A+ A-
على هامش مؤتمر عمان الثاني نحو خطاب إسلامي مدني ديمقراطي

المصدر: العصر

التاريخ: 2007-09-12

إن التشكيك بارتباط بعض الأنشطة الثقافية أو السياسية التي تجري في منطقتنا العربية بأجندات خارجية، غالباً ما يستدعي، عند بعض المثقفين العرب، حالة حساسية شديدة، فتحمر أنوفهم ويبدؤون بالعطس، ثم يستلون التهمة الجاهزة التي صارت سيفاً مسلطا على عقولنا، ألا وهي الاتهام بالعقلية التآمرية.

لأن هناك من يعتقد أن مجرد التفكير بتآمر الغرب على أمتنا، هو تفكير مرضيّ، إذ إننا لو نظرنا إلى الواقع لما وجدنا أي شيء يدل، و لو من بعيد، على تآمر هذا الغرب على أمتنا!! أليس كذلك؟

لكن بعض هذه الأنشطة الثقافية تحاصرنا بطريقة لا نجد معها مفراً أو مخرجاً من أن نستدعي - بعد الاعتذار الشديد من مثقفينا العرب - مفهوم التآمر والمؤامرة.

بالتعاون مع "مؤسسة كونراد إيديناور"، نظم "مركز القدس للدراسات" في عمان، وبمشاركة عدد كبير من الشخصيات الإسلامية والمثقفين والباحثين في الشأن الإسلامي، مؤتمره الثاني، تحت عنوان "نحو خطاب إسلامي مدني ديمقراطي".

وعلى مدار يومين 1-2/أيلول/ 2007م، ناقش المؤتمرون في العاصمة الأردنية عمان قضايا عديدة، منها "دسترة القيم السياسية الإسلامية"، وأن الأمة هي "مصدر السلطات". وأكدّ على قيم "المواطنة"، وتعزيز مشاركة المرأة في شؤون الدولة، وحقها في تولى منصب رئاسة الدولة، وطبعاً أكد على الديمقراطية والعلمانية، وأن الخلافة ليست نظاماً إسلامياً (وكأن هناك خلافةً لنختلف حولها) وغير ذلك من الكلام الذي يتكرر كثيراً قي المؤتمرات وعلى ألسنة المؤتمرين.

أقول بداية، لا أكتب هنا لأعترض على ما ورد في البيان الختامي للمؤتمر، ولا على النقاشات التي دارت في أروقته، وذلك لسببين: الأول، وهو أنه من حق من يشاء أن يقول ما يشاء، خاصة وأن الكلام قد تحول في حياتنا الثقافية إلى موجات صوتية، يصدرها كل من يكتشف فجأة أن لسانه يمتلك خاصية تحريك الهواء عبر موجات منتظمة، كانت تسمى فيما سلف "فكر وثقافة"، وأن هناك إذاعات ومحطات تلفزة ومواقع الكترونية، ستُخرج هذه الأصوات في حلة قشيبة بهية.

أما ثانياً: فلعلمي أن هذه المؤتمرات وأطنانا معها من الأوراق المطبوعة، التي خطتها أقلام، تلهث وراء "موضات الفكر الموسمية"، التي لا تلبث قيمتها أن تتهاوى سريعاً مع تخفيضات أسعار نهاية الموسم، لم ولن تغير شيئاً من الواقع، لأنها ببساطة لا تمت له بصلة.

إن ما استوقفني هنا هو مفهوم "خطاب الإسلام المدني الديمقراطي"، الذي عقد مؤتمرة الأول في عمان أيضاً في أيار 26م. وقد كان هذا الشعار هو شعار المؤتمر الثاني، مع إضافة قيّمة أوردها السيد عريب الرنتاوي، مدير "مركز القدس للدراسات"، في كلمته، حيث قال إن من أهداف المؤتمر "بناء شبكة من الإسلاميين المعتدلين".

لا يخفى على المتابعين للشأن الثقافي، أن كلتا الجملتين يحملان دلالات وإشارات واضحة بينة على علاقة هذا النشاط "الثقافي الإبداعي" بإحدى المؤسسات الأمريكية، التي تخدم توجهات قادة البيت الأبيض الأمريكي من صهاينة قدامى ومحافظين جدد.

لكننا نقول لمن ملّ تتبع "صرخات الموضة المتتالية في مواسم الثقافة العربية"، أن الإسلام المدني الديمقراطي هو عنوان الدراسة الشهيرة، التي أطلقتها مؤسسة "راند" قي عام 23م، هذه الدراسة التي جاءت في سياق الحرب التي يشنها المحافظون الجدد على العالم الإسلامي، و التي رفعت فيها "شارل بينارد"، زوجة السيد المعروف جيداً في أفغانستان والعراق "زلماي خليل زاد" للمحافظين الجدد في أمريكا، توصيات كثيرة عن كيفية محاربة الإسلام والمسلمين، ولمن يريد أن يعرف هذه التوصيات، فليقرأ البيانات الختامية لمؤتمري الأردن الأول والثاني.

ومؤسسة "راند" هذه من أكثر المؤسسات اليوم تأثيراً في صناعة السياسية الأمريكية الشرق أوسطية، وهي تعمل بتنسيق كامل مع وزارة الدفاع الأمريكي، وتشرف على ثلاث مراكز بحثية، تمولها وزارة الدفاع الأمريكية.

ولأن السيد عريب الرنتاوي، متابع لكل صغيرة وكبيرة، تصدر عن مؤسسة "راند"، فقد بادر سريعاً في كلمته في المؤتمر الثاني، ليؤكد على أن من أهم أهداف المؤتمرين "بناء شبكة من الإسلاميين المعتدلين".

أقول مرة ثانية للمَلولين قليلي الجَلََدَ في متابعة الحياة الثقافية، إن بناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين هو عنوان الدراسة الأخيرة لمؤسسة "راند" ذاتها التي لا زالت ترأسها "شارل بينارد"، والتي صدرت في آذار من عام 2007م.

وتؤكد هذه الدراسة على ضرورة أن تتحرى الولايات المتحدة والغرب عموماً صدق ما يدعيه بعض المسلمين، عن أنهم معتدلون، وهي تضع معايير وأسئلة اختبارية، من يجتازها يحصل على شهادة "راندية"، مفادها أنه "مسلم معتدل"، أما من يرسب، فله أن ينضم إلى واحد من هذه المؤتمرات الكثيرة، ليثقف نفسه ثم يعاود الكرة من جديد.

ويبدو أن المؤتمر الثاني في عمان قد حقق الكثير من النجاح، إذ إن هناك تطابقا كبيرا بين "تعليمات راند" وبيانه الختامي.

هل من حقنا أن نسأل: ما هو السبب في الإصرار على تتبع كل ما يصدر عن "راند كوربريشن"، ثم تقديمه لنا على أنه نتاج العقول النيرة لجهابذة المجددين الإسلاميين، ومن ثم صياغته في بيانات ختامية لمؤتمرات وندوات وأبحاث، يقوم عليها مفكرون وأعلام وباحثون مزعومون.

ولنفترض أن هؤلاء المجتمعين يرغبون في تحديث و تطوير الإسلام والسياسة الإسلامية، بما يناسب مقاييسهم العصرية، فهلا أظهروا قليلاً من الاحترام لأنفسهم، وأبدعوا قليلاً من عند أنفسهم، أم أنه لم يبق من جديد على هذا الصعيد، سوى ما تقوله السيدة شارل بينارد؟

طيب، إذا كان الأمر كذلك، فهلا أحلتمونا إلى النسخة الأصلية، وكفيتمونا ضحك شرّ البلية.