A+ A-
ملاحظات حول منظمات المجتمع المدني وقضايا حقوق الانسان

2003-05-25

منذ اكثر من عقد من الزمن تقريبا طفى على سطح الحياة العربية، السياسية والفكرية والاجتماعية، مصطلح "المجتمع المدني" و " مؤسسات المجتمع المدني"، ويمكن رصد ظهور هذا المصطلح في اعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي والنظام الاشتراكي في بلدان اوروبا الشرقية، وفي اعقاب ازدياد وتيرة الاستبداد العربي. وقد حمل مفهوم المجتمع المدني ومنظمات المجتمع المدني مع مرور السنوات مهمات اكثر مما يحتمل، اذ باتت الامال معلقة عليها لتحقيق التغيير الاجتماعي وربما السياسي ايضا، ناهيك عن التذكير الدائم بواجباتها في حماية حقوق الانسان والاهتمام بقضاياها.ومثل العديد من المفاهيم والمصطلحات التي دخلت الى حياتنا العربية، فاننا نادرا "ما اخضعناها للتحميص والدراسة والتدقيق. وبتنا نستعملها في كل مرة تزيد التحدث عن الاحزاب والنقابات ومنظمات حقوق الانسان وسائر الجمعيات والهيئات غير الحكومية.

واليوم، بعد مضي اكثر من عقد على اعتيادنا استخدام هذا التعبير، وبالرغم من صدور تقرير التنمية الابشرية في البلدان العربية قبل عامين والحقائق التي كشف عنها، لا يبدو ان احدا "يطرح اشكاليات المجتمع المدني ومؤسساته، ولا نرى محاولات لدراسة ظاهرة تعمق العشائرية والاقليمية والطائفية في المجحتمعات العربية بالرغم من وجود "مؤسسات المجتمع المدني"، ولا محاولات لتفسير التراجع في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالرغم من هذا الحشد الهائل من تلك المؤسسات؟

هل المعضلة في مغهوم المجتمع المدني نفسه؟ ام في مؤسساته التي قد لا تنطبق عليها وصفة "المدنية"؟ ام في فهمنا لهذا المصطلح؟

نعتقد انه قد ان الاوان للتوقف امام الاشكاليات التي يطرحها مفهوم المجتمع المدني ودراسة علاقته بحقوق الانسانن وبدون ذلك سنقلد مثال النعامة التي تستمر في دفن راسها في التراب ظنا منها ان ذلك يحميها من العواصف والرياح التي تهب عهليا من كل جانب!

ربما نحتاج الى تفحص نشاة المجتمع المدني في مجتمعات اخرى متقدمة حتى نتبين شروط تكون هذا المجتمع وخصائصه ومدى اتباطه بقضايا حقوق الانسان والديمقراطية. لقد شهدت تلك المجتمعات، وبالذات الاوروبية، اندماجا او /و تداخلا بين السلطتين الدنيوية/السياسية مع الدينية. ونعلم بان "نظريات الحق الالهي" للملوك قد سادت فترة من الزمن في القرون الوسطى، بل وبعد ذلك ببضعة قرون . ومع تطور العلم والفكر العلمي والعقلانية، اصبح هناك ميلا اكثر لتقييد سلطات الملوك، ثم ارتبط تكريس تلكل السلطات بقدرة الملك على حماية الحق في الملكية والحق في الحرية للمواطنين. فهذه هي الحقوق الطبيعية التي لا يجوز تقييدها الا برضى وموافقة المواطنين عبر ممثليهم. وعندما برزت الليبرالية، من خلال مفكريها (هوبز، لوك، مونتيسكيو، روسو...) كنتيجة لنمو الطبقة المتوسطة، الساخطة على الطبقة الارستقراطية، اخذت تعمل على تعزيز حماية تلك الحقوق وتدعو الى قيام توازن بين سلطة الدولة وسلطة المواطنين من خلال تشجيع قيام منظمات للتضامن الاجتماعي وتاكيد التعبير الجماعي عن الحقوق والمصالح. ان جوهر الفلسفة الليبرالية يتلخص في انه بمقدور للناس ان يتجاوزا اوضاعهم بجهودهم الخاصة ولذلك فان التحرر من كافة ضروب الطغيان السياسي والفكري والديني والاقتصادي هو شرط اساس للانطلاق نحو تطوير الذات على مختلف الصعد. ولم يكن الليبراليون وحدهم من سعوا للاهتمام بالمجتمع المدني وبلورة مفهومه، الماركسيون بدورهم، وبخاثة المفكر والمناضل الايطالي الماركسي نطونيو غرامشي، اولو اهتماما خاصا بمفهوم المجتمع المدني وبعلاقته بالدولة وراوا فيه ميدانا فسيحا لخوض النضال الايديولوجي والسياسي والعائي من اجل بناء هيمنة طبقة في مواجهة الطبقة الحاكمة في السلطة.

باختصار، المجتمع المدني قضاء مفتوح للتنافس وللصراع ولتفاعل العلاقات الاجتماعية والسياسية والمهنية والفكرية من اجل بناء علاقة الفرد بالدولة وتحقيق المواطنة على اساس تسودها العقلانية والتعددية ومبادئ حقوق الانسان والمفاهيم الحضارية. تقوم مؤسسات المجتمع المدني على اساس الاختيار الطوعي الحر لخدمة اهداف اجتماعية واقتصادية او مهنية او سياسية او ثقافية. وهي لا يمكن ان تنمو وان تتطور وان تحقق انجازات هامة نوعيا لجماعاتها او لمجتمعها ككل اذا لم تلتزم واذا لم تعمل وفقا للاسس التالية:

1-احترام الحرية الفردية واحترام حريات الاخرين وتوفير المساواة بين المواطنين.
2-احترام الراي الاخر والحق في الاختلاف وتوفير كافة مستلزمات التعبير عنهما بحرية وبدون اي نوع من القيود او المضايقات واحترام راي الاقلية، وتشجيع قيام النقاش الحر.
3-التعليم بضورة قيام التعددية وتناوب تداول السلطة والقبول بما تقرره الاغلبية.
4-التسليم بحرية المراة ومساواتها مع الرجل والنظر اليها كعضو فاعل كامل الحقوق في المجتمع.
5-القبول بالعلمانية والتي لا تعني ابدا الالحاد، كما يحاول البعض ان يصورها لاهداف مغرضة او عن ديماغوجية.
6-اعتماد مبدا التسامح ومبدا القبول بالتعايش مع الاخر والاقرار بشرعيته الكاملة.في ضوء هذه المجموعة من المبادئ ، وفي ضوء ما نراه في المنظمات القائمة في مجتمعنا، فاننا ندلي براينا من خلال طرح مجموعة من التساؤلات:

1-هل يمكن قيام مجتمع مدني في ظل استمرار هيمنة مفهوم العصبية القبلية او العشائرية او الاقليمية او الطائفية او الجهورية؟
2-هل يمكن قيام مجتمع مدني في ظل استمرار مفاهيم الوصاية الابوية على المواطنين وفرض القيود على حرياتهم العامة، وبخاصة على الاراء المعارضة.
3-هل يمكن قيام مجتمع مدني في ظل استمرار وجود وقنانين وتشريعات وانظمة وعادات ومفاهيم تحد من حقوق الانسان وحرياته العامة؟
4-هل يمكن قيام مجتمع مدني يحرم ويجرم توجيه النقد لمفاهيم فلسفية او سياسية او اقتصادية او دينية او تاريخية.
5-هل يمكن قيام مجتمع مدني في ظل انخفاض منسوب التسامح في المجتمع وعدم تقبله لراي نقدي مختلف عما هو سائد او مالوف؟
6-هل يمكن قيام مجتمع مدني في زل وجود مناهج مدرسية تعلم مفاهيم مشوهة او متناقضة مع بعض حقوق الانسان؟

لا نريد ان نظلم المنظمات الاهلية او غير الحكومية الاردنية واتي –كما نعتقد- تعتبر هي مؤسسات المجتمع المدني من وجهة نظر منظمي هذه الندوة . فالنقابات المهنية تمارس الديمقراطية وربما التعددية بدرجة نسبية، وهي تحقق انجازات لمنتسبيها على الاصعدة المهنية والاجتماعية،وهي كانت في فترة من الفرات (1989-1993) رائدة في الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الانسان، انطلاقا من مفهوم ضبابي عام، عندما كانت لجنة الحريات العامة المنبثقة عن مجلس النقابات المهنية نشيطة، ولكنها اصبحت ضعيفة النشاط او غائبة كليا عن هذا المجال منذ سنوات طويلة.

اما النقابات العمالية فهي تعاني من ضعف شديد على مستوى ممارسة الديمقراطيو والتعددية داخل صفوفها ، على سبيل المثال، تجددت الهيئات الادارية ل 14 نقابة (من مجموع 17) بالتزكية قبل سنتين، وهو ما يعكس غياب البرامج والكتل والتنافس والحيوية الانتاخية. وتبدي بعض النقابات العمالية اهتماما بالحقوق النقابية العمالية فتنظم دورات او محاضرات للتوعية بهذه الحقوق، كما انها تشكل جزء من الثقافة العمالية التي ينظم الاتحاد العام لنقابات العمل دورات من اجلها. اما على صعيد المشكلات الحادة التي يواجهها المجتمع، وبخاصة الفقر ولالبطالة وتدهور المستو المعيشي للعمال، فان دور ونشاط الاتحاد العام لنقابات العمال لا يكاد يميز عن ذلك الذي تقوم به اية مؤسسة اخرى من مؤسسات المجتمع المدني.

يمكن القول بان المنظمات الاهلية الاخرى (نمنظمات حقوق الانسان، اتحادات المراة، منظمات البيئة) تمارس ادوارها في مجال الدفاع عن حقوق الانسان بالحد الادنى الضروري الذي لا يستطيع ان يؤثر الا بشكل محدود جدل في مجرى حياة المجتمع والمواطنين، في تقريرها الاخير عن وضع حقوق الانسانه في الاردن خلال العام 2002، اوردت المنظمة العربية لحقوق الانسان فرع الاردن بان نسبة الرد على الشكاوى التي ارسلتها الى الحكومة قد انخفضت بنسبة كبيرة عما كانت عليها في السنوات السابقة. اما تقرير الجمعية الاردنية لحقوق الانسان حول حرية الصحافة والتعبير،والذي صدر في الثالث من هذا الشهر بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، فانه يورد وقائع كثيرة عن انتهاكات وقعت ضد حرية الصحافة والتعبير والحق في تداول المعلومات.

تستطيع هذه المنظمات، ومعها الاحزاب السياسية، ان تصدر البيانات وان ترسل المذكرات الى السطات العمومية للمطالبة بتغيير او تعديل هذا القانون او ذاك او للاحتجاج على كثرة القوانين المؤقتة او للمطالبة باطلاق سراح عشرات المعتقلين السياسيين، لكن تاثيرها يبقى معدوما وفي افضل الاحوال محدودا لسببين.

السبب الاول: عدم وجود مرجعية موحدة لقضايا حقوق الانسان عند المنظمات الاهلية من جهة وعند السلطات الحكومية من جهة اخرى. الطرف الاول ينطلق من مفهوم شامل للحريات وللحقوق يتطابق او يتداخل مع المفهوم الوارد في الدستور والميثاق والاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان. اما الطرف الثاني فهوينطلق شكليا من القوانين حتى لو تعارضت روحا مع الدستور اما الرق الثاني فهو ينطلق شكليا من القوانين حتى لو تعارضت روحا مع الدستور في تبرير الممارسات المناهضة للحريات والحقوق، اما فعليا فهو ينطبق مفهومه الخاص القائم على اعتبار المسائل الامنية هي اصل وجذر كل السياسات والامن هنا مفهومه شامل ويغطي اي نشاط يمكن ان يشكل تهديدا للنظام وللاستقراره سواء اكان هذا النشاط سياسيا او نقابيا ام فكريا او حتى حقوقيا ناهيك عن التجسساو العنف او اي عمل اخر يدخل فعلا في اطار مفهوم الامن.

السبب الثاني :هو واقع ونتيجة في ان واحد. ارتفاع وتيرة المطالب وتصعيدها من جانب المنظمات الاهلية يواجه باقصى درجات الصد والقمع، مما يدفعها الى التراجع. وبدلا من فهم طبيعة العلاقة مع الدولة (التي تقر شكليا بالحريات والحقوق في معظم الاحيان) فان المنظمات الاهلية تخفف من لجوئها الى التحركات الضاغطة فعليا على السلطات العومية، مما يفقدها الكثير من التاثير والفعالية، ويصبح دورها مهمشا، وهو ما تعني منه حاليا.حتى تصبح قضايا حقوق الانسان جزء فاعل من اهتمامات وعمل المنظمات الاهلية، فان تغيرا حقيقيا يحتاجه المجتمع والدولة في الاردن على صعيد كل منهما:

على صعيد الدولة:
هناك حاجة ماسة لكي تبنى سياسات الحكومات ، وسياسات الدولة بعامة تجاهالمواطنين والمجتمع على اساس ممارسة الحرية والديمقراطة فعليا وليس شكليا ان الالتزام بالديمقراطية شكلا، وتطبيق سياسة قوامها ان الامن هو اساس التعامل مع المواطنين والمجتمع، كما هو واقع حاليا ومنذ سنوات طويلة، يؤدي الى الواقع الذي نعيشه ونعاني منه كمواطنين وكمنظمات اهلية. وفي حال مثل هذه، من العبث اصلا، ان تبحث عن دور تلك المنظمات في مجال قضايا حقوق الانسان.
على صعيد المجتمع:
هناتك حاجة ماسة ايضا لكي تغير المنظمات الاهلية بعامة الكثيرة من رؤاها وانماط عملها واولوياتها لكي تصبح قضايا حقوق الانسان جزء من خطط عملها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. تشمل تلك الرؤى والاولويات مجالات سبق وان تطرقنا اليها مثل القبول بالاخر والتعايش معه واحترام الحق في الاختلاف وتشجع الروح النقدية، كذلك العمل على اشاعة قيم التسامح والتمسك بالحرية وبممارسة الاساليب الديمقراطية وغيرها.بقي ان نسجل ثلاث ملاحظات اساسية حتى لا يفهم ما نقوله هنا على وجهة غير الصحيح.

الملاحظة الاولى : ان لكل شعب مساره الخاص لكي يبني مجتمعه المدني الخاص به والمنسجم مع تراثه وتاريخه. وفيما يتعلق بالمجتمع العربي الاسلامي فقد عرف انماطا من المجتمع المجني التي لا تتطابق بالتاكيد من المفهوم الحديث المعروف، لكنها تتضمن عددا من عناصره. يكفي اعادة قراءة وثيقةت المدينة او الصحيفة التي تعود الى عام 617 والتي تنطوي على تنظيم واضح للعلاقات بين مكونات المجتمع، ويكفي ان نتذكر تراث المعتزلة والفارابي وابن الهيثم وابن رشد وابن خلدون وغيرهم لكي ندرك اهمية تلك العناصر والاستفادة منها.

الملاحظة الثانية: ان الليبرالية بمفهومها الكلاسيكي او الليبرالية الجديدة قد اثبتتا فشلهما الذريع فهي الان قد انقلبت على مفهومها التي انطلقت نمنها، ويكفي ان نلقي نظرة على ما يجري في عالم اليوم لكي نلاحظ بان اصحاب المذهب الليبرالي لم يعودوا يسكتون فقط على الظلم والاضطهاد الاجتماعي، بل اصبحوا يغضون الطرف عن الانتهاكات الواضحة-ونكاد نقول الفاضحة ايضا! بحق الحريات العامة كحرية الراي والتعبير والاعتقاد.الملاحظة الثالثة: ان بناء المجتمع المدني يجب ان لا يتم على حساب الدولة، وبناء الدولة يجب ان لا يتم على حساب المجتمع المدني. ان حالة من التوازن يجب الحرص عليها باستمرار، لان اقصاء الدولة يؤدي –كما شاهدنا-الى الحروب الاهلية باوجهها الطائفية والقبلية. انا اقصاء المجتمع المدني او تهميشه فانه يؤدي الى الاستبداد مع ما يجره من ظلم وفساد وتعسف.

وفي الختام ، منالضروري ان نعي بان مدخلات عديدة تساهم في بناء المجتمع المدني ومؤسساته مثل التعليم والقضاء والثقافة، وهو ما لا يتسع المجال لمناقشته في هذا المقام.

 
-ورقة قدمت " لمؤتمر النقابات ومؤسسات المجتمع المدني في الأردن "بتنظيم من مركز القدس للدراسات السياسية بتاريخ 24-25/ مايو 2003,الاردن -عمان.