف عن نوايا ورغبات، ينقصها القدرة على ترجمتها، أو بالأحرى فرضها بالقوة من الخارج، بين أن رياح الانقسامات الطائفية والمذهبية والقومية في المنطقة، تجعل هذا الخطر ماثلا باعتبار نتاجا داخليا لصراعات داخلية، وفي هذا السياق يقدم العراق صورة عن المآلات التي يمكن أن يفضي إليها أو يتطور نحو الصراع المذهبي أو الطائفي.

- في الاعتقاد الاستراتيجي، أن أخطر ما يجابه المنطقة هو الصراع المذهبي السني الشيعي، الذي تغذى في العراق وتحوّل إلى مارد يصعب إعادته إلى القمقم، وقد يطال لبنان إن استمرت الجهود والمحاولات الرامية "لتكسير رأس حزب الله"، عندها سيرتد الحزب مذهبيا، وسنواجه خطر "عرقنة لبنان" بعد أن كان القلق كامنا في خطر "لببنة العراق".

- المقاومة الشجاعة التي أبداها حزب الله في مواجهات الحرب الأخيرة، دفعت إلى الخلف ببعض الاستراتيجيات لبعض الدول...الأردن يعيد التفكير بما سبق وأن اعتبره إستراتيجية أمنية للعامين القادمين" لعب دور في العراق، وآخر للتغيير في سوريا، وثالث في فلسطين...لكن هذه المراجعة قد لا تصل إلى الإحجام الكلي عن القيام بأدوار من هذا النوع، بيد أن الحذر والتحسبات والشروط التي ينبغي توفرها للقيام بهذه الأدوار تغيرت بعد الحرب، وباتت أكثر دقة وحساسية.

- في المقابل، سوريا تفكر الآن بتوسيع نطاق دورها في مرحلة ما بعد الحرب، وفي هذا السياق يجري التركيز سياسيا واستراتيجيا، وعلى أرفع المستويات على التحالف مع حماس وحزب الله وإيران، ويجري الحديث عن هذا الحلف بكل قوة، ويجري تحييد تركيا بل والسعي لكسب ودّها بكل الطرق المتاحة.

- السعودية المهجوسة بالخطرين الإيراني والإرهابي، لا تبدو نشطة في مقاربة ملفات المنطقة أو الاقتراب منها، وهي تكتفي بتحريك أصدقائها من دول وجماعات في المنطقة ولبنان، لتطويق النفوذ الإيراني وعزل سوريا وإضعاف حلفائها_ مصر التي تفقد يوما بعد يوم وزنها الإقليمي القائد، ستتحول وفقا لمصادر مطلعة إلى الملف الفلسطيني باعتباره آخر الملفات الذي بمقدورها أن تديره، ولكن بصعوبة هذه المرة بعد أن تعزز نفوذ سوريا وإيران في المشهد الفلسطيني، وبالأخص في ضوء فشل حلفاء مصر وأصدقائها من الفلسطينيين في لملمة صفوفهم والاستفادة من دروس الهزيمة في انتخابات يناير الماضي، ومع تفاقم الإصرار الإسرائيلي على تجنب الانخراط في أي عملية سياسية جادة وجدية على المسار الفلسطيني.