A+ A-
حروب أخرى في السودان

2003-06-25

مقدمة

الإطار الثنائي الذي تدور فيه محادثات السودان حول السلام لا يعالج بشكل مناسب جميع الصراعات المسلحة الدائرة في البلد، وبخاصة الثورات المستمرة منذ زمن طويل في "المناطق الثلاث" (آبيه وجبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي) في الشمال، والصراع المسلح الذي اندلع مؤخرا في دارفور في السودان الغربي. وينظر إلى الاستياء في هذه المناطق على انه ذو أهمية ثانوية قياسا مع ما في الجنوب، ولكن لا بد من وضعه في الحساب اذا أرادوا الوصول الى اتفاق سلام وطني دائم. فهناك احتمال حقيقي في ان يقوض الذين يشعرون بان عملية سلام "ايغاد" تتجاهلهم، أي اتفاق يتم التوصل اليه فقط بين حكومة الخرطوم وجيش التحرير الشعبي للسودان. ولذلك لا بد لفريق توسط "ايغاد" والبلدان المراقبة من التأكد من المعالجة الكاملة للصراع في هذه المناطق، في أي اتفاق سلام شامل.تقع "المناطق الثلاث" جغرافيا في الشمال، ولكنها تحارب بجانب جيش التحرير الشعبي منذ منتصف الثمانينات. والكثير من التوتر الموجود هناك يتصاعد بتأثير نفس العوامل التي قادت الى نشوب الحرب الدائرة حاليا في جنوب السودان:
وجود حكومة مركزية تستغل الموارد المحلية، تفرض معتقداتها الدينية والثقافية على سكان مختلفين تاريخيا، وتحرص باستمرار القبائل والجماعات العرقية المحلية ضد بعضها البعض من اجل مكاسب تكتيكية قصيرة المدى. ويشعر الكثير من الاقليات في أنحاء السودان بالتهميش نتيجة لهذه الممارسات. وقد ادى الفشل في تحقيق التغيير بشكل سلمي الى دفعهم اكثر فاكثر الى مواجهات مسلحة مع السلطات المركزية. وقد أدت خشيتهم من تنحيهم جانبا في أي سلام يتم التوصل اليه بين جيش التحري الشعبي والحكومة الى تصعيد الصراع كسبيل لجلب الانظار لمشاكلهم قبل توقيع أي اتفاق.

لقد أدى التمرد المسلح الناشئ في دارفور، والذي يهدد الآن بالتصعيد، الى إحداث صدمة في السودان. ان مخاوف الجماعات في هذه المنطقة-وبخاصة "الفور" و "زغاوة" و "المصاليت"-تعكس صورة، لا مجرد الوضع في هذه المناطق وفي الجنوب، وانما كذلك الوضع في "بيجا" في السودان الشرقي والنوبة في السودان الشمالي. واذا وقع رد عسكري ضخم من الحكومة في دارفور فانه سيؤدي الى إلحاق دمار هائل بالمدنيين بينما سيعمق الاحقاد.

تركز استراتيجية منظمة "ايغاد" الى حد كبير على حل مشكلة الحرب الأهلية في السودان ضمن نموذج الشمال-الجنوب الذي قاد الى بروتوكول مشاكوس في تموز 2002، بما في ذلك شروط لإجراء استفتاء حول تقرير المصير في الجنوب واستمرار تطبيق الشريعة في الشمال. ولكن استمرار المصاعب في المناطق الثلاث والعنف الاخير في دارفور يوضح بجلاء ان للسودان كله مشكلة مشتركة:تهميش الجماعات والمناطق البعيدة عن مركز البلد من جانب الحكومات المتعاقبة في الخرطوم. ويكمن الخطر بشكل واضح في انه طالما ظلت هذه الجماعات تشعر بالتهميش وعدم احترام آرائها في عملية "ايغاد"، فان الانجذاب نحو العنف سيظل قائما.

ولذلك فان من الواضح ضرورة الربط بين النقاش حول المناطق الثلاث وبين عملية "ايغاد"، وتلبية مصالح السكان. ويجب ان يكون العنف في دارفور موضوع مبادرة منفصلة ومركزة-تقوم بها حكومة الخرطوم، بتشجيع قوي من المجتمع الدولي-لانهاء العداوات وكذلك لضمان مواجهة القضايا ضمن عملية "ايغاد".
هل يمكن صنع السلام بشكل متوازٍ؟

أ-المفاوضات والعنف
لم تجر المفاوضات حول المناطق الثلاث كجزء من مباحثات السلام بين الحكومة السودانية وجيش التحرير الشعبي للسودان برعاية "ايغاد". ولكن الذي يرعى هذه المفاوضات هو الحكومة الكينية، وتعتبر كعائق جانبي. ولاقت الجولة الأولى في آذار 2003 تقدما محدودا. وبالتالي، تخلى فريق المفاوضات عن أسلوب، مناقشة المواضيع الواحد بعد الآخر وهو الآن يتولى مناقشة جميع القضايا في نفس الجلسة. ومن المتوقع ان يعقب التشاور الوجيز مع الأطراف حول "المناطق الثلاث" في نهاية أيار نقاش موسع في تموز حول تفاصيل إطار اتفاق على القضايا الراهنة. ورغم تحقيق القليل من الإنجاز الجوهري في مفاوضات اذار 2003، فان مجرد حقيقة قيام المفاوضات يعتبر مؤشرا إيجابيا على اعتراف الوسطاء والمراقبين والأطراف بان اتفاق السلام يجب ان يكون شاملا إذا قدر له الاستمرار والديمومة. ووفرت المباحثات ستارة خلفية لاثنين من التطورات الهامة: تمديد مذكرة التفاهم حول إيقاف الأعمال العدائية حتى 30 حزيران 2003 وتمديد فترة انتداب فريق رصد حماية المدنيين حتى 31 آذار 2004.

ويعتبر وضع المناطق الثلاث أمرا هاما وحيويا لأي اتفاق وذلك لاسباب عديدة. ذلك ان المتمردين من هذه المناطق يحاربون بجانب جيش التحرير الشعبي في معظم فترة الحرب الأهلية، وأي اتفاق يستبعد اهتماماتهم، من المتوقع ان يجعلهم يواصلون نضالهم المسلح. ونظرا لأنهم يقيمون فيما بين الشمال والجنوب، وبين جبال النوبة والنهر الأزرق في الجنوب، فان هناك خطر إعادة جر السودان الجنوبي إلى المعركة إذا وصلوا تمردهم. كما يمكن ان يتحولوا ضد الجنوب إذا شعروا بان جيش التحرير الشعبي قد تخلى عن مطالبهم.

ومن طرق عديدة، تعتبر المناطق الثلاث عالما مصغرا للحرب السودانية ككل. فتعتبر "آبيه" منطقة غالبية سكان من الدنكا، وهي قبائل متصلة عرقيا بمنطقة بحر الغزال الكبرى وبكثير من قادة جيش التحرير الشعبي. وفي جبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي غالبية من السكان المسلمين، اقرب إلى التراث الإفريقي منهم إلى التراث العربي، التحقوا بالحرب بشكل مباشر نتيجة لما يرونه من إهمال الحكومة المركزية ومعاملتها غير العادلة لهم. والكثير من الأسباب الجوهرية للصراع الرئيسي مثل الدين والعرق وتوزيع الموارد والتهميش السياسي، موجودة في المناطق الثلاث. وتعتبر المواجهة الناجحة لمشكلاتهم عاملا على إرسال إشارة واضحة بان الحكومة راغبة في تغيير الممارسات التي جعلت الكثير من السودانيين يشعرون بان الخرطوم قوة معادية في حياتهم اليومية.

وهذه المناطق الثلاث المعترف رسميا بأنها في حالة "صراع" خارج الجنوب، ليست هي المناطق الوحيدة التي تتنافس لجذب اهتمام الحكومة والوسطاء الدوليين. ذلك ان الصراعات الإقليمية في أجزاء أخرى من الشمال تتحدى كذلك تأكيد الحكومة بان الأزمة يمكن حلها بالتوازي مع محور شمالي-جنوبي كامل وصارم. وإذا أخذت هذه الصراعات الاقاليمية مع بعضها البعض فإنها تبرهن على ان الناس في المناطق المهمشة بشمال السودان يظلون على استعداد للجوء للنضال المسلح بعد عقود من الاحتجاج السلمي نظرا للفشل في نيل سلطة سياسية اعظم واستقلال ثقافي ذاتي ومشاركة في الموارد.

وقد تراجعت بالتدريج الإصلاحات السياسية على مستوى المنطقة والعرق التي بدأت في منتصف الستينات من اجل تعزيز مطامع الناس هناك، وأفسحت الطريق للجماعات المسلحة بسبب الاهمال المتواصل من جانب الحكومة المركزية المتوالية. وقد سعت الجماعات المتمردة الجديدة في هذه المناطق لنيل مساعدة جيش التحرير الشعبي للسودان لترسيخ وضعها، واصبح بعضها مثل تلك التي في جبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي ومنطقة بآبيه الجنوبية، أجزاء متكاملة من تلك الحركة مع احتفاظ تلك الجماعات باجندتها الخاصة بأقاليمها.

وردت الخرطوم بدون ابداء ضعف على مظاهر التململ المسلح المبكرة في الشمال بإجراءات عسكرية صارمة استهدفت السكان بدون تمييز وزادت من مشاعر العداوة عندهم، فأرسلوا حشودا من المجندين داخل معسكرات الجماعات المسلحة في تلك المناطق.
وسجل مولد جماعة ثوار جديدة مقرها دارفور، في منتصف شباط 2003، تصعيدا خطيرا للقتال في غرب السودان، كانت الحكومة في السابق قد قللت من شانه باعتباره منازعات قبلية وإجرامية. وجاء استيلاء جيش تحرير السودان على "غولو" في جبل مرة بولاية دارفور الجنوبي، ربما ليكون مؤشرا على حدوث تطور كبير وجديد له تأثيره على عملية السلام.

وهناك السودان الشمالي، وهو منطقة تقع اهتماماته خارج محادثات السلام، وقد شهد كذلك قلاقل وقتالا متواترا. وللسودان الشرقي، الموطن التقليدي لشعب "البيجا"، تاريخه المتميز من الاضطهاد والتهميش، وعنه تمخضت الأجنحة السياسية والمسلحة لمؤتمر بيجا لتقاتل إلى جانب الجماعات المسلحة الأخرى في الشرق. وهناك النوبيون في جزء غير متطور من شمال السودان، يشكلون جماعة اخرى مهمشة يتصاعد السخط بين صفوفها. ولكن الهجرة الواسعة للشباب من تلك المنطقة لاسباب اقتصادية في غالب الامر، تجعل من المستبعد ان يلجأ النوبيون الى السلاح.

ولكل ما سبق، نرى بان السودان يتعرض لسلسلة من المعارك الصغيرة، تنفجر من جديد في منطقة مع انحسارها في منطقة أخرى. ومع ذلك، فان المفاوضات حول المناطق الثلاث توفر مناسبة لخلق فرصة هامة للسلام بمعالجة المواضيع الأساسية لكيفية إدارة الحكومة المركزية للأمور في البلد. وكذلك تتسبب المفاوضات في توتر لدى المجتمع الدولي المتلهف لتقليص فرص النزاع وتحقيق اتفاق دائم بين جيش التحرير الشعبي والحكومة، والذي (المجتمع الدولي) يدرك بان قضايا الشمولية والحكم جوهرية لافلات السودان من دوامة العنف والصراع.

وكما لاحظ أحد المراقبين، فان "المناطق الثلاث يمكن ان تستغل لاقامة برامج ولايات قوية. ان السلام عامل لجلب اللامركزية في الحكم في جبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي ويمكن ان يساعد في ايقاف الحرب. ويمكن كذلك ان يساعد الوضع في اجزاء اخرى من الشمال". ورأى دبلوماسي غربي كبير نفس الكاس كنصف فارغ، وليس كنصف ممتليء:"ان للمناطق الثلاث القدرة على إخراج الحل النهائي عن مساره بسبب الأسلوب المتضارب وغير المنطقي الذي يجب ان تعالج بهز هناك افتراض بان تتوصل الأطراف إلى تسوية حول مواقفها بعد الوصول إلى اتفاق، ولكن هذا ربما لن يحدث".

ان المناطق الثلاث تشكل تحديا لكل من جيش التحرير الشعبي والحكومة. وقد اتخذ الجيش الشعبي موقفا ثابتا طيلة هذه العملية في ان حركات التمرد كل لا يتجزأ وان سكان هذه المناطق يجب منحهم حق تقرير المصير. ويرى جيش التحرير الشعبي بان هذا يعني وجوب ان يكون لكل واحدة من المناطق الثلاث الخيار في الانضمام إلى الشمال او الجنوب خلال الفترة المؤقتة، قبل اجراء الاستفتاء الواسع حول تقرير المصير في جنوب السودان. ولكن سكان الجنوب السوداني ليسوا على رأي واحد حول هذه القضية.

لان الكثيرين منهم يخشون من ان يعرض المناطق الثلاث مكاسبهم للخطر في عملية "ايغاد". ويرى عضو في جيش التحرير الشعبي من جبال النوبة بان "الرؤية الأصلية لجيش التحرير الشعبي للوحدة مبنية على اعادة بناء البلد. ولكن بروتوكول مشاكوس يخون هذا المفهوم. فاذا نجحت الحكومة في عزل جيش التحرير الشعبي عن المناطق الثلاث، فان كلانا سوف ينتهي به المطاف خاسرا". وعبر عن راي مشابه قائد بهذا الجيش من النيل الأزرق الجنوبي: "ان المناطق الثلاث مربوطة بالحبل السري مع جيش التحرير الشعبي، واذا قطعته قبل الاوان، فانها ستخسر الطفل والام معا". ولذلك فان قيادة جيش التحرير الشعبي تتمسك برأيها الثابت حتى الآن في ان مصالحها مترابطة بشكل جوهري مع مصالح المناطق الثلاث.

وكما وثقنا في التقارير السابقة لجماعة الازمة الدولية، اعترفت الحكومة السودانية بان الظروف الخاصة في هذه المناطق بحاجة الى اصلاح ولكنها تخشى من انها اذا خضعت لمطالب جيش التحرير الشعبي في المناطق الثلاث، فان مناطق اخرى مثل دارفور والسودان الشرقي سوف تستغل ذلك كأساس لمطالبها الخاصة في حق تقرير المصير. وتظل توجد مخاوف من ان أي تسوية لقضية المناطق الثلاث سوف تؤدي بسرعة الى جعل مناطق اخرى تطالب بمعاملة مشابهة وتشكل دافعا على الثورة. وتعتبر الحكومة بان لها مصلحة ثابتة في قصر المباحثات على مستوى الشمال والجنوب، مع الإصرار على ان تفويض "ايغاد" محصور في الصراع في الجنوب. كما ان الحكومة تظل مقتنعة بان الجنوب سيختار الاستقلال كجزء من استفتاء، وبذلك تكون فكرة إعطاء أي منطقة إضافية للجنوب اقل جاذبية-وبخاصة لان المناطق الثلاث غنية الموارد.
ب-وضع مباحثات "المناطق الثلاث":

بدأت المفاوضات الرسمية حول وضع مناطق آبيه وجبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي، المتنازع عليها، في 4 آذار 2003، بعد تأخير دام نحو ثلاثة اشهر، بدأت خارج الإطار الرسمي لمنظمة "ايغاد"، تحت رئاسة الجنرال لازارو سمبيو، برعاية كينيا، وذلك بهدف التأكيد على التمييز بين هذه المباحثات والمباحثات الجارية تحت رعاية "ايغاد"، وأصرت حكومة السودان على استبعاد البلدان المشاركة في ايغاد، وهي اوغندة واثيوبيا وارتريا (وسمح بحضور مراقبين دوليين).

وتتبنى الحكومة السودانية إستراتيجية التقليل من أهمية مطالب المناطق الثلاث والإصرار على انه يمكن معالجة مزاعم كل منطقة على مستوى محلي. وادعت الحكومة باستمرار بان هذه المناطق تقع خارج نطاق تفويض "ايغاد". وتصر الحكومة على ان التوترات في هذه المناطق ناشئة الى حد كبير عن قصور التنمية بسبب الحرب وان هذه المشكلات يمكن تلطيفها بالاجراءات الادارية العادية للحكومة عند حلول السلام. وتقاوم الحكومة الدعوة إلى تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة في هذه المناطق، مدعية بان بروتوكول مشاكوس يدعو فقط الى اقتراع حول الحكم الذاتي في الجنوب بينما يقضي ببقاء الشريعة كمصدر للتشريع في كامل أنحاء الشمال. غير ان إصرار الحكومة على عقد المباحثات حول المناطق الثلاث خارج منتدى "ايغاد" يتناقص مع ادعائها بان قضايا المناطق الثلاثة يجب حلها حسب شروط بروتوكول مشاكوس الذي جرى التفاوض حوله تحت رعاية "ايغاد".
كما ان جيش التحرير الشعبي يخضع لالتزام ظاهري، من حيث انه إذا عولجت قضية المناطق الثلاث من خلال "ايغاد"، فانه ربما يواجه أوقاتا عصيبة في التوكيد على ضرورة السماح لها بالاستفتاء حول الانضمام الى الشمال او الجنوب قبل اجراء استفتاء أوسع حول تقرير مصير الجنوب. ورغم استمرار الحكومة وجيش التحرير الشعبي في المماحكة والمساومة حول اذا ما كانت المناطق الثلاث ستوضع في "سلة" القضايا التي تجري معالجتها من خلال "ايغاد"، يبدو من المرجح بأنه سيتواصل وجود هيكل تفاوضي متواز.

ان قضية "آبيه" قضية قائمة منذ وقت طويل، تعود إلى زمن الاستعمار البريطاني، وهناك تأييد قوي عند الكثير من الجنوبيين، وبخاصة عند قبائل الدنكا، بعودتها الى الجنوب. والجنوبيون بشكل عام منقسمون حيال دعمهم لجبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي. ولكن مؤتمرا لعموم النوبة عقد في كانون الاول 2002 ومؤتمرا استشاريا لجيش التحرير الشعبي عقد في النيل الأزرق الجنوبي في ذلك الشهر، وتوصل كلا المؤتمرين الى اجماع بان يمثل ذلك الجيش جماعات هاتين المنطقتين في عملية السلام. ويبدو ان وجود جون قرنق، زعيم الجيش الشعبي، في مؤتمر عموم النوبة كأنما يوحي بان تلك القضايا لن يهادن ذلك الجيش عليها، وبخاصة الدعوة لحق تقرير المصير وفصل الدين عن الدولة. وتكررت تلك الدعوات خلال زيارة قرنق للنيل الأزرق الجنوبي، وخلال الميثاق الإقليمي 5-7 أيار 2003، ومرة أخرى في 13 أيار.

منذ دخول الطرفين المفاوضات بمواقف متعارضة حول تقرير المصير، والدولة والدين، سعى الوسطاء لنقل المفاوضات نحو المشكلات التي غذت في الاصل الدعوة لتقرير المصير. وقد قضوا تسعى ايام من الخمسة عشر يوما من المفاوضات في اذار في محاولة لوضع جدول الاعمال. وفي البداية أبدى جيش التحرير الشعبي بعض المرونة، ووافق على اجراء المفاوضات حول المناطق الثلاث في ثلاث لجان فرعية يقود كل واحدة شخص من تلك المنطقة.

ونحيت الخلافات جانبا حول جدول الاعمال عندما اتفقت الاطراف على منهجية جديدة اقترحها الوسطاء. ودعت كلا من جيش التحرير الشعبي والحكومة الى البدء ببيان "الاسباب الجذرية للصراع التي شعروا بانها تلائم كل لجنة فرعية للاقاليم. ثم وضعت هذه الاسباب في مجموعات تحت عناوين مشتركة (مثلا، الاقتصادية او السياسية او الثقافية) وكانت الخطوة التالية ان تقترح الاطراف الحلول الممكنة لها، ثم التوجه الى مناقشتها والاتفاق على معايير مشتركة لتقويمها. ولكن تقرر البدء في مناقشة الحلول بعد وضع المعايير.

ولسوء الحظ، لم تحرز أي من اللجان الفرعية تقدما كبيرا. ولم تلتئم لجنة "آبيه" بشكل رسمي بسبب الخلافات حول التمثيل ولم تتحرك لجنة جبال النوبة لما هو ابعد من جدولة الاسباب الجذرية، بينما وصلت لجنة النيل الأزرق الجنوبي الى وضع جدول بالحلول الممكنة. ومع ذلك فقد افسحت الجلسات المجال للتعبير عن المظالم وشجعت الاطراف على التفكير بما هو ابعد من مواقفها الخطابية والكلام المنمق.

كان الفشل في تحقيق تقدم هام في أي من اللجان الفرعية، نتيجة لعوامل متعددة، يدل على ما يبدو على عدم الرغبة لدى الطرفين في الدخول في مفاوضات جادة في المرحلة الحالية الحاسمة. وتمسك كلا الطرفين بمواقفهما في جميع القضايا الرئيسة وكانا قادرين على اظهار الالتزام الثابت لانصارهما. ولم يكن المناخ الدولي كذلك مشجعا على الحركة السريعة. وبشكل خاص كان كلا الجانبين يريد معرفة نتيجة الازمة العراقية والقرار الذي تتخذه الادارة الامريكية بموجب "قانون سلام السودان"، حول اذا ما كانت الحكومة السودانية تعمل بنية طيبة، وذلك قبل تقديمها لاي تنازلات هامة.

وكذلك تحركت المباحثات ببطء، وذلك جزئيا لان تلك كانت هي المرة الاولى التي يناقش فيها الاطراف رسميا "المناطق الثلاث"، واثبتت القضايا التي اثارها جيش التحرير الشعبي صعوبة معالجتها. وكما لاحظنا، فان الحكومة تخشى من تسجيل أي سابقة من "الاسترضاء" يمكن ان تستغلها مناطق اخرى في الشمال. يقول احد اعضاء الوفد الحكومي: "لا نستطيع اجراء مناقشة جادة للمناطق الثلاث، والا فسوف نقع في المياه العميقة". واخيرا، كان التقدم بطيئا بسبب المخزون الهائل من سوء الثقة بين الطرفين. فقد قام كل طرف بخطوات تركت الطرف الاخر مقتنعا بانهما لم يكونا يفاوضان بنية طيبة، فجيش التحرير الشعبي فشل في اقناع الحكومة بانه مهتم باخلاص بالوحدة بعد الفترة الانتقالية لاتفاق يتوصلان اليه، وفشلت الحكومة في اقناع ذلك الجيش بانها راغبة في المشاركة الكاملة للسلطة مع الجنوبيين.


تطور اوضاع المناطق الثلاث:
يبدو ان ايجاد حلول للمناطق الثلاث امر حيوي نظرا للعنف المتصاعد في دارفور والحاجة لتطوير نماذج لحل النزاع في المناطق المهمشة في انحاء البلد بدون تبديد للتقدم الذي تم انجازه حول الصراع في الجنوب. وبينما يوجد لكل طرف تاريخه الفريد، كثيرا ما يقال ان جبال النوبة والنيل الأزرق الجنوبي يمكن معالجة مشاكلهما من خلال صيغة مشتركة بينما يجب معاملة منطقة "آبيه" على نحو منفصل. والمنطقتان الاوليان مترابطتان نظرا لمواقفهما المتوافقة ازاء الشمال، ومن المرجح ان تخضعا لنفس الشروط في أي اتفاق قادم.

أ-آبيه: ان التاريخ الطويل لمنطقة "آبيه" يجعلها احدى القضايا الاكثر اثارة للخلاف في المفاوضات الحالية ويساعد على ايضاح كيف ان ذلك الذي كان مرة حربا بين الشمال والجنوب قد انتشر الى المناطق المستقرة تقليديا وقوض التوازنات المحلية للقوة بين الجماعات العرقية المتجاورة. يعيش في آبيه قبائل نغوك دنكا المتصلة نسبا بجماعة الدنكا في الجنوب، ولكنها تاريخيا تعيش في سلام مع جيرانها في الشمال الغربي، قبائل "المصريا" العربية. وكانت العلاقات الشخصية الوثيقة بين زعماء هذه الجماعات عاملا رئيسيا في المحافظة على السلام. وفي محاولة لترسيخ التحالف واقامته على أسس مؤسساتية، قام كول اروب ودنغ ماجوك، زعيما نغوك دنكا طيلة النصف الاول من القرن العشرين، بالاتفاق قبيل الاستقلال على البقاء في منطقة كردفان التابعة اداريا للشمال بدلا من الانضمام لاقاربهم الدنكا في الجنوب. وشعر الزعيمان بانه اذا ألحقت "آبيه" بالجنوب فان العلاقات بين نغوك دنكا ومصريا سوف تذوب وان المصريا الافضل تسلحا ربما تندفع للاستيلاء على اراضي الدنكا بحثا عن مواقع الماء.

ومناطق الكلأ لماشيتهم. واجمالا، يمكن القول ان نغوك دنكا في آبيه عملوا كجسر بين الشمال والجنوب.وكانت هذه العلاقة تبادلية من حيث المصلحة، وافاد كلا الطرفين من انتعاش التجارة في الحبوب والمواشي والسلع الاخرى. ويساعد هذا الاتكال المتبادل على تثبيت سلام دائم مع اندلاع اول حرب اهلية حولهما. ولكن حدث عام 1965 ان انجذبت نغوك في الصراع الوطني عندما انضمت للجناح العسكري من حركة تحرير السودان الجنوبي. وقامت الحكومة السودانية، مستخدمة استراتيجية خاصة بها، بحشد ميليشيات المصريا لمهاجمة الدنكا. وصعد فيما بعد الرئيس النميري وصادق المهدي هذه الاستراتيجية مع بداية الحرب الاهلية الثانية. وفي عهد الحكومة الحالية، دمجت ميليشيات المصريا والجماعات الاخرى المشابهة رسميا داخل "قوات الدفاع الشعبية" عام 1989 للعمل كاحتياطي للجيش الوطني.

حاول اتفاق اديس ابابا عام 1972، الذي وضع نهاية للحرب الاهلية الاولى، تسوية النزاع حول الوضع الاداري لآبيه. واكد كل من حركة تحرير السودان النوبي والحكومة على حقوقهما في "آبيه". وللتغلب على المأزق، وضع بند في اتفاق السلام يمنح السكان حق الاختيار بين الشمال والجنوب من خلال استفتاء. ولكن الاستفتاء لم يحدث مطلقا، وفي عام 1982 قام الرئيس النميري من جانب واحد بالغاء الاتفاق مما هيأ المسرح لاستئناف الحرب في الجنوب.

1-عمل الاضطهاد المتصاعد في عهد حكومة النميري على تطرف شباب نغوك دنكا في آبيه ودفعهم الى التمرد عام 1981، ودخلوا في وحدات عسكرية اصبحت فيما بعد احدى الفصائل التي تشكل منها جيش التحرير الشعبي للسودان. وقامت النغوك دنكا بدور مركزي في الحرب الاهلية الثانية. وبالتالي اعتمدت الحكومة بشكل اكبر على رعاية ميليشيات المصريا والبجارة لمقاومة ثوار الدنكا. وكان توجه الحكومة نحو حرب بالتفويض عاملا على زيادة تمحور العلاقات بين نغوك والمصريا مما دفع الكثيرين في آبيه للتحالف الوثيق مع اقاربهم في بحر الغزال بينما زاد سوء ثقتهم بالخرطوم وحكومة ولاية كردفان.

2-ادت الحرب الاهلية الثانية الى ابعاد اعداد كبيرة من نغوك عن موطنهم وأعادت الحكومة توزيع اراضيهم على قبائل المصريا والجماعات الاخرى. وفي اوج الحرب الاهلية بين عامي 1985و1987، قامت ميليشيات المراحيل من المصريا بحرق جميع قرى دنكا التابعة لآبيه، ونهبت المواشي واختطفت نساء واطفال الدنكا كغنائم حرب. واضطرت الدنكا الى الهرب لمدينة آبيه وفي عمق الولايات الشمالية. وعبر صغار الرعاة نهر كير الى منطقة تواع التي يسيطر عليها جيش التحرير الشعبي، بما تبقى من قطعان الماشية. وتسارع الترحيل القسري من جانب الحكومة مع اكتشاف النفط في المنطقة. ويقول احد التقارير ان جميع النغوك، تقريبا، الذين كانوا يسكنون منطقة "آبيه" قبل الحرب اضطروا الى النزوح.

وليس من المفاجئ ان يتبنى كل من الخرطوم وجيش التحرير الشعبي استراتيجيات متعارضة في نزاع "آبيه" فالحكومة تصر على ان آبيه مسالة داخلية ومحلية لا تحتاج الى تفاوض مع جيش التحرير الشعبي. وتواصل الحكومة رفض أي استفتاء، رغم اتفاق اديس ابابا عام 1972 ودافع عضو في الوفد الحكومي عن هذا الموقف مدعيا بان الظروف قد تغيرت الى حد كبير:"في اتفاق اديس ابابا، كان يفترض ان تختار قبائل "آبيه" بين ولايتين سودانيتين، وكان للجنوب فقط الحكم الذاتي، بما في ذلك خيار الانفصال. ولا نستطيع المخاطرة بترك جزء من الشمال الانضمام الى الجنوب".

وتصر الحكومة كذلك على ان "آبيه" تشمل جميع المصريا، لان نغوك دنكا واحدة من خمس جماعات في "مجلس حكم مصريا" ويشير المسؤولون الحكوميون كذلك الى ان عرب المصريا اصبحوا جزءا رئيسيا من حز بالمؤتمر الوطني الحاكم، وسيكون لمنح نغوك دنكا آبيه تكاليف سياسية عالية في أي انتخابات تجري اثناء فترة مؤقتة محتملة.

ومقابل ذلك، يصر جيش التحرير الشعبي على الشرط الذي وضع في اتفاق اديس ابابا الذي يمنح سكان "آبيه"-المعروفين بالتسع جماعات الفرعية لنغوك دنكا في آبيه-الحق في استفتاء على اذا ما ارادوا الانضمام للجنوب. ويدعون بان نغوك دنكا اختاروا طواعية البقاء في الشمال قبل الاستقلال وذلك للبقاء كوصلة بين الشمال والجنوب. ولكن، وبسبب الظروف شديدة التغير، فان العقد الاجتماعي الذي يربط نغوك دنكا والمصريا لم يعد قانونيا. ونظريا، يفترض للاستفتاء حول مستقبل آبيه ان يسبق الاستفتاء الرئيسي للجنوب حول الانفصال الطوعي.

وقد بذلت الجهود مؤخرا لمواجهة البعد المحلي للصراع وبينما نجد ان الصلات الشخصية الوثيقة التي ربطت الجماعتين قد اهترأت مع سنوات العنف، قامت الجماعات المحلية بمبادرات تصالحية بدعم من السفارة الهولندية، وبرنامج التنمية الدولي والاتحاد الاوروبي . وفي 31 كانون الثاني 2002، وقع زعماء نغوك دنكا ومصريا اعلان آبيه، تعهدوا فيه على "التعايش والعمل لاعادة العلاقة التاريخية التي وثناها عن ابائنا.ونتعهد بالعمل معا لتطوير .